الاستبداد والكراهية

الكراهية موقف منهض للآخر، الديني، المرأة، القومي، العشائري، الفقير أو الغني، الأقليات، الأكثريات، وهكذا. هذا كلام عام، يمكن أن نجده في معظم دول العالم؛ الثريّة والمفقرة. في سورية، أو في أيّة دولة، يقوم النظام بإدارة شؤون الدولة، فإمّا أن يكون ديموقراطيًا، فتتعدّد السلطات، وتتقلص مساحات الكراهية، وتزداد واحات المساواة، وإمّا أشكال أخرى للحكم، استبدادي، طائفي، عسكري، الخ، وهناك تزداد مساحات الكراهية، وتتوظّف المواقف أعلاه، بما يُعلي من شأن القوى المتنفذة وهدر قيمة القوى المحكومة، فتتعرض لكل أشكال الانتهاكات، والكراهية، بما قد يؤدي إلى العنف والقتل، أو يؤسس له.

لا يمكن مناقشة أشكال الكراهية السائدة في سورية انطلاقًا من بنى المجتمع الأهلية، الدين، العشيرة، المذهب، المنطقة، اللون، علاقة المرأة بالرجل؛ رغم قوّة وجودها في المجتمع. إن المدخل لنقاش هذا الموضوع يتمّ عبر موقف النظام الاستبدادي، أو أي نظام أخر، وكيف تتعامل، الأنظمة، مع هذه البنى؟

النظام السوري، وظّف، ويمكن القول أسّس، باعتباره نظامًا استبداديًا، وملغيًا تعدد السلطات، لتغييب دور القضاء في تجريم ظواهر الكراهية، وأينما وجدت، وتكريس كافة المواد الدستورية أو القوانين التي تمايز بين الطوائف، والجنسين، والقوميات. استثمر النظام السوري في الموضوع الديني، فرفع من شأن الإسلام على بقية الديانات والمذاهب، ووضع قوانين أحوال شخصية عديدة، وأَعلى من القوانين الخاصة بالطائفة السنية، وهذا أسس لكراهية معينة، لا يمكن للتقارب المجتمعي أن يشطبه، وهو يبرز مع أية علاقة عاطفية بين أفرادٍ من الطوائف، والقوانين تلك، تحطُّ من قيمة غير المسلم دستوريًا، ولديك المادة الدستورية التي تقول بأن يكون الرئيس بالضرورة مسلمًا، وهكذا دواليك.

استثمر النظام كذلك في الطائفة العلوية، ولا سيما في الاعتماد على شخصيات منها في المناصب العليا في الجيش والأجهزة الأمن، بما يجعل تلك الشخصيات هي الآمرة الناهية في تلك الأجهزة، وكذلك الحال في مؤسسات الدولة بعامة، ليظهر وكأنّ لأبناء تلك الطائفة حقوقًا أكثر مما لغيرهم، وهذا من الأبواب الكبرى لتأسيس الكراهية العميقة من قبل العلويين، باعتبارهم أقلية، وضد الآخرين، ومن قبل بقية الطوائف ضد العلويين، ولا سيما من السنة، باعتبارهم الأكثرية، ويرون أنفسهم الأحق بالسلطة؛ إذًا، وحينما يتم توظيف هذا التطييف، فلا بد من أن ينتج وعيًا بذلك، أقصد الوعي الطائفي، وقد ترافق ذلك مع تغييب أيِّ شكل من أشكال الحريات، والقيام بنقد تلك التوظيفات والممارسات، وتوضيح حقيقتها وجدواها، والفائدة منها، والمحصورة في تأبيد السلطة ونهبها لخيرات البلاد. إن خلق الانقسامات الدينية والمجتمعية، يعزز الانقطاعات الكبرى بين البنى الأهلية، ويُعلّي من شأن سرديات واقعية وخيالية، وتصب في النهاية في الكراهية، والعنف حينما تتراخى قوّة أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، أو حين تشاء لها الأخيرة أن تحدث!.

لا شك أن في الديني والعشائري والمناطقي بل وحسب اللون، أسمر أبيض، والجنسي، يحوز على توجهات كارهة للآخر، ولكن الواقع، والحياة المادية والقوى الحداثية المواطنية، تعطّل النصوص التأسيسية للكراهية، وتُقدم النصوص التأسيسية لقيام علاقات اجتماعية، وتشاركية، ولكن، النزعات الأقوى نحو المواقف الكارهة للأخر، تتقدم بالفترات التاريخية التي تتراخى فيها الدولة، أو حينما توظف السلطة هذه البنى من أجل إحكام السيطرة، حيث لا تحوز على أيِّ مصدر من مصادر الشرعية؛ فلا نهوض اقتصادي، ولا أيديولوجيا مقنعة، ولا مؤسسات شفافة وغير فاسدة، ولا ينتخب الشعب ممثليه؛ المقصد هنا، أن المجمعات في المدن الكبرى أو البلدات او القرى تميل للتشاركية وللمعايشة الاجتماعية، ولصوت العقل، وكبت ما يؤدي إلى الكراهية والخلافات والصراعات. إن الاستقرار يدفع نحو الأفضل في المواقف والسياسات، وبالتالي يميل المجتمع للتقارب والانصهار.

