الاحتلال الصهيوني، هو احتلال استيطاني، عنصري، غربي، يستند إلى مظلومية اليهود في أوروبا؛ هذا الاحتلال استعمر الأراضي الفلسطينية والعربية، واستوطن في أرضٍ ليست له، ومارس التمييز والقتل والمجازر ضد العرب؛ لقد أتى من الدول الأوربية، ومن مختلف دول العالم إلى فلسطين، ولاحقًا من الدول العربية.
هذا الفعل، والذي يعكس رؤى فكرية وممارسة عملية استبدالية، أدّى إلى تهجير الملايين من الفلسطينيين وإلى عدم قيام الدولة الفلسطينية، وهو، تأسس مع وعد بلفور 1917.
الاحتلال الصهيوني يخدم مصالح الدول التي أتى منها الصهاينة واليهود، وفي التخلص من اليهود وعلى حساب العرب، ولضمان السيطرة على المنطقة؛ هكذا أفعال، تتضمن كراهية ضد الآخر، العربي، من أوروبا وأمريكا لاحقًا، ومن الحركة الصهيونية كذلك، ولأنّها مارست كل هذه الأفعال انطلاقًا مما ذكرنا، فإن العرب وبالتحديد الفلسطينيين والأكثر فقرًا من الفئتين السابقتين ستمارسان بدورهما كراهة مقابلة، وبالتالي، وما دام الاحتلال الصهيوني قائمًا، وهو فعل كراهية وتجاهل وإنكار كامل للآخر الفلسطيني، والأدق لكل شعوب المنطقة، فإن الأمر ذاته سيظل لدى هذه الشعوب؛ الحل هنا بإنهاء السبب، دولة الاحتلال، ودون ذلك سيتجدّد إلى أجل غير مسمى. لا إمكانية للبحث عن حلولٍ للقضايا العادلة، التخلص من الاحتلال، الاستبداد، الفقر، وسواها إلّا بالتخلص منّها، وإلّا ستولد الكراهية المتبادلة بشكل دائم.
إن مقاومة الاحتلال لم تنته، وكذلك مناهضة الأنظمة المستبدة، وكل حكم طغياني، بل وكل شكل من أشكال التمييز ضد الآخر؛ وحينما يقوى ويشتد عود الشعب أو الفئة المضطهدة أو تظهر فيها حركات أو قيادات ثورية ستحاول إبعاد العار عنها، ولن تقبل بأقل من الندّية، والتساوي، والعدالة والإنصاف. هناك طرق للوصول إلى هذه الأفكار، ولكن، وبغياب الوسائل الديموقراطية، فإن تحشيد الذات، الجماعة، الشعب، وبكل الوسائل سيكون هو الطريق نحو الوصول إلى تلك الحقوق؛ هذا ما جرى في فلسطين منذ وعد بلفور، وهو ما جرى بسورية مثلًا، أو في أي بلد أخر؛ التحشيد هذا يتضمن في بعض أبعاده الكراهية بالضرورة، ومهما تعددت أشكالها أو درجاتها.
لنبتعد عن قضية مواجهة الاستبداد؛ ففيها وجهات نظر كثيرة كـ “رفض العنف، والسلاح، واستدعاء الخارج”، وانتهاج السياسة كخيارٍ وحيد، رغم أن المواجهة تتضمن الخيار العسكري، كفعلٍ موضوعي، وبالتأكيد تتضمن كراهية الاستبداد؛ إن كل أفعال الاستبداد هي تمييزية، بدءًا من النهب إلى الفساد إلى القمع إلى مختلف أشكال السيطرة؛ ومنها الأيديولوجيا؛ وفي كل هذه الأفعال هناك كراهية مُلازمة لها وهي الأصل بالكراهية “المُقاوِمة”، ولكن لنحاول التركيز على الاحتلال الصهيوني في فلسطين، ولنعاين معًا، أفعاله مع الفلسطينيين في الـ 48 والـ 67 وفي غزة، وعن أحوال حقوق الفلسطينيين المهجرين إلى المنافي؛ ألا يتبني سياسات إلغائية بشكل كامل للشعب الفلسطيني؟ ألم تتحقق اتفاقيات أوسلو في 1993 على أرضية التخلص من الانتفاضة السابقة (1987) وتشكيل السلطة “الوطنية”، ثم ألم تحدث انتفاضة ثانية، مسلحة، في عام 2000؛ تمّ كل ذلك، بسبب رفض الاحتلال الانسحاب الكامل من أراضي الـ 67، وإعادة القدس الشرقية ورسم الحدود، وعودة اللاجئين؛ قضية الرفض السابقة لا تقتصر على اليمين الحاكم حاليًا، لا، القضية راسخة في التصور والرؤى الصهيونية، وفي أصل فكرة الكيان وفي الصهيونية كحركة فكرية وسياسية، وبالتالي ستفشل كل المحاولات من أجل إنصاف الفلسطينيين دون التخلص من الرؤى والكيان الصهيوني وتفكيكه، وإذا أضفنا تلك الكراهية المخيفة ضدهم من المستوطنين ومن الدولة العبرية، فإن المشاريع الفلسطينية ستتضمن كراهية مضادة لا محالة، وستكون هناك حركات مقاومة مستمرة؛ تارة يسارية، أو إسلامية، أو جامعة لأكثر من أيديولوجيا، وهناك أفعال مقاومة فردية.
إن المصالح المتمايزة للطبقات، وبين الاحتلال والشعب المُحتَل، تعزّز مناخات وأفكار التقليل من الآخر، والاستهانة بحقوقه، وارتكاب المجازر والدمار فيه وبمدنه؛ هذا ما تفعله الأنظمة المستبدة أو الاحتلالية؛ ما يجري في غزة هو ضمن هذا الإطار، وسيظل كذلك إلى أن يتفكك الاحتلال أو يتبنى رؤية جديدة، تنطلق من حل المشكلة الأصلية، وهي تفكيك دولة الاحتلال، وتشكيل الدولة الواحدة الفلسطينية.
