العدالة والمصالحة التقليديتان بعد الصراعات العنيفة

التعلم من التجارب الأفريقية

المحررون

لوك هويسه

مارك سولتر

المساهمون

لوك هويسه

بيرت إنغيلاير

فيكتور أغريجا

بياتريس دياس-لامبرانكا

جيمس أوجيرا لاتيغو

جو أ. د. آلي

أسومبتا نانيوي-كابوراهي

المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات

تمهيد:

ثمة سؤال محوري يواجه الديمقراطيات التي تنشأ بعد صراع أهلي: ما هي أفضل وسيلة للتعامل مع التركة المؤلمة للماضي، ومعظمها حديثًا في العديد من الحالات، لما حصل من عنف، بينما تتم المحافظة في الوقت ذاته على انسجام اجتماعي هش يميز في كثير من الأحيان مجتمعات ما بعد العنف. هل ينبغي منح الأولوية لتقديم مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان للعدالة، وبالتالي محاربة ثقافة الإفلات من العقاب التي باتت تميز العديد من الصراعات المدنية؟ أم أن الأكثر أهمية هو الشروع في التركيز على تدابير مصممة لضمان تعزيز السلام والاستقرار، ومعهما آفاق إعادة إحياء البلاد على المدى البعيد؟

هذه ليست أسئلة سهلة، إلا أن ديناميكيات الصراعات العنيفة تجبرنا على أخذها بعين الاعتبار. في المناطق المصابة بآفة الحروب الأهلية والاضطرابات العنيفة، نادرًا ما تسمح النواحي الحرجة لأجندة البلد في مرحلة ما بعد الصراع بالتوصل إلى “حلول” سهلة يمكن تعميمها. لقد بات الرأي المقبول على نطاق واسع وبشكل متزايد هو أن أفضل الموارد، وبالتالي أفضل “الردود”، على العديد من المآزق التي تبدو مستعصية والمتمثلة في إدارة تبعات الصراعات العنيفة تكمن داخل البلدان أنفسها.

في أفريقيا بوجه خاص، ثمة مورد لم يحظ بالتقدير الكافي وهو ذو قيمة كبيرة موجود في الآليات الاجتماعية التقليدية لإدارة الصراعات المحلية. استنادًا إلى تجربة رواندا مع الغاتشاتشا، تم تطوير مقاربة “محدثة” لشكل تقليدي من تسوية النزاعات وتطبيقه في أعقاب الإبادة الجماعية عام 1994، وأدى هذا إلى تنامي الاهتمام الدولي بالدور المحتمل للآليات التقليدية في إستراتيجيات المصالحة والعدالة الانتقالية. في أحدث هذه الحالات، في أوغندا، يشير النقاش الذي دار حول الأدوار التي لعبتها المحكمة الجنائية الدولية وممارسات المصالحة التقليدية عند شعب “الآشولي” في الجهود التي تبذل لتحقيق تسوية سلمية للصراع الذي يدور في البلاد منذ عقدين من الزمن، يشير إلى أن الآليات التقليدية باتت تشغل مكانة محورية ومتنامية في السياسات.

لم يكن هناك سوى عدد ضئيل جدًا من المحاولات المنهجية لتحليل وتقييم دور وأثر الآليات التقليدية في بيئات ما بعد الصراع. يهدف هذا التقرير إلى سد هذه الفجوة، وذلك بدراسة الدور الذي تلعبه العدالة التقليدية في معالجة تركة الصراعات العنيفة في خمسة بلدان أفريقية هي: رواندا، موزمبيق، أوغندا، سيراليون وبوروندي. تستخدم دراسات الحالات هذه كأساس للتوصل إلى خلاصات وخيارات لتطوير السياسات في المستقبل.

يهدف هذا التقرير إلى أن يكون مصدرًا للمعارف العامة ودليلًا للهيئات الوطنية الساعية لاستخدام آليات العدالة التقليدية، وكذلك للهيئات الخارجية التي تهدف إلى دعم مثل هذه العمليات. وهو يقترح أنه، في بعض الظروف، يمكن لآليات العدالة التقليدية أن تكون مكمّلًا للأنظمة القضائية التقليدية، وأن تمثل خيارًا محتملًا حقيقيًا لتعزيز العدالة والمصالحة وثقافة الديمقراطية. إضافة إلى ذلك، وحتى في الأوضاع التي تكون فيها المجتمعات المحلية أكثر ميلًا للمطالبة بالقصاص الصريح والمباشر من المرتكبين، فإن آليات العدالة التقليدية يمكن أن توفر طريقة لاستعادة شعور بوجود المساءلة وربط العدالة بالتطور الديمقراطي.

في الوقت نفسه، فإن التقرير يحذر أيضًا من التوقعات غير الواقعية من الهيكليات التقليدية. إنه يقدم تقييمًا رصينًا، يستند إلى الأدلة لنقاط ضعف وقوة آليات إدارة الصراع التقليدية في إطارٍ أوسع لجهود إعادة البناء الاجتماعي بعد الصراعات.

فيدار هيلجيسين

الأمين العام

المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات

شكر وتقدير:

نتقدم بعميق الامتنان من الدولة العضو في مؤسستنا، بلجيكا، لتقديم التمويل الذي جعل من المشروع الطموح الذي يشكل هذا التقرير أحد مخرجاته أمرًا ممكنًا. ليست هذه المرة الأولى التي تحمل فيها المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات دينًا كبيرًا من الامتنان للبروفسور لوك هويسه، كبير باحثي المشروع والذي، إضافة لكتابته فصولًا رئيسية من التقرير، قدم معارفه وخبراته الواسعة لكل مرحلة من مراحل وضعه.

كما نتوجه بالشكر لكلاس دي جونغ على الأبحاث التي أجراها في المراحل الأولى الشاقة من المشروع، ولستيف فانديغينستي من جامعة أنتويرب لمشورته المهنية ومساعدته، ولمارك سولتر من وحدة التحليل والتقييم في المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات الذي أدار ووجه المشروع من ألفه إلى يائه. كما أننا مدينون بالشكر لـ إيف يوهانسن لمساهمتها المهنية في تحرير هذه المطبوعة؛ ولأندرو ماش لمراجعة النص النهائي؛ ولفلورنسيا إنغهل، مديرة المنشورات في المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، التي ضمنت الإنتاج السلس للتقرير النهائي نيابة عن فريق الاتصالات.

أخيرًا وليس آخرًا، فإننا نتقدم بالعرفان والتقدير لمؤلفي دراسات حالات البلدان لإخراجهم هذا المشروع إلى حيز الوجود. كما نتقدم بالشكر لإصدار هذه النسخة العربية إلى كادر مكتب المؤسسة في تونس، سوسن هويدي ووصال عطواني، إضافة إلى تحسين زيونة من فريق منشورات المؤسسة لتدقيقه الترجمة النهائية.

الفهرس

تمهيد

شكر وتقدير

الفصل الأول: المقاربات القائمة على التقاليد في سياسات صنع السلام، والعدالة الانتقالية وسياسات المصالحة (لوك هويسه)

1. الآليات التقليدية في سياق أوسع

1. 1. مناظرة مستمرة

1. 2. نشوء منظور عابر للثقافات

1. 3. أنظمة العدالة والمصالحة التقليدية: من مقاربة معيارية إلى رؤية أكثر واقعية

2. دراسة الممارسات القائمة على التقاليد: مشاكل في المصطلح والمنهجية

2. 1. مصطلحات إشكالية

2. 2. المزالق والخيارات المنهجية

3. خمس تجارب أفريقية

3. 1. طموحات العدالة بعد المرحلة الانتقالية

3. 1. 1. الأهداف العامة

3. 1. 2. أربعة أهداف باعتبارها أدوات

3. 2. سمتان بارزتان

3. 2. 1. الإجراءات الطقسية – المجتمعية

3. 2. 2. المجتمع المدني بوصفه الشريك المعني الرئيسي

3. 3. تنوع مثير للإعجاب

3. 4. الآليات القائمة على التقاليد: من استبعادها إلى إدماجها الكامل

3. 4. 1. الحاجة إلى مقاربة شاملة

3. 4. 2. كيف يمكن دمج إستراتيجيات مختلفة؟

المراجع وقراءات إضافية

الفصل الثاني: محاكم “الغاتشاتشا” في رواندا (بيرت إنغليير)

1. الصراع في رواندا

1. 1. الأصول البعيدة للصراع (حتى 1962)

1. 2. الباهوتو والباتوتسي في ظل نظام هابياريمانا

1. 3. الحرب الأهلية، والديمقراطية متعددة الأحزاب والإبادة الجماعية (1990 – 1994)

1. 4. أسباب وديناميكيات الصراع: الأنماط الرئيسية للتفسير

1. 5. رواندا ما بعد الإبادة الجماعية

2. الغاتشاتشا “القديمة” و”الجديدة”

2. 1. الغاتشاتشا بوصفها آلية “تقليدية” لتسوية النزاعات

2. 2. (إعادة) الدعوة لممارسة الغاتشاتشا

2. 3. تصميم وممارسة نظام محاكم الغاتشاتشا

2. 4. آليات وأهداف أخرى للعدالة الانتقالية

2. 5. اللاعبون والشركاء المعنيون الرئيسيون

2. 6. الحياة في حقبة ما بعد الإبادة الجماعية واستحداث محاكم الغاتشاتشا

3. التقييم: نقاط القوة والضعف

4. الخلاصة

المراجع وقراءات إضافية

الفصل الثالث: العدالة التصالحية ودور أرواح الماغامبا في غورونغوزا، وسط موزمبيق في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا)

1. مقدمة

2. سياق الصراعات في موزمبيق في الحقبة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية

3. لانتقال من الحرب إلى السلام وثقافة الإنكار في موزمبيق

4. تركات الحرب الأهلية والمشهد الاجتماعي – الثقافي في غورونغوزا

5. دور أرواح الماغامبا في غورونغوزا ما بعد الحرب

6. أرواح الماغامبا: حقبة جديدة، محن خطيرة وفضاءات اجتماعية للمعالجة

6. 1. سينوريا: خلفية القضية

6. 2. أميليا: خلفية القضية

6. 3. انتقال الأصوات والحقائق حول الماضي: سينوريا وأميليا

6. 4. فعالية تدخلات معالجي الغامبا

7. تركة الحرب الأهلية، أرواح الماغامبا وممارسات العدالة التصالحية

8. الخلاصة

المراجع وقراءات إضافية

الفصل الرابع: شمال أوغندا: الممارسات القائمة على التقاليد في منطقة آىشولي (جيمس أوجيرا لاتيغو)

1. الصراع

1. 1. تسلسل زمني وصفي

1. 1. 1. الجذور التاريخية: المكانة العسكرية المتصوَّرة للشماليين

1. 1. 2. تجربة ما بعد الإستعمار

1. 2. أسباب الصراع

1. 2. 1. العرقية والنمطية والكراهية وصور العدو

1. 2. 2. التفاوتات الاقتصادية والتهميش والفقر وانعدام التنمية

1. 2. 3. دولة تزداد ضعفًا؟

1. 2. 4. عوامل تسهم في التعقيد وملاحظات ختامية حول الأسباب

1. 3. درجة تدويل الصراع

1. 4. تركة الحرب في شمال أوغندا

1. 5. المحاولات السابقة لإنهاء الصراع وفشلها

1. 5. 1. سياسة الحكومة في استخدام العصا والجزرة

1. 5. 2. تدخلات المجتمع المدني

1. 6. الوضع الراهن للصراع ومناظرة العدالة مقابل السلام

2. آليات العدالة والمصالحة التقليدية عند الآشولي بشكلها “الأصلي”

