ما وراء الكراهية

من حق الإنسان أن يختلف مع غيره أو ينتقد آراءه وأفكاره، لكنه ليس من حقه أن يجعل الاختلاف ذريعة للكراهية والبغضاء. فإشاعة الكراهية بين الناس تمزِّق وَحدة مجتمعاتهم وتَنوُّعها، وتقتل فيهم الإحساس بهُويَّتهم الإنسانية الجامعة، والكراهية هي منبع كثير من الرذائل والقبائح، وهي تحمل الإنسان على الظلم والعدوان واستباحة الحقوق، دون أدنى شعور بالندم أو تأنيب الضمير.

تزداد مساحة الكراهية بين الناس مع زيادة مساحة الجهل بينهم. فكثيرًا ما يكره الإنسان شيئًا، ثم ما يلبث أن يدرك أن كراهيته لم تكن سوى نتيجة لانسياقه وراء جهله.

ندرك خطورة الكراهية وأثرها في حياتنا الإنسانية من خلال التأمل في الأسماء الكثيرة التي تتصل بمعنى الكراهية في اللغة العربية، وعلى وجه الخصوص منها: البغضاء، الضغينة، الحقد، الغِلّ، المقت.

تستنزف الكراهية القيمة الجوهرية للدين؛ فهي تتعارض مع الرحمة والسكينة والمحبة، كما توصد الكراهية أبواب الحوار والدعوة إلى الخير. فالإنسان كلما ازدادت محبته لغيره، ازداد حرصا على نصيحته، وبذَل جهده في سبيل إصلاحه.

يصبح الشفاء من الكراهية أكثر مشقة وصعوبة عندما تستحوذ على الناس وتصبح “مركز وجودهم”، وهنا يقع الإنسان دون أن يشعر في “تأليه الكراهية”. وليس بعيدًا عن ذلك ما نسميه “الكراهية العقائدية”، والتي هي أسوأ أنواع الكراهية؛ لأنها تجعل الإنسان يكره بحسب أسماء الأشخاص وهُويَّاتهم الدينية والعَقَدِيَّة، قبل النظر إلى سلوكهم وأعمالهم.

إن انتصار الكراهية على المحبة هو انتصار للشر والقبح على الخير والجمال، وقد اشتملت أعظم الوصايا الدينية على ضرورة تحقيق هذا الانتصار، كما في موعظة المسيح عليه السلام لأتباعه على الجبل: “أحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ” (لوقا 6 :27). وفي ذات المعنى جاء في القرآن {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فُصِّلَت: 34]. وفي كلام بوذا: “لا تزرعوا أبدًا البغض والحقد حتى ضد أعدائكم”.

عندما يملك الإنسان القدرة على مواجهة الكراهية وتحويلها إلى محبة ووئام، فهذا يعني أن الإيمان نجح في أن يكون حقيقة فاعلة تبعث في النفس القدرة على التغيير. فتحويل الكراهية والعداوة إلى إحسان ومحبة هو المعجزة الكبرى، التي تثبت أن نور الإيمان قد أشرق على قلب الإنسان. فعندما ينزع الإنسان من قلبه الغِلّ والبغضاء، فإنه يستشعر السعادة العظمى التي وعد الله بها أهل الجنة بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحِجْر: 47].

يحتاج الإنسان إلى إرادة قوية للسيطرة على انفعالاته وعواطفه؛ ولذلك كان “الجهاد الأكبر” في كثير من الأديان هو جهاد النفس، وكفُّها عن الانسياق وراء الكراهية والغضب وغيرهما من الانفعالات التي تُفقد الإنسان رشده وإنسانيته.

لكي يتغلب الإنسان على الكراهية؛ يجب أن يقوم أولًا بتوجيه كراهيته نحو السلوك أو الفعل القبيح، لا أن يكره الأشخاص الذين يقومون بذلك الفعل، فيكره الظلم والبغي والعدوان، وليس الناس الذين وقعوا في هذه الأفعال. وهنا يصبح التمييز بين الفعل القبيح والذات الإنسانية، مقدمة للتعرف إلى الأخطاء السلوكية التي تسبب البغضاء بين الناس، فيصلح الإنسان في نفسه ما يبغضه من غيره.

الأصل في علاقة الناس فيما بينهم هو المودة والوئام؛ أمَّا الكراهية أو البغضاء فهي كما الشر، ليست سوى خللٍ عارض على ذلك الأصل الذي خلق الله الناس عليه.

ومن أجمل ما جاء في تراثنا الإنساني من علاج البغضاء والانتصار عليها، ما قاله بوذا: “ليس بالبُغض يهدأ ويستكين البغض. البغض يهدأ ويستكين بإزالة البغض نفسه، هذا هو القانون الخالد”.

(*) عامر الحافي: أستاذ العقائد بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الاردنية، نائب مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية، باحث وأكاديمي أردني.

(*) المصدر “تعددية”، منشور وفق سماح النشر المحدود (مشاع إبداعي)، مستوى 3.

https://bit.ly/3PU4Y0q

عامر الحافي
عامر الحافي
المقالات: 1