تكتسب النقاشات المتزايدة حول خطاب الكراهية ومدى انتشاره وتأثيره في المجتمعات – ولاسيما في مجتمعات النزاع والصراعات – أهمية بالغة، ولاسيما بعد التطور الرقمي الكبير الذي يشهده العالم، فقد أصبح الإعلام الاجتماعي وعبر أدوات ووسائل التواصل المختلفة مساحةً حرة لنشر هذا النمط من الخطاب، وذلك بغض النظر عن المعايير والمحاذير التي تحدُّ من هذا النشر ولو بالحد الأدنى. والسياق السوري ليس بعيدًا عن هذه النقاشات فقد أنتجت الممارسة السياسية الخاطئة في سورية خطاب الكراهية، وذلك على مدى ستة عقود مضت من حكم عائلة الأسد، حيث عملت السلطة الاستبدادية والقمعية على تفخيخ العلاقات بين مكونات تنوع الشعب السوري من قوميات وأعراق وطوائف وأديان وحولته عبر التدخل السلبي من حالة غِنى وإثراء إلى حالة هشاشة وضعف وترقب وخوف.
لا تكمن المشكلة في أفكار وعواطف الكراهية بقدر ما تكون في تحولها إلى خطاب يؤدي إلى ضرر ملموس أو غير ملموس بحق الأشخاص أو المجموعات التي يتم تصنيفها وفق الإعاقة أو الانتماء لعرق أو جنس أو لموقف أو غيرها من الخصائص المماثلة.
وقد تم تعريف خطاب الكراهية على أنه أي شكل من أشكال التعبير، والذي لديه القدرة على زيادة الكراهية ضد شخص أو مجموعة بسبب صفة يشتركون بها أو جماعة ينتمون إليها. على سبيل المثال: الكلام الشفوي أو المتناقل الإلكتروني أو مقطع فيديو أو صورة ورسم وغيرها من الأساليب الفاعلة.
هنا لابد من الإشارة إلى ضرورة التفريق بين الإهانات الشخصية والإساءة المرتبطة بمشاعر الفرد وبين خطاب الكراهية الذي يؤدي للضرر ويعاقب عليه القانون باعتباره يهاجم جوانب اجتماعية للفرد في المجتمع. ومن أجل الحفاظ على سلامة فكرة الديمقراطية ونُظمها المطبقة في العديد من الدول، يجب على القانون حماية الكرامة الإنسانية للناس بشكل متساوٍ وعادل، والوصول إلى أفضل حالة من التوازن بين حرية التعبير عن الرأي وحماية حقوق الإنسان وعدم تمكين حرية التعبير من التحول إلى خطاب كراهية.
ما نوع الضرر الذي يمكن أن يُحدثه خطاب الكراهية للأفراد والمجتمعات؟
خطاب الكراهية ضار بحد ذاته، ويخلق بيئة مستعدة لمزيد من الضرر مثل انتهاكات حقوق الإنسان، التمييز، التهميش والإقصاء، عدم التمكين، العنف، الضرر العقلي والعاطفي، تفتيت رأس المال الاجتماعي، وهناك ضرر بالغ يقع على بعض الأشخاص الذين يكونون ضحايا لهذا الخطاب الذي يسود في بيئتهم الاجتماعية كالأطفال، حيث يسمعون هذا الخطاب ويستخدمونه دون إدراك منهم، ثم في مرحلة من المراحل يتحولون من ضحايا لخطاب الكراهية إلى ناشطين في نشره.
ولكي لا تتسع مساحة الكراهية وتنمو في السياق السوري، علينا – كسوريين – مباشرة هذه النقاشات والطروحات بما نملك من أدوات – على قلتها – حيث يصعب اليوم تعزيز الإطار القانوني لمكافحة هذا الخطاب وذلك في ظل تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ أربعة وتحكمها سلطات أمر واقع تتغذى على خطاب الكراهية وتستخدم القانون وآليات المراقبة لتكريس هذا الخطاب وقمع وإقصاء الروايات المضادة.
لعل التعليم من الأدوات الهامة والتي تلعب دورًا كبيرًا في تفكيك التعصب والتحيز والمواقف والسلوكيات التمييزية والاقصائية، وذلك من خلال عملية التعليم بمكوناتها وأحقيتها.
لقد تضررت عملية التعليم بمراحلها المختلفة وبمكوناتها ومتغيراتها وذلك نتيجة حقبة طويلة من الحكم المتسلط والمستبد، حيث كانت العلوم الإنسانية والاجتماعية مُهملة ومُغيبة من برامج وسياسات السلطة الحاكمة، ومن هذه العلوم: التربية والفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع والقانون وغيرها من فروع المعرفة التي تُسهم في خلق الوعي والانتماء. وعند قيام الشعب السوري بثورته وانتفاضته لتحرير كرامته ونيل حريته، استخدم النظام الحاكم سلاح خطاب الكراهية والتخوين والاقصاء عبر محاولة منه لشيطنة الرأي العام وخلط الأوراق، واستكمل عدوانه على الشعب بكافة أصناف الأسلحة الأخرى من قصف وتدمير وقتل وتجويع وحصار وتهجير قسري. وفي ظل هذه التحولات التي أصابت جميع بُنى المجتمع السوري، اشتعلت الفتنة وتنامى صوت خطاب الكراهية بين الكيانات المختلفة والتي لطالما استثمرت فيها أجهزة النظام المختلفة. تضرر رأس المال الاجتماعي وتراجعت مستويات الثقة المجتمعية وجهود المشاركة وانحسرت الاتجاهات القيمية بين الناس، وحصل انقطاع كبير في عملية التعليم، حيث خرج ملايين من الناس خارج بيئة التعليم من طلاب ومعلمين وإداريين.