2. 1. الخلفية والوصف

2. 2. طقس المصالحة المسمى ماتو أوبوت

2. 3. طقس “الدوس على البيض” (نيونو تونغ غوينو)

2. 4. طقوس أخرى

2. 5. جوهر آليات العدالة التقليدية

3. الآليات التقليدية للعدالة التصالحية اليوم

3. 1. أثر الصراع والاحتمالات الكامنة للآليات التقليدية للعدالة التصالحية

3. 2. العلاقة مع السياسات والأدوات الأخرى للعدالة الانتقالية

3. 3. اللاعبون الرئيسيون والشركاء المعنيون ودرجة الشمولية

4. تحليل نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات

4. 1. نقاط القوة

5. 2. نقاط الضعف

4. 3. الفرص

4. 4. التهديدات

5. الاستنتاجات والتوصيات

5. 1. ملخص النتائج

5. 2. التوصيات

المراجع وقراءات إضافية

الفصل الخامس: المصالحة والعدالة التقليدية: ممارسات الـ “كبا مندي” القائمة على التقاليد في سيراليون (آ. د. آلي)

1. الصراع

1. 1. تسلسل زمني وصفي

1. 2. أسباب الصراع

1. 3. درجة تدويل الصراع

1. 4. طبيعة المرحلة الانتقالية

1. 4. 1. حفظ السلام

2. العدالة الانتقالية

2. 1. لجنة الحقيقة والمصالحة

2. 2. المحكمة الخاصة بسيراليون

3. آليات العدالة الانتقالية والمصالحة

3. 1. الخلفية والوصف

3. 2. سمات الممارسات القائمة على التقاليد واللاعبون الرئيسيون فيها

3. 3. كبا مندي كدراسة حالة

3. 3. 1. التعدي والعدالة

3. 3. 2. العراف والطبيب التقليدي

3. 3. 3. المصالحة

3. 3. 4. التأثيرات الخارجية

4. الممارسات القائمة على التقاليد اليوم

4. 1. أثر الصراع

4. 2. الممارسات التقليدية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان

4. 3. مبادرات المجتمع المدني

5. تقييم آليات العدالة التقليدية والمصالحة في سيراليون

5. 1. نقاط القوة

5. 2. نقاط الضعف

5. 3. الفرص

5. 4. التهديدات

6. الاستنتاجات

المراجع وقراءات إضافية

الفصل السادس: مؤسسة الباشنغانتاهي في بوروندي (أسومبتا نانيوي-كابوراهي)

1. الصراع في بوروندي

1. 1. بداية صراع دموي

1. 2. آب/ أغسطس 1988: دعوة فاترة للديمقراطية

1. 3. بوروندي في مهب رياح التحول الديمقراطي

1. 4. الحرب الأهلية والمفاوضات

1. 5. مراحل في تطور العدالة الانتقالية في بوروندي

2. آلية العدالة التقليدية: مؤسسة الباشنغانتاهي

2. 1. وصف المؤسسة

2. 1. 1. المفهوم

2. 1. 2. أصل واختيار الباشنغانتاهي

2. 1. 3. ترسيم الباشنغانتاهي ومعنى القسَم

2. 1. 4. عمل المؤسسة وبنيتها الأصلية

2. 1. 5. المهام والمبادئ الرئيسية للمؤسسة

2. 1. 6. المبادئ الدافعة للمؤسسة

2. 2. تطور مؤسسة الباشنغانتاهي من الحقبة الاستعمارية إلى الأنظمة الجمهورية

2. 2. 1. تحت النظام الاستعماري

2. 2. 2. بعد الاستقلال

3. مؤسسة الباشنغانتاهي اليوم

3. 1. أثر أزمة عام 1993 على المؤسسة

3. 2. إعادة تأهيل المؤسسة

4. نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات

4. 1. نقاط القوة

4. 1. 1. أحد عوامل التماسك الاجتماعي

4. 1. 2. بعدها الوطني

4. 1. 3. مؤسسة ديمقراطية

4. 1. 4. عدالة قريبة من الناس

4. 2. نقاط الضعف

4. 2. 1. ضعف الأحكام

4. 2. 2. الوضع الغامض للنساء

4. 3. الفرص

4. 3. 1. عملية إعادة التأهيل الذاتي للمؤسسة

4. 3. 2. عضوية قوية للمثقفين

4. 4. التهديدات

4. 4. 1. نزعة محافظة بلا جدوى

4. 4. 2. العلاقة بين الباشنغانتاهي والمسؤولين المنتخبين محليًا

4. 4. 3. أثر الفقر

4. 4. 4. الشبح الدائم للتسييس

5. الاستنتاجات والتوصيات

5. 1. توصيات عامة

5. 2. لحكومة بوروندي

5. 3. للمجلس الوطني للباشنغانتاهي

5. 4. للمجتمع الدولي

المراجع وقراءات إضافية

الفصل السابع: الاستنتاجات والتوصيات (لوك هويسه)

1. وجهان للممارسات القائمة على التقاليد

1. 1. العقبات والنواقص

1. 1. 1. محدودية النطاق

1. 1. 2. شروط صعبة في إجراء العمليات

1. 2. نقاط القوة

1. 2. 1. المساءلة

1. 2. 2. كشف الحقيقة

1. 2. 3. المصالحة

1. 2. 4. ترميم العلاقات المجتمعية المحطمة

3. تحليل حذر لنقاط القوة والضعف

3. 1. الفعالية النسبية

3. 2. الشرعية الجزئية

3. 2. 1. على المستوى المحلي

3. 2. 2. المجتمع الدولي

2. 3. الملخص

3. توصيات في مجال السياسات

3. 1. قواعد عامة

3. 2. للمعنيين المحليين

3. 3. للمعنيين الدوليين

3. 3. 1. قواعد عامة

3. 3. 2. للأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية الأخرى

3. 3. 3. للبلدان المانحة والمنظمات الدولية غير الحكومية

3. 4. أخيرًا

المراجع

المربعات والجداول

المربع 1: الخصائص المثالية-النموذجية لأنظمة العدالة غير الرسمية في أفريقيا جنوب الصحراء

المربع 2: دور الغاتشاتشا في رواندا: توصيات للمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين

المربع 3: الحجج المؤيدة والمعارضة لاستخدام الغاتشاتشا التي برزت خلال المداولات مع الرئيس، 1998 – 1999

المربع 4: خلفية الصراعات في أوغندا منذ الاستقلال

المربع 5: قانون العفو العام في أوغندا، 2000

المربع 6: قانون العفو العام في أوغندا (التعديل)، 2006

المربع 7: طقس المصالحة ماتو أوبوت في شمال أوغندا

المربع 8: إجراءات لعنة انغيلي غبا لدى الكبا مندي في سيراليون

المربع 9: ترسيم أوموشينغانتاهي في بوروندي

الجدول 1: نظام محاكم الغاتشاشا في رواندا: التصنيف وإصدار الأحكام

الجدول 2: الملاحقات القضائية ذات العلاقة بالإبادة الجماعية في رواندا: عدد المشتبه بهم في تموز/ يوليو 2006

الجدول 3: الأنشطة خلال محاكمات الغاتشاتشا في رواندا، تموز/ يوليو 2006 – شباط/ فبراير 2007

حول المؤلفين

حول المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات

الفصل الأول

مقدمة: المقاربات القائمة على التقاليد في صنع السلام، والعدالة الانتقالية وسياسات المصالحة

لوك هويسه

“يتم العمل بآليات العدالة التقليدية، مثل كولو كوور، وماتو أوبوت، وكايو كوك، وآيلوك وتونو تشي كوكا وغيرها، كما تمارسها المجتمعات المحلية المتأثرة بالصراع، مع إجراء التعديلات الضرورية، كجزء محوري من إطار المساءلة والمصالحة”. هذه الفقرة هي نص المادة 1.3 من اتفاق أولي حول المساءلة والمصالحة، وُقّع في أواخر حزيران/ يونيو 2007 من قبل حكومة أوغندا وحركة المتمردين المعروفة باسم جيش الرب للمقاومة. وقد تشكل خطوة رئيسية نحو النجاح في مفاوضات السلام في جوبا، والتي ينبغي أن تضع حدًا لحرب أهلية طويلة ووحشية في الجزء الشمالي من أوغندا. تعد الإشارة الصريحة إلى أدوات العدالة الانتقالية في سياق صنع السلام والعدالة أمرًا مبتكرًا. وهذه إحدى أقوى العلامات على اهتمام يتزايد بسرعة بالدور الذي يمكن لهذه الآليات أن تلعبه في المراحل الانتقالية.

قبل حوالي عشر سنوات، بدأ الروانديون، الذين يصارعون التركة الثقيلة للإبادة الجماعية، بالبحث في إمكانية اللجوء إلى أداة غير رسمية لتسوية النزاعات، تسمى غاتشاتشا، في سياستهم لتحقيق العدالة الانتقالية. ومنذ ذلك الحين، تم إنشاء الآلاف من هذه المحاكم الشعبية. لقد حددت وحاكمت أعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين يشك في أنهم شاركوا في أحداث نيسان/ أبريل – حزيران/ يونيو في 1994. لقد اجتذبت أنشطة الغاتشاتشا في العدالة والمصالحة اهتمامًا عالميًا. وقد كتب الأكاديميون عددًا لا يحصى من المقالات والكتب حول الموضوع. وقدمت المنظمات الدولية غير الحكومية والبلدان المانحة تمويلًا سخيًا لهذه الأنشطة. وقد حظيت عمليات إعادة الإدماج الطقسي للمقاتلين السابقين في موزمبيق وسيراليون بترحيب مماثل. لقد شكّل ذلك ولادة حالة من الرواج الكاسح لمثل هذه الأنشطة.

يتناول الجزء الأول من هذا الفصل نشوء التقنيات التقليدية في صنع السلام، وسياسات العدالة الانتقالية والمصالحة. ومن ثم يستعرض الصعوبات التي يطرحها المصطلح والمنهجية في دراسة الأداء الفعلي للأدوات ذات الأساس التقليدي. ويقدم الجزء الثالث تحليلًا مقارنًا لمثل تلك الممارسات في البلدان الأفريقية الخمسة التي تشملها دراسات الحالات في هذا الكتاب.

1. الآليات التقليدية في سياق أوسع

عندما تنتهي حرب أهلية، أو إبادة جماعية أو دكتاتورية وحشية، يطرح السؤال المحتوم المتمثل في كيفية التعامل مع أولئك الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. منذ نهاية الأربعينيات وحتى أواسط الثمانينيات، كان الجواب هو تحاشي مثل تلك التركات المؤلمة. اتخذت هذه السياسة أحيانًا شكل الصمت المفروض ذاتيًا، كما كان الحال في كمبوديا بعد الخمير الحمر. في مناطق أخرى، مثل إسبانيا بعد زوال نظام فرانكو، تم التوصل إلى حالة النسيان نتيجة تسوية تفاوضية بين النخب التي خلفته، أو تم ترسيخ الإفلات من العقاب من خلال قوانين عفو رسمية؛ وتعد شيلي خلال حكم بيونشيه في أواخر السبعينيات مثالًا صارخًا على ذلك. وتمثلت الإستراتيجية المهيمنة في )محاولة( “إغلاق الحسابات”. هذا الرد مفاجئ فعلًا. في سياق المرحلة التي أتت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، كان التركيز على المساءلة. تم وضع أساس قانوني لمحاربة الإفلات من العقاب على شكل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 1948، وفي اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949. وحاكمت محاكم نورمبيرغ وطوكيو قادة حكومتي ألمانيا واليابان خلال الحرب. غير أن هذه النزعة حيال تحقيق درجة أكبر من المساءلة عن جرائم حقوق الإنسان الجسيمة لم تستمر في العقود التي تلت. كان الصمت، والنسيان والعفو هي القواعد التي سادت، وكانت محاكمات قادة الطغمة العسكرية في اليونان (عام 1974) استثناءً بارزًا على ذلك.

