التسامح في كلمات – تعريفات

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة

“التسامح ليس هو التنازل أو التساهل، قبل كل شيء، فإن التسامح هو موقف نشط للاعتراف بحقوق الإنسان العالمية والحريات الأساسية للآخرين. ولا يمكن بأي حال من الأحوال استخدامه لتبرير انتهاك هذه القيم الأساسية. ويجب أن يمارس التسامح الأفراد والجماعات والدول”.

“من إعلان مبادئ التسامح – اليونسكو”

يوضح إعلان مبادئ التسامح ، في مادته الأولى ، معنى كلمة التسامح. وهكذا تنص حرفيا النقطة 1.1 من إعلان مبادئ التسامح :

“التسامح يتمثل في الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، وأشكال التعبير لدينا ووسائلنا في أن نكون بشر. ويتعزز بالمعرفة، والموقف المنفتح، والتواصل وحرية الفكر والضمير والدين…. وهو ليس واجبًا أخلاقيًا فحسب، بل هو أيضًا مطلب سياسي وقانوني”.

“من إعلان مبادئ التسامح – اليونسكو”

توطئة

يعرف الجميع حق المعرفة أن التسامح ليس سلوكًا مكتسبًا نهائيًا يلبي حاجة نفسية كالجوع أو العطش، ولا قيمة عالمية شائعة في الممارسة. ويمثل التسامح ركنًا من أركان الثقافة الديمقراطية التي تكون فيها الحقائق نسبية والاختلافات شرعية، وهو غير متوافق مع الأنظمة الشمولية، التي تدعو إلى نظام فكري وحيد. ومع أن التسامح موجود في عالم يتطلع إلى تحقيق السلام وتنتشر فيه الديمقراطية، فإنه ليس حاضرًا في كل مكان، بل نلحظ على العكس عودة قوية للعنصرية وكراهية الأجانب والقوميات المتشددة والعصبيات الدينية وحالات الاستبعاد الاجتماعي وشتى ضروب التمييز.

ويفترض السلام والوئام والديمقراطية رؤية مشتركة للماضي والحاضر والمستقبل. ولإرساء قيم مشتركة، يجب أن تعرف جميع الأطراف الفاعلة، وفقًا للقول الشعبي الفرنسي المأثور، “ما يُقصد بالكلام”. ولا يغني أي تفاوض على الأفكار – وبحجة أَوْلى الأفكار ذات المفاهيم المتغيرة أو القابلة للنقاش – عن التفاوض على الكلمات، التي تحمل تقاليد ثقافية قوية وحساسيات اجتماعية وقيمًا رمزية يمكن أن يفقرها، أو حتى أن يحجبها، أي اختزال في صياغة وحيدة بأي لغة من لغات العمل الدولية.

ولا يعبَّر عن التسامح في صيغ ثابتة لا عبر المكان ولا عبر الزمان. أما مشروع التناول اللغوي-المعجمي والخطابي، الذي يستلزم دراسات استقصائية أخرى من النوع ذاته، فيستجيب لهدف أخلاقي، ألا وهو هدف نشر معرفة كفيلة بالمضي قدمًا في الاحترام المتبادل والتفاهم. ويرد في المقام الأول على تساؤل ثقافي. فثمة فترات محددة يسودها السلام أو، على العكس، تحل بها أزمات، وتبدو فيها مفاهيم التسامح وأضداده، كالتعصب والتعسف، في كل لغة، محملة بمعنى خاص، مثقل بسمات إثنية ودينية واجتماعية وجنسية تثقل لاحقًا بصفة دائمة على تداول مفهوم لم ينفصل فعلًا عن شرنقته الدلالية.

وإن اختيار عينة أولى من اللغات التي تمثل مناطق متنوعة من العالم أتاح لبعض الباحثين، المتخصصين أساسًا في اللسانيات الاجتماعية، بتنسيق تولاه الأستاذ بول سيبلو، مدير فريق البحوث المعني بعلوم اللغة “براكسيلنغ” في جامعة بول فاليري بمدينة مونبلييه الفرنسية، إجراء مجموعة أولى من الدراسات الاستقصائية. وخضع كل قطاع لغوي لتحليل محدد شمل تحديد سمات المصطلح وظروف ظهوره وتطوراته واستخدامه وتداوله الاجتماعي.