بعد أن وصلت الحالة السورية إلى مستوى عطالة سياسية وإنسانية غير مسبوقين، وحيث لم يُقتَل من السوريين سوى مليون إنسان فقط، ولم يصل عدد المعتقلين والمغيبين منهم إلى مليون إنسان حتى الآن، ولم يتمكن من الهروب والفرار خارج الحدود إلا قرابة تسعة ملايين إنسان، أما من تم تهجيرهم قسريًا داخل الحدود السورية فقد وصل عددهم حوالي ستة ملايين ونصف المليون تقريبًا، وهذا يعني أن هناك سبعة عشرة مليون سوري تقريبًا يعيشون على الأرض السورية وتحت سيطرة قوى الأمر الواقع المتمثلة بأربع حكومات غير شرعية وهي: حكومة النظام الحاكم وحكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة وحكومة قسد، وجميع هذه الحكومات اعتدت على التعليم والعملية التعليمية.
هل يمكن أن يكون للتعليم دورًا في مكافحة خطاب الكراهية في هذا السياق السوري المفتوح؟
ربما هو الوقت المناسب جدًا، ولو كانت الإمكانات المتاحة غير كافية، ولكن لا بديل عن السعي الحثيث لإعادة حق التعليم للسوريين كل السوريين حيثما وِجدوا، وبشكل متساوي وبدون تمييز ولا تحيّز، ثم بذل الجهود من أجل خلق مناخ تعليمي (صفي ولا صفي) آمن وشامل وتعاوني، والاستثمار في بناء شعور الانتماء للمجتمع داخل المدارس وخارجها، ودمج وجهات النظر المفقودة في عملية التعليم.
يلعب المعلمون دورًا محوريًا في خلق المناخ التعليمي الذي ينتج خطابًا مناهضًا للكراهية، حيث يمكنه الإشارة إلى الخطابات الأحادية الجانب والتي تُغذي الكراهية وتبرر الإقصاء في مختلف المواضيع، ويسهل طرح ومناقشة هذه الآراء والروايات التي تحمل بطبيعتها إشكالية والاعتراف بهذه الإشكالية.
تساعد أساليب وتقنيات التعليم – ولاسيما التي يوفرها التعليم الاجتماعي والعاطفي – المعلمين في تعزيز الشعور بالانتماء بين المتعلمين من خلال استخدام دراسات الحالة وسيناريوهات الحياة الواقعية لمناقشة المواقف المثيرة للجدل. يستطيع المعلمون والمتعلمون إدارة التوتر والمشاعر السلبية والاعتراف بنقاط الضعف ونقاط القوة لديهم، مما يسهل عملية حل النزاعات.
إذًا لا يكفي أن يمتلك المُعلّم مهارات فنية تتعلق بتخصصه العلمي والمعرفي، بل عليه أن ينمّي قدراته في التواصل الإنساني والمجتمعي والذكاء العاطفي، ولاسيما في سياقات استعادة أو ترميم رأس المال الاجتماعي المتصدع.
تؤثر المناهج المدرسية والتعليمية في طبيعة مخرجات التعليم، وذلك من خلال ما تتضمنه من موضوعات وفقرات داعمة أو هدّامة للإنسان والمجتمع.
تستطيع المناهج التي تدعم تعليم المواطنة العالمية وتعزز الممارسات التعاونية والشاملة والمستجيبة ثقافيًا واجتماعيًا أن تساعد في تطوير المعرفة والكفاءة اللازمة لاحتواء الاختلافات والانخراط باحترام في مجتمع متنوع.
وقد أصبح من الضروري تضمين المناهج موضوعات العدالة والمساواة الاجتماعية والديمقراطية وديناميكيات السلطة، والسلام المجتمعي المستدام واستهداف خلق شعور بالانتماء بديل عن الانتماء المدفوع بخطاب الكراهية، وتوعية المتعلمين بأشكال التمييز المُستجدة وزيادة فهم العمليات التي تقود المجتمعات إلى العنف.
بالرغم من أهمية التعليم كمدخل من مداخل مكافحة خطاب الكراهية، إلا أن المكافحة الأكثر فاعلية تكون من خلال الاستجابة الشاملة وفق منهج شامل لكل المجتمع، والتأكيد على ضرورة أخذ مسألة مكافحة خطاب الكراهية كأولوية وطنية وعالمية وعلى أعلى المستويات، بالإضافة إلى الاستفادة من تجارب البلدان السابقة في هذا المضمار والتي مرت بنزاعات وصراعات، وفي السياق السوري لابد من تكثيف المبادرات الفردية والمجتمعية وكذلك على مستوى مراكز الدراسات ووسائل الإعلام المختلفة من أجل إغناء هذا الموضوع وتفعيل مكافحة خطاب الكراهية.
___
(*) د. عبد الناصر الجاسم: أكاديمي وباحث سوري، أستاذ مشارك في كلية الاقتصاد/ جامعة ماردين، استشاري في الدراسات التسويقية والبحوث المجتمعية ورأس المال الاجتماعي.