حدث تحول رئيسي، على أساس أخلاقي وسياسي معًا، منذ أواسط ثمانينيات القرن العشرين وما بعد.

ازدهر التنامي العالمي لثقافة حقوق الإنسان وتحول إلى معركة جديدة، باتت أوسع بكثير الآن، ضد الإفلات من العقاب. تعاونت المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان، إضافة إلى منظمات حقوق إنسان غير حكومية كبيرة لوضع أعراف وممارسات واجب الملاحقة القضائية للجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب. ونجم عن هذا بدوره تأسيس محاكم خاصة في لاهاي (ليوغسلافيا السابقة) وأروشا (لرواندا) والمحكمة الجنائية الدولية، وفي الانتشار التدريجي لمبدأ الولاية القضائية العالمية. علاوة على ذلك، فإن اختيار العدالة الجزائية كإستراتيجية بات جزءًا من اتفاقيات السلام التي يتم التوصل إليها بوساطة دولية، كما في غواتيمالا وسيراليون وبوروندي.

لكن في الوقت نفسه، طرحت أسئلة حول إمكانية إجراء الملاحقات القضائية الممنهجة في السياقات التي يكون فيها تغيير النظام عملية بالغة الحساسية و/أو التعقيد. أشار القادة السياسيون وقادة المجتمع المحلي إلى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العديدة، التي قد تجعل من المستحيل على مجتمعاتهم إنجاز واجب الملاحقة القضائية. أدت الشكوك حول استخدام المحاكمات إلى البحث عن آليات بديلة و/أو تكميلية لتحاشي مخاطر المبالغة في تطبيق العدالة الجزائية أو عدم تطبيقها بما يكفي. شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، والمبدأ الذي اتبعته في “العفو مقابل الحقيقة”، نقطة تحول. علاوة على ترسخ قناعة بأن وجود أداة واحدة، في معظم الظروف، لن يكون كافيًا. كان هناك حاجة لمزيج من التدابير والأدوات، مثل العفو المحدود أو الحصانة المؤقتة، الدراسة أو التحقق أو التطهير، إنشاء لجنة حقيقة، وعدد من الطقوس (الرمزية). مثل هذا المزيج كان ولا يزال ينبغي أن يكون مبتكرًا وإبداعيًا، بسبب فرادة كل مجتمع يخرج من صراع عنيف. وهكذا، فإن ما نشهده هو تعديل محلي لنماذج كانت موجودة سابقًا في التعامل مع ماض مؤلم، بهدف أن تؤخذ بعين الاعتبار المخاطر العديدة التي تعتري المجتمعات في المراحل الانتقالية. وتتمثل النتيجة الإجمالية في الانتقال من ثنائية الأمر الواقع )الإفلات من العقاب أو المحاكمات( إلى مفاهيم متعددة للعدالة والمصالحة، أي أدوات تستعمل في سياق الدولة أو في غير سياق الدولة، أو تقنيات قانونية، وشبه قضائية وغير قضائية.

وكجزء من هذا التطور المهم، حولت بعض مجتمعات ما بعد الصراع اهتمامها إلى التراث الذي تمتلكه من ممارسات لدى شعوبها الأصلية في تسوية النزاعات والمصالحة. الحجة هنا، هي أنه يمكن تبنّي أو تعديل أنظمة العدالة التقليدية وغير الرسمية لتطوير استجابة مناسبة لتاريخ من الحروب الأهلية والقمع. اعترف كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة رسميًا بهذا التطور في تقريره الذي وضعه في آب/أغسطس 2004 حول سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع: “ينبغي إيلاء الاهتمام اللازم للتقاليد الأصلية وغير الرسمية في إقامة العدل أو تسوية النزاعات، لمساعدتها على الاستمرار في دورها الذي يكون حيويًا في كثير من الأحيان، وأن تؤدي ذلك الدور بما ينسجم مع المعايير الدولية والتقاليد المحلية على حد سواء”. ينبغي وضع هذا التقرير في هذا السياق المجتمعي والسياسي والأكاديمي.

1. 1. مناظرة مستمرة

في النقاش العام المستمر حول العدالة الانتقالية، ينقسم الزعماء السياسيون وأعضاء المجتمع المدني والأكاديميون حول عدد كبير من النقاط. وتتمثل المسألة الأكثر إثارة للانقسام، في كيفية تحقيق التوازن بين المطالب بتحقيق العدالة من جهة والقيود السياسية العديدة من جهة أخرى.

أولئك الذين يؤكدون على الآثار المفيدة للملاحقة القضائية يقدمون مجموعتين من الحجج. إحدى هذه الحجج تتعلق بالضحايا؛ حيث إن مجتمع ما بعد الصراع يترتب عليه التزام أخلاقي بملاحقة المرتكبين قضائيًا ومعاقبتهم، لأن القصاص هو بالتحديد ما يريده معظم الضحايا. يسهم ذلك في بلسمة جراحهم واستعادة ثقتهم بأنفسهم، لأنه يشكل إقرارًا علنيًا بشأن مَن كان على حق ومن كان على خطأ. ومن هنا، فإن ذلك يبرئ الضحايا من أي أوصاف تتعلق ب “الإجرام” كانت قد ألصقت بهم من قبل سلطات الماضي، أو من قبل مجموعات المتمردين أو النخب الجديدة. وتقول هذه الحجة، بأن المحاكمات وحدها هي التي تؤدي إلى الاعتراف الكامل بقيمة وكرامة ضحايا الانتهاكات التي حدثت في الماضي.

مجموعة ثانية من الحجج تتعلق بترسيخ السلام والاستقرار السياسي والمحافظة عليهما. يقال إن الملاحقات القضائية تؤدي إلى تجنب عمليات الانتقام الشخصية التي لا ضابط لها. ما لم يتحقق ذلك، فسيشعر الضحايا بإغراء الاقتصاص وتحقيق العدالة لأنفسهم.

عندها، تصبح هناك مخاطرة في نشوء مجموعات معينة تعطي لنفسها الحق في تطبيق العدالة، وحالات إعدام خارج إطار القانون وتصاعد أعمال العنف. إضافة إلى ذلك، فإن مثل هذه “العدالة الذاتية” يمكن أن تتسبب في حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية. كما أن المحاكمات توفر حماية من عودة أولئك الذين كانوا السبب في مآسي الحرب والقمع. إن بقاء نظام تأسس حديثًا، يعتمد على إجراءات قضائية سريعة وحازمة ضد المسؤولين عن أكثر انتهاكات حقوق الإنسان خطورة. يُعتقد أن ذلك يوفر حماية ضرورية من التخريب “من الداخل”، ويعد وسيلة لتحقيق الحد الأدنى من الأمن الشخصي. إضافة إلى ذلك، فإن المحاكم الجنائية ترسخ مبدأ المساءلة الفردية. وهذا أمر جوهري في القضاء على التصور الخطير بأن مجموعة كاملة (على سبيل المثال “الهوتو”، “التوتسي”) مسؤولة عن العنف وارتكاب الأعمال الوحشية. في كثير من الأحيان تكون فكرة الذنب الجماعي مصدرًا للتنميط السلبي، الذي يمكن أن يؤدي بدوره إلى المزيد من العنف. كما يعتقد أن الملاحقات القضائية تشكل أقوى رادع ممكن ضد حدوث انتهاكات مستقبلية لحقوق الإنسان، والضمانة الأكثر فعالية ضد استمرار العنف والأعمال الوحشية. ويمكن أن تنجح في كسر الحلقة المفرغة للإفلات من العقاب والتي تؤدي إلى المظالم في العديد من أنحاء العالم. وأخيرًا، تعد الإجراءات الجزائية ضد مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية واجبًا بموجب القانون الدولي.

من ناحية أخرى، فإن البعض يشكك بما إذا كان العقاب المباشر هو الرد السليم في أي سياق وفي كل سياق. إن نهاية حرب أهلية أو فترة من القمع العنيف، تؤدي إلى نشوء أجندة معقدة تتمثل في إعادة بناء الآليات والأجهزة السياسية والخدمة المدنية، ضمان حد أدنى من الأمن الشخصي، نزع سلاح الحركات المتمردة، إعادة تنظيم الجيش، إعادة بناء البنية التحتية، إعادة بناء الاقتصاد، تحقيق الاستقرار للعملة، تأسيس جهاز قضائي غير متحزب ، تنظيم الانتخابات، معالجة الضحايا، وإصلاح الأضرار التي لحقت بهم وما إلى ذلك. قد يكون التعامل مع المرتكبين، وربما بوسائل الملاحقة الجزائية، واحدًا من عدد كبير من التحديات. في معظم الأحيان سيكون من المستحيل معالجة جميع هذه المهام في الوقت نفسه، وبالتالي ينبغي الاختيار من بينها. يقال إن مكان العدالة بشكل عام، والمحاكمات بشكل خاص، في أجندة ما بعد الصراع يعتمد على العلاقة الخاصة بين القوى السياسية والثقافية والتاريخية. قد يكون هناك مشاكل واحتياجات أكثر أهمية و/أو أكثر إلحاحًا من السعي لتحقيق العدالة من خلال المحاكمات.

إضافة إلى ذلك، فإن الملاحقات القضائية تكون متفاوتة في سياقات انتقالية معينة يمكن أن تؤدي إلى آثار تزعزع استقرار تسوية سلمية أو تحول هش نحو الديمقراطية. في الواقع، وبالتحديد ومن أجل تحاشي مثل هذه النتيجة، فإن صناع السياسات في أميركا اللاتينية اختاروا عدم اللجوء إلى الماكمات طوال عقد

الثمانينيات من القرن العشرين.

علاوة على ذلك، فإنها قد تتناقض مع الثقافة القانونية لمجتمع ما بعد الصراع. يقول ديزموند توتو، رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، إن العدالة على النمط الغربي لا تتلاءم مع الفقه القضائي الأفريقي، كما أنها غير شخصية. أما المنظور الأفريقي للعدالة، فهو أنها تهدف إلى “معالجة الانتهاكات

وإعادة تحقيق التوازنات واستعادة العلاقات المقطوعة. يسعى هذا النوع من العدالة إلى إعادة تأهيل الضحية والمرتكب على حد سواء؛ المرتكِب الذي ينبغي أن يمنح الفرصة لإعادة الاندماج في المجتمع الذي أساء إليه بجرائمه”. وأخيرًا، قد يكون هناك مجموعة كاملة من النواقص والمخاطر العملية، مع احتمال أن تكون الأدلة قد أتلفت. في العديد من الحالات قد يكون نظام القانون الجزائي في حالة صدمة أو مشلولًا بشكل خطير، أو ينظر إليه على أنه جزء لا يتجزأ من النظام القديم. يمكن لغياب الأدلة أن يؤدي إلى إطلاق سراح مرتكبين معروفين. مثل هذه العدالة، التي ستعتبر اعتباطية وتلحق ضررًا كبيرًا بثقة الضحايا في النظام برمته.