ولم يكن الهدف من هذه التوصيفات القصيرة إعداد مسرد متعدد اللغات يصممه لسانيون لخدمة المترجمين الشفهيين أو التحريريين، وإنما إنجاز عمل أبسط وأقرب إلى الأسس يتمثل في استرعاء انتباه أكبر عدد ممكن من الأطراف الفاعلة المنخرطة في المعركة الرامية إلى إقامة مجتمع أكثر عدلًا وانسجامًا إلى الصعوبات التي يطرحها تعريف تطلعها المشترك إلى العيش المشترك.

ويعد برج بابل بناءً محكومًا عليه بألا يُنجز أبدًا لأن العاملين فيه – الذين يظلون سجناء المنطق الخاص بكل لغة من لغاتهم – لا يستطيعون التواصل فيما بينهم ولا التفاهم من أجل بناء الطوابق الأخيرة فيه. أما بناء التسامح، الذي يعد ركنًا أساسيًا من أركان ثقافة السلام، فلا يمكن أن يبقى بلا استكمال بسبب نقص العاملين فيه. فيجب أن يتمكن هؤلاء البناؤون – رجالًا ونساءً وشبابًا من ذوي النوايا الطيبة – من التواصل فيما بينهم أيًا كانت لغتهم من أجل إنجاز هذا العمل الذي يمثل في عصر العولمة شرطًا لا بد منه للعيش المشترك بين بني البشر.

ولا يمثل هذا المسرد إلا مخططًا أوليًا لمكنز لا بد من إنشائه. ولكنه يكشف ثراء الكنز المشترك المؤلف من الألفاظ والخبرات التي تعبر، في كل ثقافة، عن الضرورة القصوى المتمثلة في الترحيب بالآخر.

فيديريكو مايور

المدير العام لليونسكو

تقديم

إن نشأة الكون، كأساطير التكوين على سبيل المثال، تولي دائمًا مكانة، بل في أغلب الأحيان مكانة أساسية، للكلام (Logos) فالكلام يؤكد مكانة الإنسان البارزة في عالم الحيوان، وتمنح اللغة هذا السرد البدائي سبب وجوده، ألا وهو إعطاء معنى للعالم. وعلى غرار ذلك، ترى كل فلسفة أن من واجبها إيلاء اللغة اهتمامًا خاصًا لأنها تمثل الشرط الأولي لوجود الفلسفة والشكل التعبيري الذي تتجلى فيه. ويجب أيضًا أن يلجأ كل خطاب، أيًا كان، إلى البعد المتمثل في وصف اللغة باللغة ليشفع قوله بتفسير للنطق بقوله. ولئن كنا بذلك ملزمين بالتعليق على أقوالنا، فذلك لأن دلالة المصطلحات التي تمكننا من تهيئة أفكارنا ونقلها إلى الآخرين ليست ثابتة ولا مشتركة على نحو متجانس. فالكلمات ترد إلى خواطرنا بمعان متنوعة، وأحيانًا متناقضة، نسبها إليها أشخاص آخرون قبلنا، وهي معان ندرجها في مفرداتنا، ونقبلها جزئيًا أو، على العكس، نرفضها. ولطالما كان إدراك أوجه التباين تلك وهذا النقاش الذي يجري داخل اللغة ذاتها، وذاك الحوار التفاعلي المتأصل في عمل اللغة، محجوبًا بسبب وجود ضرورة مضادة في الظاهر تتمثل في وجود نظام رموز مشترك بين المتكلمين.