في سورية، وبعد 2011، ورغم مأساة الثمانينيات بصفة خاصة، باعتبارها لحظة تأسيسية للكراهية، حيث ارتُكِبت المجازر، ولم يتم فتح صفحاتها بشكل موضوعي، وبالتالي، تجاوزها؛ رغم ذلك، ورغم التأسيس منذ ذلك الوقت لمختلف أشكالها الكراهية، وعبر تعزيز الانقسامات الدينية والقومية، فإن الشعب قام بثورته، وهو يعي خطورة خطاب الكراهية، فرفع من شعارات الشعب الواحد، وحدّد مشاكل سوريّة برامي مخلوف وعائلة الأسد وطالب بالإصلاح ومحاسبة بعض الشخصيات الأمنية والعسكرية، ولكن خيار القمع والقتل والتطييف، كان كافيًا، لعودة تلك الانقسامات، وخطاب الكراهية، وكرد فعلٍ بصورة أساسية، وتمّ تعزيزها عبر الإعلام وسياسات الدول المتدخلة في الشأن السوري، لتنتقل الثورة إلى مسلحة ومطيفة وبما يخدم أهداف سياسات الداعمين للنظام، أو داعمي المعارضة. أسس ذلك لخطاب التكاره العام، بين الموالاة والمعارضة، وبين السنة والعلويين، وبين العلويين والمعارضين من أبناء جلدتهم، وبالطبع بين أبناء الطائفة الذاتية.

كانت الحصيلة من ذلك الخطاب، مقتل الملايين والإخفاء القسري لمئات الألوف وتهجير الملايين ودمار أغلبية المدن السورية، لتنتهي المعارك بجغرافيا سوريّة، “مقسمة” ومحكومة من روسيا وإيران وتركيا وأمريكا، وتتمدد إسرائيل في الدخل السوري بكل الأشكال. إن سيادة خطاب الكراهية أدى إلى تحكّم الخارج، وبروز أسوأ أشكال الحكم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ومنذ 2013، ولا نقصد فقط هيئة تحرير الشام أو قسد أو الفصائل التابعة لتركيا، وحتى النظام السوري ترسخت فيه أسوأ الشخصيات والمواقف والسياسات، وصار أداة بيد الاحتلالات.

إذًا، أدت سيادة خطاب الكراهية، إلى خسارة كبيرة للسوريين، موالاة ومعارضة وبين بين، وللبلاد بعامة، ولسيطرة الخارج بشكل محكمٍ. عكس ذلك، تعالت انتفاضة السويداء عن خطاب التكاره، وحدّدت مشكلتها، كما في بداية الثورة 2011 بالشخصيات الأساسية في النظام، وبرفض مؤسسات المعارضة، التي لم تمتلك بدورها مشروعًا وطنيًا، يتجاوز خطاب السلطة، المُركَز في الكراهية، وانطلاقًا، من توظيف سردية السنة ضد العلويين، والمؤامرة الخارجية والخليجية ضد السلطة والعلويين، مع تغييبٍ كاملٍ لدور للمليشيات الإيرانية، الطائفية، والكارهة بدورها لكل الطوائف في سورية، وسعت لتشييعها، والأمر تمّ في الساحل ودرعا ودمشق وحلب وحمص ودير الزور، وغيرها.

لا يدوم الاستبداد دون خطاب الكراهية في سورية، وخطاب انتفاضة السويداء، والثورة قبل أن تُصادرها المعارضة ولاحقًا الإسلاميون، كان خطابًا وطنيًا، يبتغي تأسيس دولة للكل المجتمعي، ويرفض أيّة أشكال من أشكال التمييز أو الكراهية. لا تنتفي الكراهية بخطاب تمييزي، وبالتالي، لن تتأسس سورية المستقبلية من جديد دون خطاب حداثي وطني مواطني، يحيّد البنى الأهلية، ويجرم أيّة أشكالٍ تمييزية على أسس دينية أو عرقية أو جنسية أو اللون أو مناطقية.

(*) عمار ديوب: كاتب وصحافي سوري.

عمار ديوب
عمار ديوب
المقالات: 2