1. 2. نشوء منظور عابر للثقافات

للوهلة الأولى، يبدو أن المناظرة تقوم بين نموذجين متعارضين. من جهة، نُمتح كل الأولوية للملاحقة القضائية. والمحكمة هنا هي المعيار الذهبي. وينبغي على المجتمع الدولي، من خلال المحكمة الجنائية الدولية الدائمة أو من خلال مبدأ الولاية القضائية العالمية، التصرّف إذا امتنعت السلطات المحلية متعمدة أو بحكم الضرورة عن اتخاذ إجراءات جزائية. في جميع الحالات، يلعب القضاة المحترفون الدور المحوري، ويعطى المشتبه به قدر من الاهتمام أكبر مما يعطى للضحية. إن واجب الملاحقة القضائية يشكل حجة أقوى من العديد من الظروف التي يخلقها السياق المحلي. وتوفر المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الكبرى مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، قوة النمو الرئيسية لهذا النموذج.

على الطرف الآخر، هناك اختيار إستراتيجية تحاول تجنب اللجوء إلى المحكمة قدر الإمكان. وينتقل مركز الجاذبية هنا من قاعة المحكمة إلى جلسة الاستماع، ومن القاضي إلى زعيم المجتمع المدني المحلي، ومن الهوس بالذنب الفردي إلى البحث عن أنماط مجتمعية في الأعمال الوحشية المرتكبة، ومن الانتقام القانوني إلى المصالحة الطقسية، ومن الدوافع الجزائية الموجهة دوليًا إلى الإقرار الكامل بالفرص التي يوفرها السياق المحلي.

باستخدام لغة تحليلية أكثر، يمكن للمرء أن يضع الأنموذجين على طرفي عملية متواصلة. من جهة هناك إستراتيجية تطلقها وتنظمها وتسيطر عليها مؤسسات الدولة (على المستوى الوطني أو الدولي). وتكون إجراءاتها رسمية وقانونية – عقلانية، والمحكمة الجنائية هي النمط الرئيسي في هذه العملية. ومن جهة أخرى من هذه العملية، هناك سياسات يطلقها وينظمها المجتمع المحلي، ويطغى على هذه السياسات الطابع غير الرسمي والطقسي – المجتمعي. ويشكل الطقس المتّبع في شمال أوغندا والمتمثل في طقوس سحق بيض الدجاج بالقدم، والذي يستخدم لإعادة إدماج الجنود الأطفال السابقين، واحدًا من أكثر الأمثلة الملفتة على هذا النوع من المقاربات.

ثمة أسباب مقنعة لتصحيح صورة تصنيفين “نقيين” يختلفان من جميع الأوجه ويقصي أحدهما الآخر. أولًا، في الحالات التي تحدث في العالم الواقعي تجمع سياسات العدالة الانتقالية، ولو بدرجات متفاوتة، مكونات من كلا الطرفين. لقد أصبحت الغاتشاتشا، على سبيل المثال، رسمية جدًا وبات بوسعها فرض أحكام بالسجن، رغم أنها تدار من قبل قضاة غير محترفين. ثانيًا، فإن المقاربة الأصلية المتمثلة في التفكير بشكل مطلق (بالملاحقة القضائية أو الصفح والنسيان) تم التخلي عنها تدريجيًا. ويمكن تفسير هذا التطور بما حدث على عدد من المسارات. يتمثل أحد التفسيرات في النجاح النسبي للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، والتي تكونت من مزيج إبداعي من الإجراءات الرسمية وغير الرسمية والأعراف الدولية والتقنيات المصممة محليًا. كما أن هناك وعيًا متزايدًا بأن توسيع نطاق التنوع المحلي أمر مبرر تمامًا. وهذا بالتحديد ما عنته دايان أورنتليشر، أستاذة القانون الدولي والخبيرة المستقلة لدى الأمم المتحدة في مجال محاربة الإفلات من العقاب، عندما كتبت مؤخرًا: “بالنظر إلى النطاق الواسع والاستثنائي للتجارب والثقافات الوطنية، كيف يمكن لأي كان أن يتخيل وجود صيغة جامعة مانعة للعدالة الانتقالية؟ إضافة إلى ذلك، فإن التخطيط للعدالة والمصالحة ما بعد الصراع أصبح جزءًا لا يتجزأ ولا يمكن تجنبه من أي عملية مفاوضات سلام. ولذلك فإن هناك مخاطرة حقيقية وكبيرة بأن تقضي عملية سلام تفرض الملاحقات القضائية على أي احتمال للسلام. وتعد حالة شمال أوغندا دليلًا مقنعًا على المآزق الصعبة التي يترتب على المجتمع المحلي والميسرين الدوليين مواجهتها عندئذ.

1. 3. أنظمة العدالة والمصالحة التقليدية: من مقاربة معيارية إلى رؤية أكثر واقعية

لقد فتح التحول الحاصل في أنماط العدالة الانتقالية فضاءًا واسعًا لمناقشة دور الآليات التقليدية. في البداية، حظيت نقاط قوة هذه الصيغة (كونها ذات أصل محلي ويمتلكها السكان المحليون وراسخة ثقافيًا، وما إلى ذلك) بقدر مبالغ به من التغطية. لم يكن هناك نقص في معرفة العديد من نقاط ضعفها، لكن تم تجاهلها في كثير من الأحيان. وكانت النتيجة، قدر كبير من صنع الأساطير ومناقشة “التقاليد المخترعة”، وأدت الفجوة المعرفية الناجمة عن ذلك إلى عملية صنع قرار تستند إلى بيانات ضعيفة، وإلى التقييم والتخمين المسبقين.

تغير المزاج حالما بدأت نتائج الدراسات التجريبية بالانتشار. وقد اتضح ذلك في أبرز أشكاله فيما يتعلق بمبادرة غاتشاتشا. واجه البرنامج عددًا كبيرًا من المشاكل التشغيلية. إضافة إلى ذلك، لوحظ وجود أثرين مشكوك بهما لما وصف بأنه نموذج واعد جدًا. كان يتوقع من محاكم الغاتشاتشا أن تقلص بشكل كبير عدد الأشخاص الموجودين في السجن (120.000) والتعامل مع الحالات الكثيرة للإبادة الجماعية. لكن كما ستتم مناقشته في الفصل المتعلق برواندا، فإن الاستخدام المشكوك به للمحاكم الشعبية أدى إلى وضع أكثر من 800.000 رجل وامرأة على قائمة المشتبه بهم. وكان الأثر الثاني غير المرغوب به هو أن الثقة المتبادلة بين المجموعتين العرقيتين – الباهوتو والباتوتسي – تراجعت. إلاّ أن التحول الأكثر أهمية في التصور والتقييم كان في الفهم المعمق، الذي بات مقبولًا الآن على نطاق واسع، بأن التقنيات التقليدية، في رواندا وغيرها من بلدان ما بعد الصراع، تغيرت كثيرًا من حيث الشكل والمضمون نتيجة أثر الاستعمار والتحديث والحرب الأهلية.

وهكذا فإن المقاربات المعيارية باتت تتراجع تدريجيًا لصالح تقييمات عملية وواقعية للدور المحتمل للآليات التقليدية داخل الإطار الأوسع لسياسات المصالحة والعدالة الانتقالية.

يطمح هذا الكتاب إلى تطوير تبصرات تستند إلى دراسات حالات قام بها كتاب محليون، تجعل النقاش أكثر عمقًا وتزيد من الوعي بين جميع المعنيين، على المستويين المحلي والدولي، بنطاق أدوات السياسات والموارد السياقية المتوافرة لهم في مسعاهم لتحقيق السلام المستدام في مجتمعات ما بعد الصراع.

والآن، تتمثل الخطوة التالية في معالجة المشاكل المعقدة التي تظهر خلال عملية البحث عن مصطلحات ومنهجية مقبولة.

2. دراسة الممارسات القائمة على التقاليد: مشاكل في المصطلح والمنهجية

“ينزع مصطلح “تقليدي” بدلالاته التي تؤكد على المركزية الأوروبية إلى الإشارة إلى وجود هيكليات معيارية داخلية”. كما يشير أيضًا إلى أنماط، تبدو راسخة في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية ساكنة. لكن “ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن المؤسسات الأفريقية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، لم تكن أبدًا في حالة من العطالة. إنها تستجيب للتغيرات الناجمة عن عدد من العوامل والقوى”. كلا الاقتباسين هما من دراسة الحالة التي أجراها جو آلي على سيراليون (في الفصل الخامس). وهما يشيران بشكل مقنع إلى المشاكل التي تنشأ في أي دراسة لأدوات العدالة والمصالحة القائمة على التقاليد. المصطلح إشكالي. إلى أي حد يكون استخدام وصف “تقليدي” مبررًا إذا كانت الآلية عرضة للتغيير الدائم تقريبًا؟ هل هناك أي بدائل مرضية؟ إضافة إلى ذلك، إذا كان موضوع الدراسة هدفًا دائم التحرك، أين ينبغي توجيه محور المراقبة؟ ثانيًا، يظهر العديد من الأسئلة ذات الطبيعة المنهجية، مثل كيف يمكن تجنب المركزية العرقية في تطوير الأفكار الرئيسية التي ستوجه التحليل، وما إذا كان من الممكن على الإطلاق بالنسبة للمراقبين الغربيين أن يفسروا هذه الظواهر بطريقة سليمة.

هذه أسئلة لا يمكن تحاشيها. وهذا الجزء من الفصل يعالجها؛ إلاّ أن هذا لا يمكن أن يكون سوى تمرين

غير مكتمل.

2. 1. مصطلحات إشكالية

في القسم المتعلق بمحتوى الممارسات التقليدية في شمال أوغندا من الفصل الرابع، يكتب جيمس لاتيغو أنه لا يزال هناك حاجة للاستمرار في تتبع العمليات التي أدت إلى تطور بعض الممارسات الأصلية، والى تلاشي غيرها وظهور ممارسات جديدة، مثل الأشكال المختلفة للمعالجة النفسية. لقد كان للسلطات الاستعمارية وعمليات التحديث، والحروب الأهلية أو الإبادات الجماعية آثار سلبية عميقة على المؤسسات الأصلية بحيث أنها لم تعد، إذا توخينا الدقة، تقليدية. المشكلة، هي أن المصطلحات البديلة تنزع أيضًا إلى إثارة أسئلة محرجة. “عُرفي” قريبة من “تقليدي”. البعض يفضل “غير رسمي”، بحيث يركز على التناقض بين الطبيعة الرسمية وغير الرسمية لمؤسسات العدالة التابعة للدولة، لكن بعض دراسات الحالات في هذا الكتاب تظهر أن الآليات المعنية تكتسب سمات رسمية حالما تصبح، بشكل أو بآخر، جزءًا من سياسة العدالة الانتقالية. يظهر هذا بوضوح في حالة الغاتشاتشا الرواندية، كما يبين الفصل الثاني. تظهر مشكلة مشابهة عندما يستخدم تعبير “غير الدولة” كصفة. ينزع استخدام هذه التقنيات، في سياق سياسة عدالة انتقالية أوسع، إلى إدخالها في مجال نفوذ سلطات ومؤسسات الدولة. لا يبدو أن هناك مصطلح عام يحقق الغرض.