ومن البديهي أنه إذا لم يكن المعنى ثابتًا، فإن ذلك لا يسمح لنا بأي حال من الأحوال أن ننسب إلى الكلمات ما يحلو لنا من معان. فزمام هذه السلطة ليست في أيدينا، بل إن الأفراد ملزمون بالخضوع للقواعد المشتركة التي تتيح التبادل اللغوي. وقد وضعت حكمة الأمم هذا المغزى منذ زمن بعيد في القول المأثور التالي: “لكي يتسنى لنا التفاهم، يجب أن نتفق أولًا على معاني الكلمات”. ولذا فإن معاني الكلمات تخضع على الدوام لعمليات تفاوض وتداول فيما بين المتكلمين. ولهذا السبب أيضًا شعرنا في وقت مبكر جدًا بالحاجة إلى ترميز النظم اللغوية على أدق وجه ممكن لكي يتسنى باستخدامها التواصل الشفهي فيما بين المتكلمين. ويبقى ذلك الوظيفة الأولى لكتب النحو والصرف والمعاجم. ويشترك علم اللغة مع بعض العلوم الأخرى كالحقوق والرياضيات في إرساء الأسس التاريخية للحضارات. وإن أقدم الشواهد المعروفة حتى يومنا هذا على نشاط الوصف اللغوي للغة ذاتها تتمثل في القوائم المعجمية المحفورة على الرُّقم الغضارية السومرية التي يرجع تاريخها إلى 3000 سنة قبل الميلاد. ولم يتسنَّ تحديد وظيفتها بوضوح، فيبدو أن بعضها يؤدي دورًا مساعدًا للذاكرة، ويمثل بعضها الآخر قوائم ثنائية اللغة تُستخدم في الترجمة. وأيًا كان استخدامها، فهي آثار تدل على حياة البشر في بلاد الرافدين قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. ومن خلال المصطلحات التي تضمها هذه المسارد الأولى وطريقة تنظيمها، فإنها تعد شهادة، شأنها شأن أي قوائم معجمية أخرى، على التقنيات والممارسات الاجتماعية والمعتقدات التي تنظم مجتمعاتنا وترسي أسسها. فالكلمات تحفظ ذاكرة ثقافاتنا في شكل طبقات دلالية متراكمة على مَرِّ التاريخ. وهي بذلك لا تسجل الأمور بطريقة سلبية فقط، بل إنها تؤثر في الأفراد والمجتمعات على حد سواء، وذلك على نحو حاسم إلى أقصى الحدود.

وجرى على صعيد الأساطير تصور سلطة الكلمات على أنها قوة تؤثر في العالم تأثيرًا مباشرًا: ومنها الصيغ السحرية، والصيغ المقصورة على فئة معينة، والصيغ الباطنية التي تقدم آيات سفر التكوين نموذجًا لها.

وتتجلى قدرة اللغة على التأثير في الواقع الذي تمثله بقدر أقل في الحياة اليومية وفي الكلام العادي حيث يعبر معنى الكلمات عن وجهة نظر ويقترح رؤية للعالم تحدد بالتالي سلوك البشر في جزء كبير منه. وما يؤكد ذلك هو الاهتمام الذي توليه المؤسسات الاجتماعية لهذا الأمر. فإن المذاهب، شأنها شأن الأفراد والدول والكنائس والحركات الفكرية والتيارات الإيديولوجية، لا تنفك تسعى إلى تبيان تفوق المصطلحات الخاصة بها لتنقل إلى الآخرين فهمها للعالم. فهذا جزء من أسباب وجودها. ولكن ثمة إغراء شديد يدفع السلطة الدنيوية إلى الرغبة في أن تكون روحانية، بالمعنى الأصلي للكلمة، وأن تهيمن على موقف البشر في الموقع الذي يصمَّم فيه: وذلك من خلال التحكم بأشكال الفكر، وتوجيه استخدام الكلمات، وفرض معانيها. وانطلاقًا من السلطة النهائية والجنونية لملك ذي سلطة مطلقة فعلًا، ألف جورج أورويل عملًا خياليًا. ويبيّ هذا المؤلف في قصته الخيالية الرهيبة ذات المغزى الأخلاقي أن أكمل ضروب الدكتاتورية هي تلك التي لا تكتفي بفرض قانونها بل تدعي امتلاك الحق في إملاء كل شيء على الآخرين، حتى فكرهم، وتلك التي تمثل طغيانًا تامًا يتأمل ذاته في استقامة الكلمات وفي لغة خشبية تحظر كل انحراف وكل احتجاج: في هذيان “أخ كبير” يتولى زمام المعنى بلا منازع.

ولاحتمال وقوع هذه الشمولية المطلقة جانب إيجابي لحسن الحظ. فلئن كانت أحلام الطغيان تطمح إلى التحكم بمعاني الكلمات من خلال تثبيتها في قالب يطابق وجهات نظرها، فإن هذه المعاني تتغير وتفلت من زمام مشروعات التوحيد، حتى في المصطلحات المتخصصة، التي تتمثل وظيفتها الضرورية والشرعية في ضبط المعنى في حدود ما هو أفضل. فإن كلمات المعجم، خلافًا للرؤية الساذجة والنموذجية التي يمكن أن تتكون عنها، ليس لها “معنى حقيقي”. فهي أدوات لإنتاج المعنى، وهذا ما يعدل بعمق فهمنا الممكن لهذه الكلمات. وتعمل هذه الأجهزة اللغوية المعقدة في إطار قواعد تراعيها جماعة المتكلمين بأكملها، ولكن قيم هذه القواعد التي تمثل أسس اللغة تشتمل على تغيرات للمعنى تسمح بوجود هامش للتقدير وحرية في تفسير المضمون الدلالي. وعندما تستخدم كلمات المعجم في الخطاب، تستلزم “معايرة” لمعناها لكي تتماشى مع ظروف التحاور وغاياته المحددة.