هناك تيار سياسي عربي “متعدد الإيديولوجيات” يدفع بأن الخيار الوحيد لحل كل المشكلات ومنها الاحتلال والاستبداد هو خيار ممارسة السياسة، والمفاوضات، ورفض العسكرة أو المقاومة المسلحة، ويذهب بالتفكير بعيدًا بتبنّي الخيار الفاشل كخيارٍ وحيدٍ، وهو خيار الدولتين، متجاهلًا، أن السلطة الفلسطينية في رام الله تقوم، ومنذ تأسيسها، بقمع المناضلين الفلسطينيين، واعتقالهم، وتسهيل مهمة دولة العدو في قتلهم وقمعهم، وتتبرأ من أيّة عمليات عسكرية ضد الدولة السابقة، والسؤال: ماذا كانت حصيلة ذلك؟
نعم، إن دولة الاحتلال متفوقة عسكريًا، ومدعومة من السبعة الكبار، كما أَعلنت مواقفها إزاء غزة بعد عملية طوفان الأقصى مباشرة؛ وهذا لن يتغيّر لأسباب كثيرة، وإن الطرف الفلسطيني في الـ 48، والـ 67 وغزة سيظلُّ غير قادرٍ على المنافسة تلك، وسبب ذلك الأساسي هو ممارسات الاحتلال الرافضة للمنافسة، والقائمة على أرضية التفوق الكامل، وتربية الأجيال اليهودية على الصهيونية وكراهية الفلسطينيين والعرب بعامة، وبالتالي، يُجبر الفلسطينيين والعرب، وربما شعوب العالم على كراهية دولة العدو تلك، وقد انتقلت بعد طوفان الأقصى المواجهة إلى كل انحاء العالم، ورفض كل ممارسات تلك الدولة، والمطالبة بإقامة دولة من النهر إلى البحر، فلسطينية ويهودية؛ صحيح أن المتظاهرين في أوروبا عانوا من الحد من حرياتهم السياسية ومنها الحق بالتظاهر والتعبير، وهناك من يتحدث عن مكارثية جديدة، ويعانون بخصوص التضامن مع فلسطيني وغزة، وهذا يعزّز رفضًا كبيرًا للصهيونية بمختلف تجلياتها، ولكن وجود الديموقراطية وسلطة القانون في أوروبا، يحميان تلك الشعوب من تطوير الشعور بالكراهية لديها وضد الكيان الصهيوني أو ضد اليهود بعامة، وهناك جماعات يهودية كثيرة رافضة للكيان وداعية لتفكيكه، علمًا أن القوى الصهيونية والداعمة لها يصوران كل مناهضة للاحتلال كفعلٍ معادٍ للسامية، أي كفعل كراهية ضد اليهود، وأينما وجدوا، وبعض الحكومات الغربية تتبنى الفكرة ذاتها!.
في فلسطين أو الدول العربية، وفي سورية، لا يمكن التخلص من الكراهية المناهضة لسياسات تلك الدول وللكيان، والتي تمارس كل أشكال التمييز واجتثاث الآخر وكراهيته بالطبع إلّا عبر الانتقال إلى أنظمةٍ سياسية ديموقراطية أولًا، واقتصادية واجتماعية، تنطلق من مساواة الأفراد مع بعضهم البعض، وبغض النظر عن الدين والمصلحة والعرق والجنس والعمر؛ سيظل الفلسطينيون يتبنون مختلف أشكال المقاومة وكراهية الكيان الصهيوني إلى أن يتغيّر الأخير، ويتفكك، وتقام الدولة الفلسطينية على أساس يتساوى فيها اليهود والفلسطينيين، والأمر ذاته في مختلف الدول العربية.
من الخطأ استبعاد خيارات السياسة المدنية للوصول إلى الحقوق على اختلاف أشكالها، ومنها تفكيك دولة الاحتلال، ولكن، وبعد تجربة الثورات العربية وما تجدّد منها بعد 2019، وكذلك اتفاقيات أوسلو “المدنية” للغاية، وبعد رفض دولة الكيان لتلك الاتفاقيات والمبادرة العربية في 2022، من أجل السلام مقابل الأرض وإنشاء دولة فلسطينية على أقل من 22 بالمائة من فلسطين، فان الكراهية العميقة ستؤسس لقوى مناهضة جديدة وضد دولة العدو، وبعض الباحثين، يتوقع ظهور قوى جهادية على نمط داعش والقاعدة، جديدة، والأمر ذاته في الدول العربية.
إن دمار غزة والمقتلة المرعبة فيها، وبغياب حلول عقلانية حقيقية عن “اليوم التالي” في غزة، وإنصاف الفلسطينيين وإعطائهم الحق باختيار شكل الحكم مستقبلًا في غزة والضفة والـ 48 سيؤسس لمقاومة جديدة، وقد تكون منظمة حماس الأقوى مستقبلًا، وسيكون بعضها مسلحًا بكل تأكيد، ومتضمنة كراهية مناهضة، أسست لها مختلف ممارسات دولة الاحتلال، ومنها الكراهية للآخر العربي، وبشكلٍ مستمر، ومنذ أتت المجموعات الصهيونية إلى أرض فلسطين. هل من خيارٍ أخر، سياسيٍّ محضٍ للانتهاء من الاحتلال والاستبداد إذًا، نآمل.
(*) عمار ديوب: كاتب وصحافي سوري.