هذا النقاش، يتجاوز كونه جولة مصطلحية خالصة. إنه يشير إلى أحد الملامح الجوهرية في الأدوات التقليدية اليوم، وهي أنها هجينة وفي حركة دائمة جيئة وذهابًا بين أصولها واستيعابها واستخدامها من قبل الدولة.

يحافظ هذا الكتاب على مصطلح “تقليدي” على أنه المصطلح الرئيسي، نظرًا لغياب بديل أكثر دقة. لكننا نقرّ صراحة بالعمليات الديناميكية التي تدفع شكل ومحتوى موضوعنا. كل دراسة حالة، تصف دورة حياة تقنيات العدالة والمصالحة القائمة على التقاليد، وتضع الصيغة الفعلية في مواجهة مع الأشكال التي كانت عليها سابقًا. إلا أن التحليل، من حيث نقاط القوة والضعف، يركز على الخصائص والأداء الراهنين.

2. 2. المزالق والخيارات المنهجية

الإعتدال العرقي هو كالطبيعة: إخرجها من الباب الأمامي وستعود من إحدى النوافذ. إنها مصدر رئيسي للتصورات الخاطئة عند النظر إلى ممارسات العالم الخارجي. وهذه مخاطرة محددة في أي دراسة أو تقرير يتعلق بالتقاليد كظاهرة اجتماعية – سياسية في المجتمعات الأفريقية. ثمة نزعة قوية لا تزال موجودة لإسباغ شيء من الرومانسية على الموضوع، خصوصًا في الأوساط الأكاديمية وأوساط المنظمات غير الحكومية في أوروبا وأميركا الشمالية. الأكثر من ذلك، هو أن بعض الحواجز الثقافية التي تعترض خط النظر مرتفعة جدًا، وكذلك العوائق اللغوية. في كتابه عدالة المحاكمات: المحكمة الجنائية الدولية وجيش الرب للمقاومة، يبين تيم آلن، وهو خبير بشؤون شمال أوغندا، مدى التشوش والاختلاط التي تثيرها بعض الأفكار المحورية في المصطلحات المحلية بالنسبة للمراقبين الخارجيين: “في لغة اللو، «العفو» و«الصفح» لا فرق بينهما، حيث تستخدم نفس الكلمة (تيمو كيكا) بالمعنيين. كانت المنظمات المسيحية والزعماء «التقليديون» عرضة بشكل خاص للخلط بين الفكرتين، وكانوا يقولون إن ثمة نظام عدالة لدى شعب الآشولي يستند إلى الصفح يحظى بمكانة أعلى من مجرد التشريع التقليدي وإنفاذ القوانين. وقد أخذت العديد من المنظمات غير الحكومية بسذاجة هذا الكلام بمعناه الظاهري”.

لتحاشي مثل هذه المزالق وغيرها، اختارت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات إشراك كتاب محليين في هذا المشروع. الاستثناء الوحيد هو الفصل المتعلق بالغاتشاتشا في رواندا. كاتبه باحث بلجيكي، قضى فترات طويلة من الوقت يجري أبحاثًا ميدانية في المناطق الريفية في ذلك البلد الواقع على البحيرات العظمى. (الخبراء الروانديون الذين كانوا مشاركين أصلًا في المشروع انسحبوا منه). دراسات الحالات الأخرى، كتبها أفارقة على معرفة وثيقة بمجتمعاتهم. والنتيجة، كما تظهر مساهماتهم، هي مجموعة من دراسات البلدان المبنية على اطلاع واسع وذات صلة وثيقة بموضوعاتها. هؤلاء المؤلفون هم أنفسهم فاعلون في مجتمعاتهم بدرجات مختلفة، وليسوا مراقبين من بعيد يقرؤون ويكتبون من أمكنة مريحة توفرها جامعة أو منظمة غير حكومية أو جريدة. بعضهم كان له علاقة أيضًا بالصراعات التي تجري دراستها. وينتج عن هذا آراء قوية، بل استفزازية، حول أسباب الحرب التي مزقت بلادهم. كما أن لهم آراء صريحة حول دور آليات العدالة التقليدية والمصالحة. بعض القراء قد يجدون، نتيجة لذلك، أن هذا كان على حساب التوازن والحيادية. إلا أن منهجنا يتمتع بميزة إضفاء الوضوح على النقاش الدائر حول خيارات السياسات المتعلقة بالعدالة الانتقالية.

تعتمد الحالة الدراسية، إلى حد بعيد، على الأطر التحليلية التي توجه أبحاثنا ومراقبتنا، خصوصًا إذا كان الطموح هو جعل المنتَج مقارنًا قدر الإمكان. ولهذه الغاية، عمل الفريق (كبير الباحثين، والكتاب الآخرون وقائد المشروع) على قائمة قَحتُّق مشتركة للقضايا والمواضيع التي كان يفترض أن تغطي مواد المشروع. قدمت مسودة من القائمة وتمت مراجعتها بإسهاب في اجتماع مع المؤلفين في بريتوريا يومي 25 و26 أيلول/ سبتمبر 2006. لكن تم الاتفاق على أنه ليس من المقصود أن تكون القائمة إطارًا تشغيليًا صارمًا، لأن ذلك سيؤدي إلى ما يسمى عمى الملاحظة. إن المجتمع يصوغ بشكل دائم أشكال وتعابير جديدة لأنماط موجودة. ووحدها الأدوات البحثية التي تتمتع بالمرونة الكاملة يمكنها أن تسجل التجليات الجديدة، على سبيل المثال، لآليات العدالة غير الرسمية.

يقدم فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا مثالًا مقنعًا في دراستهما. لقد استعمل الضحايا والمرتكبون في غورونغوزا، في موزمبيق، نماذج قديمة من المعالجة والمصالحة لتطوير طقوس جديدة أكثر ملاءمة للظروف الفعلية لما بعد الصراع.

ثمة عاملان يبرران اختيار البلدان الخمسة لتكون جزءًا من هذا المشروع. إنها متشابهة إلى درجة كافية، بحيث يمكن المقارنة بينها. جميعها تعاني من تركة من الصراعات العنيفة. وفي الوقت نفسه، فإنها تشكل تنوعًا واسعًا من حيث نوع وحالة الصراع المحلي (مستمر في شمال أوغندا، قريب من تحقيق السلام في بوروندي، وانتهى في ثلاثة من البلدان التي يركز عليها المشروع)، ونوع العملية الانتقالية، ودرجة استخدام الأدوات المحلية الأصلية في برامج العدالة الانتقالية في البلد (أدمجت بشكل رسمي في رواندا، وارتبطت بشكل رسمي بلجنة الحقيقة، كما في سيراليون، ويخطط لإدماجها في أوغندا، ولا تستخدم بشكل واضح في بوروندي وموزمبيق). كما كان اختيار الحالات، يستند جزئيًا إلى مشاروات مع موظفي وزارة الخارجية البلجيكية، التي مولت المشروع.

3. خمس تجارب أفريقية

لقد كتبت الكثير من الأدبيات حول العدالة التقليدية بشكل عام، وخصوصًا كما كانت تعمل في الفترات ما قبل الاستعمارية والاستعمارية. ولقد كان المنهج ولا يزال أنثروبولوجيًا أو يركز على ظاهرة التعددية القانونية، أي تعايش أشكال من التقاضي في إطار الدولة وخارج إطار الدولة. كما انصب قدر من الاهتمام على طقوس المصالحة. إلاّ أن خصوصية مشروع المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، تكمن في تحليله للدور الذي تلعبه مثل تلك الآليات أو قد تلعبه في التعامل مع تركة الانتهاكات واسعة الانتشار لحقوق الإنسان.

3. 1. طموحات العدالة بعد العملية الانتقالية

لقد تمت الإشارة أعلاه إلى تعقيد الأجندة السياسية بعد انتهاء حرب أهلية أو انتهاء نظام حكم قمعي. يعد التعامل مع مصير الضحايا والمرتكبين إحدى المهام الجسيمة التي يتوجب على النخب والمجتمع المدني التصدي لها في هذه الحالة. يمكن اللجوء إلى سن تشريعات تقضي بالعفو العام، أو ملاحقة المرتكبين قضائيًا، أو تأسيس لجنة حقيقة، أو السعي إلى المصالحة من خلال الطقوس المحلية، أو بناء النصب التذكارية أو تطوير مزيج من هذه الإجراءات جميعها. لقد صاغ الأكاديميون والعاملون في هذا المجال مصطلح “العدالة الانتقالية” لتغطية مختلف السياسات التي تصمم للتعامل مع ماض عنيف. يتناول هذا القسم من الدراسة مدى وقوع التقنيات التقليدية في تسوية النزاعات ضمن نطاق تلك الفكرة الرئيسية.

كي نتمكن من إجراء مثل هذا التمرين، فإننا بحاجة أولًا لوصف أهداف العدالة بعد المرحلة الانتقالية.

3. 1. 1. الأهداف العامة

تعد دراسة الكيفية التي تعالج بها مجتمعات ما بعد الصراع تركة انتهاكات حقوق الإنسان جديدة نسبيًا. ونتيجة لذلك، فإن وجهات النظر بشأنها لا تزال متباينة. إلا أن ثمة إجماعًا حصيفًا بدأ بالظهور تدريجيًا فيما يتعلق بأهداف الحد الأدنى لسياسات العدالة الانتقالية.

ثمة هدفان عامان على مستوى الأفراد والمجتمعات المحلية. يتمثل الهدف الأول في بلسمة جراح الضحايا والناجين من الصراع. أما الهدف الثاني فيعالج ترميم المجتمع، بمعنى استعادة العلاقات المنقطعة بين أفراد مجموعة معينة أو بين مجتمعات محلية. يعمل الهدف الثاني على مستوى المجتمع أو على مستوى البلد بأسره. والغاية الرئيسية هنا هي منع تكرار الصراع العنيف، ليس أقله من خلال تعزيز قوة المؤسسات و/أو إنشاء مؤسسات وعمليات مصممة لهذا الغرض.

هل لهذه الطموحات العامة مكان في التقنيات التقليدية التي يركز عليها هذا الكتاب؟ والجواب، هو أنها موجودة في معظم الحالات. يعتقد فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا أن معالجة الصراعات المرتبطة بالحروب وتجنب تجدد العدوان، تقع في صميم الممارسات المحلية في موزمبيق (الفصل الثالث): “باستخدام الموارد الأصلية المتاحة والمتوافرة محليًا، تمكن الناجون من الحرب من الشروع في المهمة العظمى المتمثلة في ترميم حياتهم الفردية والجماعية”؛ وفي أمكنة أخرى في دراسة الحالة هذه، “في الفضاءات الاجتماعية التي تم إنشاؤها بهذه الطريقة، تتم إعادة تمثيل عنف الماضي؛ حيث يمكن التحدث عن الضغائن، والمرارة والمظالم في قلوب الناجين دون المخاطرة بإطلاق حلقات جديدة من العنف والانتهاكات”. طبقًا للباحث جو آلي، في الفصل المخصص لسيراليون: “الموارد المجتمعية، مثل آليات المساءلة الأصلية، مفيدة جدًا في بناء السلام، خصوصًا بعد صراع عنيف. يمكنها تيسير عمليات إعادة الإنتاج والمعالجة، حيث يمكن لأفراد المجتمع المحلي أن يتعاملوا معها بسهولة ويسر”. وفي كتابته عن المصادر الغنية للممارسات التقليدية لشعب الآشولي في شمال أوغندا (الفصل الرابع)، يظهر جيمس لاتيغو كيف أنها يمكن أن تؤدي إلى إعادة بناء علاقات الثقة، واستعادة التماسك الاجتماعي، ومنع ارتكاب جرائم مروعة جديدة.