وتتيح هذه المرونة للكلمات متابعة تطور الممارسات والتقنيات والمعارف عبر الزمان، كما تتيح لها أن تواكب من خلال التسمية نفسها التقدم الذي تحرزه مجتمعاتنا في فهم الواقع واستيعاب التحولات الدلالية الكبيرة في التسميات. كما أن هذه المرونة ذاتها تمكّن الكلمات من متابعة تغيرات المعنى في أشكال الخطاب، ولا سيما عندما ينتشر المصطلح وتتداوله فئات اجتماعية أخرى تنسب إليه قيمًا مختلفة، وأحيانًا مضادة. ويمكن أن يفضي بذلك مجموع هذه الاستخدامات المختلفة إلى حالات متفردة.

وهذه هي حالة مصطلح (tolerance) “التسامح” الذي وصف حتى بأنه “تسمية سيئة لشيء جميل”. وأصبح المبدآن الديمقراطيان المتمثلان في حرية الفكر وحرية التعبير راسخين بما يكفي ليصبح من غير المفهوم ولا المقبول أن يطلق اسم التنازل على ما نعتبره اليوم حقًا أساسيًا. بيد أن رد الفعل السليم هذا ينجم عن مفارقة تاريخية ترتبط بتطور الكلمة. فإن مفهوم “التسامح” ظهر في المجتمعات التي كان يهيمن عليها الفكر الديني؛ وحدث ذلك منطقيًا في ظل الإيمان بالإله الواحد لأن تعدد الآلهة، الذي يعد جامعًا بحكم طبيعته، لا يتعين عليه طرح مسألة المعتقدات المختلفة. أما فكرة الإله الواحد فلا يمكن تصورها إلا من خلال المطلق المتمثل في الألوهية، التي لا يمكن أن تخضع لمبدأ النسبية. ولكن هذا هو بالتحديد ما تنطوي عليه بالضرورة فكرة التسامح الديني في ظل الإيمان بالإله الواحد. ولذا فإن بوسويه، أسقف مدينة مو (Meaux)، يعرب، إبان المواجهات بين الكاثوليك والبروتستانت الفرنسيين، عن اعتقاده بأن التسامح غير مقبول لأنه يفضي إلى قبول الهرطقة والكفر، وإلى الإخلال بواجب المحبة المسيحي تجاه الآخر المتروك لمصيره الذي يقوده إلى الدينونة. وثمة افتراضات أولية مماثلة تفسر تسمية “مرسوم التسامح” الصادر في عام 1562، والذي منح البروتستانت في فرنسا إمكانية ممارسة شعائرهم الدينية؛ ولقد منحوا هذا الإذن باسم السلم المدني ومصلحة المملكة، لا بموجب حق لم يكن مقبولًا في ذلك الوقت.

ومن المنطقي إذن أن تكون اللغات الرومانية قد استمدت من اللغة اللاتينية فعلtolerare ، الذي يعني “حمل، تحمّل، صمد، قاوم”، للدلالة على قبول تحمّل “شر لا بد منه”، شأنه شأن النار التي نقر بأهميتها، وللتعبير عن معاناة نتحملها إزاء آراء وأوجه سلوك غير مقبولة بمعيار المعتقدات التي نؤمن بها في قرارة أنفسنا. وهذا الفعل مشتق كلمات التسامح في كلمات هو أيضًا من فعل آخر هوtollere ، الذي يعني “حمل، رفع، نصب”، وهو مبني على الجذر الهندي الأوروبي ºtel-, ºtel-, ºtla -، الذي يعني “تحمل، حمل”. أما الجذر الذي أعطى اسمه في اللغة اليونانية لكلمة Atlas “أطلس” فيعتبر التسامح (tolerance) ثقلًا وقيدًا. ونجمت عن ذلك حالة متناقضة تشير إليها التعليقات على الدوام وسرعان ما تتجلى في دلالات أسرة الكلمات. فيرد في النسخة اللاتينية للإنجيل أن الحشود طالبت بصلب المسيح مرددة صرخة Tolle! Tolle!، وقصدت بذلك نصب أداة التعذيب (وبقيت في الفرنسية كلمة tollé بمثابة صرخة استهجان). ونرى بذلك أن بعض الكلمات المشتقة من الجذر ذاته يمكن أن تدل على التسامح وعلى ضده في الوقت نفسه. ولا يدل هذا التضاد على عدم اتساق اللغة، التي لا تحتفظ إلا بالثوابت المتناقضة الموجودة لدى بني البشر. وهذه المفارقة تشبه المفارقة التي جعلت من المحبة المسيحية، التي كان يُقصد بها محبة القريب، تبريرًا لا مبرر له لمحاكم التفتيش ولإعدام الآلاف من البشر في محارق الحطب. ومن السهل أن نجد حالات شاذة مماثلة في ممارسات الأديان الأخرى أو في تنفيذ مشاريع سياسية تقدَّم على أنها تحسين لحياة البشر. وبذلك يمكن لكلمة أن تعبر من خلال صياغات متناقضة عن الفكرة التي تُحمَّل إياها. وتظهر تناقضات أخرى عندما ندرس مجموع كلمات لغة معيّنة.

وتمثل قوائم مفردات اللغة “شبكات” يرى الناس من خلالها العالم ويقسّمونه ويصنفونه ويسمّونه ويتصورونه لإضفاء معنى عليه، وذلك بسبل تختلف من ثقافة إلى أخرى. وكان عالم اللغة الألماني ويلهلم فون هُمبولدت أول من أجرى في كتابه المعنون “في اختلاف بنى اللغة لدى البشر وتأثيرها في تطور النوع البشري”، المنشور في عام 1836، تأملًا منهجيًا في تنوع النظم اللغوية. أما عالم الإنسان الأمريكي إدوارد سابير ومواطنه عالم اللسانيات بنيامين لي وورف، فقد تناولا هذه الإشكالية مجددًا في القرن العشرين وطوراها وضبطاها بمزيد من الشدة من خلال تطبيقها على لغات هنود أمريكا. وبحسب تحليلاتهما، أو على الأقل التعاليم التي استُخلصت منها، إن التقسيمات اللغوية التي تجريها قوائم مفردات اللغات البعيدة تنتظم انتظامًا شديد الارتباط بالثقافات بحيث لا تتسنى ترجمة المصطلحات إلا على نحو تقريبي، أو تصبح حتى من المحال. ومع ذلك فإن الترجمات لا تتوقف، بل إنها تتسم أحيانًا بدقة مثيرة للإعجاب. والسبب في ذلك على وجه التحديد هو أن معاني الكلمات قابلة للتكييف وأن ممارسات بني البشر، أيًا كان تنوعها، تتقارب بما يكفي لإتاحة فهمها المتبادل.

وبذلك فإن معاني الكلمات عمومًا، ومعنى مصطلح “التسامح” بوجه خاص، تعبر عن تاريخ النزاعات بين بني البشر وعن مواجهاتهم الأيديولوجية، كما تعبر في الوقت نفسه عن تطلعهم إلى بشرية مشتركة. فإن فكرة “التسامح” تبقى وتفرض نفسها على اللغات والثقافات، بوصفها سمة تبدو مشتركة، على اختلاف المعاني وتنوع المصطلحات. ومن هذه الملاحظة انطلقت فكرة إعداد هذا الكتاب الجامع. فكيف يجري التعبير عن “التسامح” وتصوره في الفكر وتطبيقه في الحياة لدى مختلف الثقافات؟ وما هي الكلمات التي تتولى التعبير عن فكرة التسامح في مختلف اللغات؟ وكيف تفعل ذلك؟ وماهي الأشكال المختلفة وأوجه التقارب والفروق في شتى أنحاء العالم؟ وهل يمكن الوقوف على مجال ثابت في مجمل المصطلحات ومستمد من لغات مختلفة؟ أو على الأقل، هل يمكن استخلاص إشكالية مشتركة؟ وإذا ما صيغ المشروع على هذا النحو، فإنه ينم عن طموح مفرط لا ندري ما إذا كان إنجازه ممكنًا حتى في إطار برنامج منهجي(4). أما قصدنا في هذا الكتاب فهو أكثر تواضعًا، إذ يقتصر على عملية استكشافية، أي على الخوض في مجال لا يزال يحتاج إلى اكتشاف على نحو أكثر منهجية. ولم يُقْدِم الباحثون على المشاركة في هذا المشروع إلا من باب الالتزام بدوافعه. ومع أنهم يدركون الحدود التي ينحصر فيها هذا الملف التمهيدي، ومن ثم أوجه النقص التي يتسم بها، فقد رأوا أن المجتمع العلمي لا يمكن أن يواجه مطالب عصرنا بلا اكتراث.