ثمة قناعة متنامية في الدوائر السياسية والأكاديمية، بأن الأهداف العامة (مداواة الضحايا، وترميم النسيج الاجتماعي وحماية السلم) يمكن محاولة تحقيقها على أفضل نحو، من خلال البحث عن المصالحة والمساءلة وقول الحقيقة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالضحايا. يمكن تسمية هذه بـ “الأهداف الأداتية الأربعة”، التي ينبغي لجميع سياسات العدالة الانتقالية أن تشملها. كما يعتبرها تقريرنا، الأبعاد المحورية للأشكال القائمة على التقاليد لتسوية الصراعات بعد الحرب الأهلية والإبادة الجماعية.

3. 1. 2. أربعة أهداف باعتبارها أدوات

ستستخدم أفكار المصالحة، والمساءلة، والحقيقة والتعويض التي تتم مناقشتها أدناه، بوصفها البوابات الرئيسية لإجراء مراجعة مقارنة للتقنيات القائمة على التقاليد في البلدان التي يغطيها هذا المشروع.

المصالحة

“يتمثل الهدف الأعلى لأنظمة العدالة التقليدية لدى الكبا مندي (وفي الواقع لدى معظم المجتمعات الأفريقية) في المصالحة”. يشكل هذا أحد الاستنتاجات التي يخلص إليها الباحث جو آلي في دراسة حالة سيراليون. تركز أنشطة المصالحة المحلية، في كثير من الأحيان، على عودة المقاتلين السابقين. قام الكيورانديروز، أو المعالجون التقليديون في موزمبيق بطقوس إعادة إدماج الجنود السابقين. مثال آخر هو مويو كوم طقس “تطهير الجسد” في شمال أوغندا. خلال اجتماع كان يعقد للحكماء، كان الرجال والنساء الذين يعودون من الأسر يخضعون لعملية غسل لذنوبهم، ويمكن أن يعودوا للعيش معًا بانسجام مرة أخرى. تمكنت كاريتاس ماكيني، وهي منظمة غير حكومية تعمل في سيراليون، بنجاح من “إعادة جمع المقاتلين الأطفال السابقين مع أسرهم. وسعت الأسر «لتغيير قلوب » أبنائها من خلال مزيج من الرعاية، والدعم والممارسات الطقسية. كان العضو الأكبر في الأسرة يقوم عادة بتلاوة الصلوات على كأس من الماء ويفرك به جسد الطفل (وخصوصًا الرأس والأقدام والصدر)، طالبًا من الله والأسلاف أن يمنحوا الطفل “قلبًا باردًا”، وحالة من المصالحة والاستقرار يقيم فيها الطفل في المنزل، ويكون له علاقة طبيعية مع أسرته ومجتمعه”.

يحتوي قانون لجنة الحقيقة والمصالحة في ليبيريا الصادر في حزيران/ يونيو 2005 أحكامًا لاستخدام الآليات التقليدية في إدارة الصراع. وفي سيراليون أيضًا، تمكن مفوضو لجنة الحقيقة والمصالحة من “الحصول على المساعدة من الزعماء التقليديين والدينيين لتيسير جلساتها العامة وفي تسوية الصراعات المحلية الناجمة عن الانتهاكات السابقة أو لدعم عملية المعالجة والمصالحة”، طبقًا لتِيم كيلسول، المحاضر في السياسات الأفريقية الذي راقب جلسات استماع هذه اللجنة، من الواضح أن إضافة مراسم طقوس المصالحة التي تدار بعناية، إلى المجريات كان أمرًا مهمًا جدًا. ويكتب أن الطقوس “ولدت مناخًا عاطفيًا نجح في التأثير في العديد من المشاركين والمشاهدين، بما في ذلك كاتب هذه الكلمات، وهو ما أفسح المجال للمصالحة والسلام الدائم”. مراسم ماتو أوبوت في شمال أوغندا تهدف إلى مصالحة الضحايا والمرتكبين. في موزمبيق، تخلق أرواح ماغامبا سياقًا اجتماعيًا – ثقافيًا يسمح للأفراد والمجتمعات بالامتناع عن العنف وإعادة بناء العلاقات المنقطعة. في عام 1993، وبعد فترة من العنف المروع في “الحرب الأهلية غير المعلنة” في بوروندي، حاول أفراد أوبوشينغانتاهي – وهي مؤسسة محلية لتسوية النزاعات – تطوير عمليات للمصالحة. ونجحوا في عدة مجتمعات محلية، لكنهم أخفقوا في معظم المجتمعات الأخرى. كانت المصالحة، التي ينظر إليها بشكل رئيسي على أنها وسيلة لتحقيق الوحدة الوطنية، واحدة من الأهداف المعلنة عندما أصبحت محاكم الغاتشاتشا في رواندا جزءًا من سياسة أوسع للعدالة الانتقالية. إلاّ أن تجربتها الفعلية تثير شكوكًا جدية حول ما إذا كان يمكن وصف نتائجها بالناجحة.

المساءلة

يكتب جيمس لاتيغو في الفصل الرابع أن ممارسة ماتو أوبوت “تستند إلى قبول المرء الكامل للمسؤولية عن الجريمة التي ارتكبت أو عن انتهاك أحد المحظورات. ومن حيث ممارستها، فإن الخلاص ممكن، لكن فقط من خلال هذا الاعتراف الطوعي بالذنب، وقبول المسؤولية”. وتطبق مبادئ مماثلة في طقوس المصالحة التي يتم أداؤها في المناطق المجاورة لأوغندا. في موزمبيق، كما تظهر دراسة الحالة، يشكل الاعتراف بالذنب من قبل المذنب عنصرًا جوهريًا في مشاهد روح الغامبا. تم توجيه طقوس المصالحة في لجنة الحقيقة والمصالحة في سيراليون بشكل واضح نحو اعتراف المذنبين بالخطأ. الباشنغانتاهي في بوروندي لا تعالج اليوم تركة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلا أن مكوِّن المساءلة فيها بارز جدًا في الجلسات العرفية لتسوية النزاعات. كانت آلية الغاتشاتشا في رواندا بالأصل تنزع إلى تحميل المسؤولية للمذنب، رغم أن استعادة الانسجام الاجتماعي كان هدفها الأول. أما الغاتشاتشا الفعلية فهي تميل بقوة نحو القصاص.

لقد أصبح المدى الذي تتطلب فيه هذه الطقوس المساءلة الكاملة، عنصرًا أساسيًا في النقاشات حول واجب القانون الدولي في الملاحقة القضائية. وتقول الحجة هنا، بأن الميل نحو المصالحة وحتى الصفح لا يستبعد البحث عن الإقرار والمسؤولية والتعويض. يشكل هذا، في المرحلة الراهنة، عنصرًا محوريًا في النقاش حول دور المحكمة الجنائية الدولية في شمال أوغندا. كما تم استحضار نفس الحجة في اتفاقية جوبا في حزيران/يونيو 2007 بين الحكومة الأوغندية وقادة جيش الرب للمقاومة.

قول الحقيقة

يشكل قول الحقيقة جزءًا محوريًا في الممارسات المحلية لتسوية النزاع في العديد من البلدان الأفريقية. ومن الواضح أن هذا هو الحال في مجتمع الميندي في سيراليون، كما يوضح الفصل الخامس. يظهر وصف جيمس لاتيغو للأنظمة التقليدية للعدالة في شمال أوغندا كيف أن أحد أهدافها يتمثل في تأسيس رؤية مشتركة للتاريخ الجماعي للعنف. يلاحظ لارس ولدورف، الذي كان يدير المكتب الميداني لهيومن رايتس ووتش في كيغالي بين عامي 2002 و2004، أنه عندما نوقشت فكرة إدماج الغاتشاتشا في محاكمات الإبادة الجماعية في البداية، اقترح الباحثون المحليون استخدام المؤسسة بوصفها نسخة رواندا من لجنة الحقيقة، لأن نسختها الأصلية تشتمل على قدرات تمكنها من تطوير مثل هذا الدور. إن السعي لمعرفة الحقيقة من خلال السرد العام الطقسي مهم جدًا في حالة موزمبيق. بعد نهاية الحرب الأهلية كان الرد السياسي يتمثل في دفن الماضي وفرض الصمت الكامل. لقد منعت ثقافة الإنكار هذه الضحايا من استحضار معاناتهم واستعادة كرامتهم. أما طقوس روح الغامبا فتتيح الفرص للضحايا والمرتكبين، على حد سواء، للانخراط في الماضي. في بوروندي، يتوقع من أفراد أوبوشينغانتاهي تطوير الظروف التي من شأنها أن تؤدي إلى معرفة الوقائع الحقيقية في نزاع ما. لكن، وبينما يمكن لقول الحقيقة أن يكون جزءًا محوريًا في العديد من الآليات التقليدية، فإن الشكل الفعلي الذي تتخذه ليس بالضرورة النموذج العام/ الاعترافي “الغربي” الذي استخدم من قبل لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا.

التعويض وإصلاح الضرر

يشير جميع مؤلفي دراسات الحالات في هذا الكتاب، إلى أن الآليات التقليدية في بلدانهم تتطلب التعويض على الضحايا وإصلاح الضرر الذي لحق بهم. لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا التعويض قد تجسد بشكل كاف في سياق التعامل مع أحداث العنف الجماعي. ويؤكد معالجو الماغامبا في موزمبيق أنه من أجل تقديم معالجة ناجحة لتركة الحرب الأهلية، على المذنبين أن يصلحوا الضرر الذي أحدثوه. في رواندا، ينص تشريع الغاتشاتشا على نوعين من التعويض. تم إحداث صندوق للتعويض على الأفراد أو أسرهم أو عشيرتهم، لكن ذلك لم يتم تفعيله. الشكل الآخر ذو طبيعة جماعية، حيث ينص على العمل لصالح المجتمع المحلي. هذا الإجراء أيضًا واجه مشاكل عند التطبيق.

3. 2. سمتان بارزتان

نشرت المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي وهي منظمة غير حكومية في عام 2002 ، تقريرًا حول دور أنظمة العدالة غير الرسمية في أفريقيا جنوب الصحراء، لكن دون التركيز على سياق ما بعد الصراع. يحتوي التقرير قائمة طويلة من الخصائص المثالية المعتادة لمثل هذه الأنظمة (انظر المربع 1). هذه القائمة مفيدة جدًا. يشير البندان الأولان فيها إلى المصالحة والمساءلة، ومن خلال مصطلح “تصالحي”، إلى عناصر السعي لمعرفة الحقيقة والتعويض وإصلاح الضرر، وهي الأهداف الأدوات التي تمت مناقشتها في القسم 2.1.3. ومن ثم هناك خصائص تقدم تعبيرًا ملموسًا عن الطبيعة الطقسية – المجتمعية لها، وهي سمة تشكل اختلافًا جوهريًا عن الأدوات العقلانية – القانونية مثل المحاكم الجنائية. النقاط المتبقية في القائمة تعبر أيضًا عن خاصية مهيمنة أخرى تتمثل في أن معظم العمليات يتم إطلاقها وإدارتها من قبل لاعبين في المجتمع المدني، في تناقض واضح مع النماذج الموجودة في الدولة لتسوية الصراعات.