ولئن كنا قد توخينا تقديم عيّنة من تنوع الكلمات التي تدل على “التسامح”، فلم ندّعِ مع ذلك أننا نقترح مجموعة من النصوص تكفي لتمثيل آلاف اللغات، الحية أو الميتة، التي تم تعدادها. ولقد سعينا إلى تنويع خياراتنا، ولكن هذه الخيارات فرضتها أحيانًا ظروف تفرُّغ الأشخاص أو شبكات العمل أو حتى الصُّدف المتاحة آنيًا. وضمت أول مجموعة بعض اللغات القديمة (المصرية والعبرية واليونانية واللاتينية)؛ وضمت الثانية لغات أوروبية، يترابط بعضها كاللغات الرومانية بالأصول التي تنحدر منها، وتترابط جميعها بتاريخ يتسم بكثافة المبادلات الثقافية (الأوكسيتانية والإسبانية والقشتالية والبرتغالية والفرنسية والإيطالية، من جهة، والإنجليزية والروسية والفنلندية والبلغارية، من جهة أخرى)؛ أما المجموعة الثالثة فتم تحديدها استنادًا إلى تباينها (الغونكوين والعربية والبمبارا والصينية والغبايا والهندية واليابانية والكيسواحلية والكتشوا والولوف). ويرمي اختيار هذه المجموعة الثالثة، مقابل المجموعة السابقة، إلى تبيان تنوع أشكال التعبير اللغوي عن “التسامح”. ويمكن أن ننتقد عن حق هذه العيّنة من حيث أنها لا تنصف في الاختيار عائلات اللغات؛ ولتحقيق ذلك، كان ينبغي توخي الشمول في الدراسة، ولكن هذا الأمر يتخطى حدود مشروعنا تخطيًا بالغًا. أما المكانة التي حظيت بها اللغات الأوروبية في هذه الدراسة، فهي بالتأكيد مرتبطة بتشكيلة الفريق الذي نظم هذا الاستكشاف الأول، ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد. فإن إيديولوجيا عصر التنوير هي التي ارتقت قطعًا بالنقاش الذي يتناول مفهوم “التسامح”، بالتلازم مع مفهوم الديمقراطية، وهي التي أضفت على “العصور الحديثة” بعض أهم سماتها المميزة. ومن دواعي الأسف أيضًا أن تكون أبعاد المشروع المحدودة قد دفعتنا إلى إيلاء مزيد من الاهتمام للاستكشاف المعجمي على حساب عمليات تحليل الخطاب الكفيلة وحدها بإدراك المعنى في أدق تفاصيله. وتمثل هذه التفاصيل مجالات للدراسة قد تتناولها تحليلات جديدة في أطر أخرى.

ولقد اختار الباحثون بكل حرية نهجهم في تناول الموضوع وهم يتحملون مسؤولية ما يرد في بحوثهم. وتفضي هذه الصراحة إلى إيضاح توجّهين يبدوان متضادين للوهلة الأولى. فبعضهم لا يرضى عن الاستخدامات اللغوية أو عن الممارسات الاجتماعية أو الدينية أو السياسية المرتبطة بمصطلح “التسامح”، فيُقبلون على انتقاد ما يرون أنه يمثل أوجه خلل غير مقبولة. ويسعى غيرهم، على العكس، إلى تبيان أن الثقافة أو اللغة أو المجتمع الذي يتحدثون عنه يقدم ما يمكن أن يعتبر نموذجًا “للتسامح”. وبكفي إذن أن نذهب إلى الحد الأقصى بمنطق هذه المحاكمة العقلية لنعثر على الموقف المعروف الذي يعتبر أن التسامح هو في المقام الأول تسامح الآخرين، ولنجد بالتالي في متن التحليلات ذاته ما تزمع التنديد به… وهذا يعني أن الباحث في مجال العلوم الإنسانية ليس خارجًا عن الموضوع الذي يدرسه، وليس منفصلًا عن الجدليات التي يعمل عليها. وهذا يعني أيضًا – وهنا يكمن جوهر الموضوع – أن هذه المواقف التي تبدو متعاكسة في ظاهرها ترتكز في الواقع على الإقرار ذاته بالشرعية التامة “للتسامح”.

وهنا تكمن العبرة الأولى التي ينبغي استخلاصها من هذا النهج الجماعي في تناول الأمور. ويتمثل جوهر العبرة في التسليم بأنه لا يمكن تصور الإنسانية إلا من خلال الاعتراف بالآخر، وفي التسامح المتبادل الذي يمثل مبدؤه أول قاعدة من القواعد المشتركة بين بني البشر.

بول سيبلو

مدير فريق البحوث المعني بعلوم اللغة “براكسيلنغ”

في جامعة بول فاليري بمدينة مونبلييه الفرنسية

جدول المحتويات

توطئة

فيديريكو مايور

التقديم

بول سيبلو

المشاركون

اللغة المصرية القديمة: التسامح الديني والتشدد الوطني

سيدني أوفرير

اللغة العبرية: التسامح أو التساكن

ميشيل إيكهارد إليال

اللغة اليونانية القديمة: نزع القدسية، والتعددية الدينية، والمطلق التوحيدي

ماري-بول ماسون، وفانا نيكولايدو-كيريانيدو، وستافروس بيرنديتيس

اللغة اللاتينية: هل كان الرومان متسامحين؟

ميشيل غريف

المجال الروماني: عائلات اللغات وعائلات الكلمات

جاك بريس

اللغة الأوكسيتانية: هل كانت أوكسيتانيا والأندلس يمثلان عصرين ذهبيين “للعيش معًا ؟”

جيرارد غويران

اللغة الإسبانية: التسامح الذي لا يمكن تحمله

سوفي سارازان

اللغة الكتالونية: التسامح والتعصب في التاريخ

كريستيان كامبس

اللغة البرتغالية: التأرجح بين مفاهيم متعاكسة

فرانسيس أوتيزا

اللغة الفرنسية: إيديولوجيا عصر التنوير

كاترين ديتري وكلود لورويول

اللغة الإيطالية: استحداث مفردات جديدة ووضعها في الاستخدام

برونو مورير

اللغة الإنجليزية: الاجتهاد القضائي والتشريع

كريستين بيال وغبرييل كالوري

اللغة الروسية: الصولجان ومِرَش الماء المقدس

إيرين كهويت

اللغة الفنلندية: التَحَمُّل أم الانفتاح أم الرغبة؟

رايمو يوسيلا

اللغة البلغارية: فضائل التَحمُّل

ليديا دينكوفا وماريا لوفتشيفا ولورا تاسيفا

اللغة العربية: المساواة المبدئية وأوجه التمييز

أحمد بن ناعوم

اللغة الهندية: من أجل التعايش السلمي بين الفئات المتعارضة

بنغالي كومار جاين

اللغة الصينية: دمج الأضداد و المتناقضات

جان فرنسوا فيرنيو

اللغة اليابانية: السلطة والنسبية

جيرار سياري

لغة الكتشوا: قدر أم استعمار؟

غيدو كاراسكو

لغة الغونكوين: غياب الكلمة، ووقائع الممارسات

ديان دافيو

لغة الوُلوف: مكان مفتوح أو مغلق

هدية الله فال

لغة الغبايا 91: عدم الحكم على الاختلافات

بوليت رولون-دوكو

لغة البامبارا: اختلاف وجهات النظر بوصفه مبدًا

إسماعيل مايغا

اللغة الكيسواحلية: الصبر والتواضع والتجاوز الأخلاقي

محمد أحمد صالح

الخاتمة

سيلفان أورو

الحواشي

عناصر ببليوغرافية

المصنفات الجامعة، وأعمال المؤتمرات، والمختارات

(*) منشورات يونسكو

(*) يُنشر بموجب سماح “الانتفاع الحر المتاح بموجب ترخيص بالمثل 3.0”

https://bit.ly/3th2oKa

يونسكو
يونسكو
المقالات: 9