المربع 1: الخصائص المثالية – المعتادة لأنظمة العدالة غير الرسمية في أفريقيا جنوب الصحراء

1. التركيز على المصالحة واستعادة الانسجام الاجتماعي.

2. التأكيد على العقوبات التصالحية.

3. ينظر إلى المشكلة على أنها تتعلق بالمجتمع أو المجموعة بأكملها.

4. يتم اتخاذ قرارات إنفاذ الأحكام من خلال الضغط الاجتماعي.

5. ليس هناك تمثيل قانوني احترافي.

6. يتم التأكيد على القرارات من خلال طقوس تهدف إلى إعادة الإدماج.

7. قواعد مرنة للأدلة والإجراءات.

8. العملية طوعية وتتخذ القرارات بالتوافق.

9. يُعين المحكمين التقليديين من داخل المجتمع المحلي على أساس المكانة أو النسب.

10. هناك درجة كبيرة من المشاركة الشعبية.

المصدر: المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، Access to Justice in Sub-Saharan Africa: The Role of Traditional and Informal Justice Systems (London: PRI, 2002), p. 112

3. 2. 1. الإجراءات الطقسية – المجتمعية

تدّعي الأنظمة الغربية للعدالة بأنها تحيط بمبادئ المساءلة والتعويض، وأيضًا، ولو بدرجة أقل، الحقيقة واستعادة العلاقات المقطوعة. وهكذا فإن المؤسسات الحديثة والأصلية القديمة لتسوية النزاعات تسعى لتحقيق نفس الأهداف. لكنها تختلف، بشكل أساسي فيما يتعلق بالإجراءات التي تضعها للوصول إلى هذه الأهداف. تتمثل خصوصية طقوس الماتو أوبوت في شمال أوغندا والجهود التي تبذل لإعادة إدماج الجنود الأطفال السابقين في سيراليون في استخدام المكونات الطقسية، مثل سحق بيضة بالقدم، غسل الماضي الشرير بالماء أو الزيت المقدس، شرب عصير نبتة أو شجرة، استحضار الأسلاف، وإحداث حالة من الغشية. الأرواح تهيمن على المشهد في موزمبيق. كما يكتب فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا:

الناس في غورونغوزا، كما في العديد من أنحاء أفريقيا، يعيشون في عالم اجتماعي يعتقد تقليديًا بأن موت الأفراد من خلال أفعال صادمة، أو انتهاك المحظورات، مثل قتل الناس دون شرعية روحية و/أو اجتماعية، يشكل جريمة تتطلب عقابًا فوريًا من خلال التكفير عن الذنب. إذا لم يتم الاعتراف بالذنب، فإن روح الضحية البريئة ستعود إلى عالم الأحياء للقتال من أجل العدالة.

لا تغيب العناصر الطقسية بشكل كامل عن المحاكم الحديثة. انظر إلى اللغة الرصينة، والأثواب والشعر المستعار الذي يرتديه القضاة والمحامون. إلا أن اللهجة الطاغية تبقى عقلانية. كما أن ثمة اختلافًا محوريًا آخر يتمثل في غياب الأدوات القانونية في جميع ممارسات العدالة التقليدية تقريبًا. ليس هناك تمثيل قانوني احترافي، كما تتسم قواعد الأدلة والإجراءات بالمرونة. إضافة إلى ذلك، فإن منطق القانون الجنائي مختلف.

ينبغي أن يفضي إلى قرارات بـ “نعم أو لا”. ينبغي أن تكون حصيلة المحاكمة “مذنب” أو “غير مذنب”.

للوصول إلى مثل هذه الأحكام الواضحة، على المحاكم الجنائية أن تطبق قواعد صارمة. كما أنها تحدد كمية المعلومات التي تتم معالجتها. لكن خلال الصراعات العنيفة، فإن سلوك المرتكبين غالبًا ما يكون في منطقة رمادية يختلط فيها كون المرء مذنبًا وغير مذنب. يمثل الجنود الأطفال، الذين اختطفوا من أسرهم وأجبروا على ارتكاب جرائم مروعة خلال الصراعات العنيفة في سيراليون وأوغندا ومناطق أخرى، حالة واضحة في هذا الصدد. لا تمتلك المحاكم عادة القدرة والمرونة اللازمتين للتعامل مع مثل هذه التعقيدات. إن استخدام مزيج من الكلام المنمق والمسهب، وهي الطريقة الأفريقية لإطالة النقاشات، والأفعال الطقسية تتيح من حيث المبدأ فرصًا أكبر لاستكشاف قضايا المساءلة والبراءة والذنب، التي تعد جزءًا محوريًا في تركات الصراعات العنيفة. غير أن مؤسسة الغاتشاتشا أكثر غموضًا. يلاحظ بيرت إنغليير، مؤلف دراسة الحالة في هذا الكتاب: “يبدو أن تكرار فعل التجمع في جلسات الغاتشاتشا، بصرف النظر عما يتم فعله هناك من حيث المحتوى، هو الذي يحدث أثر التحول على العلاقات الاجتماعية مع الأشخاص الذين يتم لقاؤهم في تلك الاجتماعات. أما محتوى هذه المواجهات، فيتم التعامل معه طبقًا لمنطق الملاحقة القضائية التي تحد من النواحي الخطابية المرتبطة عادة بالأفعال الطقسية أو البعد الحواري أو العلاجي لعمليات البوح بالحقيقة”.

وقد يكون الأمر الأكثر أهمية هو البعد المجتمعي. ينظر إلى الذنب والعقاب، وكون المرء ضحية والتعويض بوصفها مسألة جماعية في معظم المجتمعات الأفريقية. ويتم حث المجتمع على القبول بالمسؤولية عن أفعال مرتكب معين، أو الانخراط في عملية معالجة ضحية معينة. الأنظمة الحديثة للعدالة، مصممة لتحديد المسؤولية الفردية. علاوة على ذلك، فإن المحاكمات تعترف فقط بالذنب الجنائي، وليس بالمسؤولية السياسية أو الأخلاقية.

3. 2. 2. المجتمع المدني بوصفه الشريك المعني الرئيسي

يتم إطلاق وتنظيم مكونات مهمة من سياسات العدالة الانتقالية من قبل سلطات الدولة. وتشكل الملاحقات القضائية الجنائية النموذج الرئيسي لهذه السياسات. حتى هيئات الحقيقة، كثيرًا ما تعمل في ظل الدولة. تظهر دراسات الحالات، أن مركز الجاذبية يختلف في حالة جميع الممارسات الأصلية لدى الشعوب.

المجتمع المدني بمختلف أشكاله (التقليدية والثقافية والزعماء الدينيين؛ والحكماء؛ وقادة المجتمعات المحلية

والمنظمات غير الحكومية المحلية ووسائل الإعلام) هي عادة التي تضع القواعد، وتع العاملين الرئيسيين

(الوسطاء والمحكمين والقضاة الشعبيين) وتراقب تنفيذ القرارات المتخذة. إضافة إلى ذلك، هناك من حيث المبدأ درجة كبيرة من المشاركة الشعبية. تهدف جلسات الغاتشاتشا على مستوى الهضاب الرواندية لاجتذاب شرائح واسعة من السكان )الحضور هناك إجباري(. هذه المشاركة الواسعة في التجارب، تميز الحالات الأخرى أيضًا. من جهة أخرى، فإن المحاكم الجنائية أكثر بعدًا عن أولئك الذين كان لهم علاقة بالأحداث إما كضحايا أو كمذنبين. لقد أدى هذا إلى شكاوى، خصوصًا فيما يتعلق بالمحاكم الخاصة في لاهاي (ليوغسلافيا السابقة) وأروشا (لرواندا)، وبمحكمة الجنايات الدولية الدائمة. إن التصور ببعد المحاكم الدولية عن السكان الذين كانوا ضحايا لانتهاكات وغياب الوصول المباشر إلى هذه المحاكم، يصاغ أحيانًا على شكل تشكيك بالشرعية الأساسية لمثل تلك المؤسسات “الدولية” بالتعامل مع جرائم الحرب “المحلية”.

3. 3. تنوع مثير للإعجاب

حتى هذه النقطة، ركز التحليل المقارن على أوجه الشبه العديدة بين الآليات التقليدية في البلدان الخمسة. إلا أن هناك قدرًا كبيرًا من التنوع من حيث الشكل والمحتوى.

لم تعد جميع ممارسات العدالة والمصالحة الأصلية، إذا توخينا الدقة، تقليدية. إلا أن بعضها أحدث من بعضها الآخر. تشكل طقوس روح الغامبا مثالًا على آلية صممت حديثًا استنادًا إلى مكونات موجودة مسبقًا، وكانت ضرورية لملء الفراغ الذي أحدثته ثقافة الإنكار في موزمبيق. تمكن الناجون من الحرب في منطقة غورونغوزا من تطوير آلياتهم الاجتماعية – الثقافية الخاصة للحصول على العدالة والمصالحة في أعقاب الحرب الأهلية. تنص اتفاقية جوبا بين الحكومة الأوغندية ومقاتلي جيش الرب للمقاومة على تعزيز أدوات العدالة المحلية، “مع إجراء التعديلات الضرورية”. هذا سيغير الماتو أوبوت وغيرها من الممارسات الموجودة في شمال أوغندا. إلا أن التحول الأكثر راديكالية، طرأ على الغاتشاتشا في رواندا. لارس ولدورف يكتب: “في الواقع، فإن الغاتشاتشا كانت دائمًا خليطًا صعبًا من العدالة التصالحية والجزائية: اعترافات واتهامات، تسويات ومحاكمات، صفح وعقاب، خدمة المجتمع المحلي، والسجن”. إلا أن تحديثها من قبل النظام الفعلي جعلها “جزائية على نحو متزايد، سواء من حيث التصميم أو الممارسة” (2005 Waldorf: 422). لقد أحدثت التشريعات إجراءات قانونية، وفرضت سيطرة الدولة وأجبرت السكان على المشاركة. لقد باتت محكمة غاتشاتشا اليوم عنصرًا خارجيًا في سياق هذا المشروع.

كما أن الممارسات تختلف أيضًا، من حيث الترتيب الذي يعطى لأهداف المصالحة والمساءلة والسعي لمعرفة الحقيقة والتعويض. طقوس التطهير وإعادة الإدماج في سيراليون (كما في ليبيريا)، تعطي الأولوية

لجمع المقاتلين العائدين وأسرهم وضحاياهم. في حالة روح الغامبا يكون التأكيد على قول الحقيقة، رغم أن الأهداف الأخرى ليست غائبة أيضًا. المساءلة، هي الهدف الرئيسي في إجراءات الغاتشاتشا. تشمل الأوبوشنغنتاهي في بوروندي مزيجًا متوازنًا، إلى حد ما، من المكونات الأربعة.

وأخيرًا، فإن قدرًا كبيرًا من التنوع ينتج عن السياق الأوسع الذي ينبغي للآليات التقليدية أن تعمل من خلاله. قانون العفو في موزمبيق يوفر بيئة مختلفة تمامًا عن مثيلتها في سيراليون، مع وجود محكمة خاصة ولجنة حقيقة ومصالحة. القسم التالي، يستكشف مصدر هذا التنوع.

3. 4. الآليات القائمة على التقاليد: من استبعادها إلى إدماجها الكامل

لقد نزعت الوثائق المكتوبة عن العدالة الانتقالية، في كثير من الأحيان، إلى دراسة تشريعات العفو والمحاكمات ولجان الحقيقة وغيرها من الإستراتيجيات كما لو أنها تعمل في فراغ مجتمعي. لكن، وكما يلاحظ تقرير نشر مؤخرًا، فإن “التدخلات الإستراتيجية أو التغييرات المعتزمة في جزء من النظام تؤثر في جميع الأجزاء الأخرى من خلال المسارات والتداعيات”. وبالفعل، ينبغي أن تعطى الأفضلية لمقاربة أكثر شمولًا.

3. 4. 1. الحاجة إلى مقاربة شاملة

جميع الأنظمة الخارجة من صراع مدمر تواجهها أجندة انتقالية هائلة. وهذا يطرح مشاكل معقدة حول الأولويات وتتابع العمل. متى ينبغي معالجة تركة أحداث العنف واسعة النطاق، إذا كانت الاحتياجات الأساسية في المناطق والمتمثلة في الأمن الشخصي والسكن وما إلى ذلك لا تزال دون تلبية؟ أو إذا لم يكن الصراع قد انتهى بعد، كما هو الحال في شمال أوغندا، هل تعطى الأولوية لتحقيق السلام أو العدالة

أولًا؟

بالنظر إلى تقلب السياق المباشر لما بعد الصراع، فإن التوقيت والتتابع على وجه الخصوص يمثلان بعدًا مهمًا جدًا لكنه صعب. لا ينبغي للسياسات أن تأتي مبكرة أو متأخرة أكثر مما ينبغي. وهناك أسئلة وتحديات كثيرة جدًا. متى ينبغي تطوير أنشطة العدالة والمصالحة؟ لا شك في أنه سيكون للقرارات أثر كبير على الحصيلة النهائية. كي يتوصل صناع السياسات إلى التوقيت المناسب، عليهم أن “يفهموا المرحلة”، بمعنى أن يقوموا بقراءة جيدة للقوى التي تؤثر في الأجندة الانتقالية؛ وأن يعوا أهمية الإجراءات على المدى البعيد؛ وأن يعوا أيضًا أن مجرد مرور الوقت لن يؤدي في النهاية إلى بلسمة جميع الجراح الفردية والجماعية. ثم، حالما يتم اتخاذ القرار بمعالجة جرائم الماضي، ما هو التوقيت المناسب؟ أي سياسة بحاجة إلى “خطة مسار” للتحكم بالتتابع الصحيح لخطوات وأبعاد العملية. ما الذي ينبغي أن يأتي أولًا – مبادرات العلاج، سجن المذنبين الرئيسيين، الشروع في طقوس التطهير وإعادة الاندماج، أو الاحتفاظ بالوثائق كي يتم البحث مستقبلًا عن الحقيقة؟ قد يؤدي التتابع الخطأ إلى نتائج غير مرغوبة. قد يؤدي التهديد بمحاكمة المشتبه بهم إلى دفعهم إلى تدمير الأدلة. إن إعطاء الأولوية لقول الحقيقة يمكن أن يحبط الضحايا الذين يكونون بحاجة ماسة إلى المعالجة. وأخيرًا، ما هو الإيقاع الصحيح لهذا التتابع؟ تشير التجربة إلى أنه من شبه المؤكد أن تحدث المقاربة السريعة، وهي التي يشجعها بانتظام صناع السلام والميسرون الوطنيون والدوليون، أثرًا عكسيًا. بعد الحرب الأهلية مباشرة أو بعد نهاية نظام غير إنساني، يكون الضحايا منشغلين بمصائبهم ومحنهم، بحيث لا يستطيعون تطوير آراء مؤكدة حول كيفية التوصل إلى العدالة والمصالحة.

إن العلاقة بين القوى السياسية والثقافية في سياق محدد والتي تحيط ببلد ما بعد الصراع، تلقي بثقلها على وضع الأولويات وإدارة الوقت.

السياسة

في أي نظام سياسي، هناك عدد من اللاعبين المعنيين؛ وتلعب السلطات الحكومية دورًا حاسمًا. المجموعات والمنظمات العديدة الموجودة في المجتمع المدني تشكل فئة مهمة أخرى. وكلا الفئتين تعملان على المستوى الوطني، والمحلي والدولي.

السلطات الحكومية

تظهر دراسة حالة بوروندي بوضوح أن مؤسسة الباشنغانتاهي لم يتم قبولها بعد كمكون حيوي في التعامل مع تركة صراع مستمر ووحشي. ليس هناك إشارة إلى أثرها في اتفاقية أروشا للسلام والمصالحة التي وقعت عام 2000، ولا مكان لها في قانون لجنة الحقيقة والمصالحة المقترح تشكيلها، وتغيب أيضًا عن المفاوضات الجارية حاليًا بين الحكومة والأمم المتحدة فيما يتعلق بتفويض وتركيبة اللجنة في بوروندي. ويعود هذا جزئيًا إلى إحجام الحكومة التي يسيطر عليها الباهوتو، حيث ينظر إلى الباشنغانتاهي على أنها تخضع لسيطرة الباتوتسي. كما أن ثمة معارضة على المستوى المحلي. الزعماء التقليديون يصطدمون مع أولئك الذين حصلوا على سلطتهم من خلال الانتخابات. وفي معظم الأحيان يتوجب على الزعماء التقليديين التنازل. ويبدو أن المجتمع الدولي، في دوره كميسر لمفاوضات السلام، لم يشعر بالحاجة لمواجهة مصادر المقاومة هذه.

كيف يمكن فهم هذه الحصيلة؟ إن العدالة بعد المرحلة الانتقالية تشكل جزءًا من هدف أوسع ينبغي للنظام الجديد السعي لتحقيقه، أي تعزيز سلطته وشرعيته، داخليًا وحيال العالم الخارجي. وهذا سؤال يتعلق ببناء الأمة والدولة. وتشكل السيطرة الجديدة أو المتجددة على القطاع القضائي عاملًا محوريًا في هذه العمليات. في بلدان مثل رواندا، لدى القادة السياسيين آليات رسمية وغير رسمية للعدالة، تخضعهم لدرجة وثيقة من التمحيص. كما أن اللاعبين من غير الدولة وهيكليات السلطة التقليدية (الزعماء، والحكماء والقضاة الشعبيون وما إلى ذلك) يعدون أهدافًا مهمة أيضًا لـ “سيطرة الدولة”. يكون تسييس الزعامات التقليدية في كثير من الأحيان إحدى تبعات هذه العملية، وينتج عنه مشاكل من حيث إضعاف المصداقية، وعدم الكفاءة والفساد. وهذا بدوره قد يقلص بشكل كبير قدرة المؤسسات التقليدية على وضع ضوابط للصراع، حيث إنها تعتمد على هؤلاء الزعماء المحليين. في بعض الحالات، تم إضعاف شرعية

هذه الأدوات بسبب الدور الذي لعبه الزعماء التقليديون (رغم أن ذلك كان بالإكراه) خلال الصراع.

أمثلة دولية

عندما يعبر صراع دموي الحدود، فإن احتمال أن يكون لسياسات العدالة الانتقالية تداعيات دولية يكون قائمًا. تشارلز تايلور، ليبيري وأحد المرتكبين الرئيسيين في الحرب الأهلية في سيراليون، كان ينبغي أن يخضع للمحاكمة في فريتاون. (تم تحويله إلى محكمة في لاهاي، هولندا، لأسباب أمنية). في حالات أخرى، يتم تدويل تركة العنف لأن بلدانًا أجنبية أو الأمم المتحدة تكون قد اضطلعت بدور ميسر لصنع السلام. حدث هذا في بوروندي. نتيجة لذلك، تم تطوير إستراتيجيات عدالة ومصالحة وطنية طبقًا لنماذج مستوحاة من التجارب الدولية. أخيرًا، هناك تأثير القانون الدولي. قد يقيد إصراره على واجب الملاحقة القضائية الخياراتِ التي يمكن أن تتخذها السلطات الوطنية في مجال السياسات. وتعد هذه نقطة رئيسية حاليًا في النقاش الدائر في شمال أوغندا. لقد تنامت مثل هذه الضغوط بمرور الوقت. عندما انتهت الحرب الأهلية في موزمبيق في عام 1992، تم إصدار عفو عام دون احتجاجات دولية. لم يعد هذا ممكنًا اليوم.

المجتمع المدني

جميع مؤلفي دراسات الحالات في هذا الكتاب أكدوا بشكل واضح على أهمية الدور الذي لعبه المجتمع المدني، والذي لا يزال يلعبه أو الذي يمكن أن يلعبه في التعامل مع النتائج المروعة للحروب في بلدانه. تحاول منظمات المجتمع المدني المحلية، بشكل منفصل و/أو من خلال التشبيك، التأثير في عمليات صنع القرار التي تقوم بها السلطات الوطنية والدولية. أغلبية الكنائس في غورونغوزا (موزمبيق) لم توافق على الأفكار المتعلقة بتحقيق العدالة الجزائية. شارك مجلس الأديان في سيراليون في بعض جلسات استماع لجنة الحقيقة والمصالحة. وقد سعى المجلس الوطني للباشنغانتاهي في بوروندي لحشد الدعم للمشاركة في سياسات الحكومة في حقبة ما بعد الحرب. وتضغط جمعيات الضحايا في رواندا على السلطات فيما يتعلق بمسائل المساءلة والتعويض. وقد قدمت “مبادرة السلام في شمال أوغندا”، وهي شبكة من الجمعيات، دعمًا قويًا باستخدام ماتو أوبوت وطقوس التطهير. إلاّ أن منظمات غير حكومية محلية أخرى في المنطقة تصارع من أجل الملاحقة القضائية الجزائية. وهكذا فإن الآراء تتفاوت. وهذا التنوع في وجهات النظر ليس استثناءً، بل يعد سمة مهمة للمجتمع المدني في معظم بلدان ما بعد الصراع.

المنظمات غير الحكومية الدولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، لا تغيب عن النقاشات المتعلقة بسياسات العدالة الانتقالية. في سياق جهودها الحيوية والحثيثة لحشد الدعم والتأييد لجعل المحكمة الجنائية الدولية أكثر فعالية ولتوسيع الولاية القضائية العالمية، نزعت إلى التأكيد بقوة على العدالة الجزائية. وهناك قدر كبير من التشكك بالممارسات التقليدية.

الثقافة

لا مستقبل دون غفران ،عنوان مذكرات ديزموند توتو الشخصية عن رئاسته للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا. يجادل توتو بأن العفو المشروط الذي يمكن للجنة الحقيقة والمصالحة منحه كان “منسجمًا مع السمة المحورية لمفهوم ويلتانشوونغ (أو النظرة إلى العالم) – وما نعرفه بوصفه أوبونتو في مجموعة نغوني من اللغات، أو بوثو في لغات السوتو… إن شخصًا يتمتع ب الأوبونتو هو شخص منفتح ويتيح نفسه للآخرين، ويؤكد على أهمية الآخرين، ولا يشعر بالتهديد إذا كان الآخرون قادرين وجيدين؛ لأنه يتمتع بثقة بالنفس نابعة من معرفته بأنه ينتمي إلى كلٍ أعظم”. هذا الموقف الجوهري هو الذي يفتح القلب للصفح والغفران، وهذا يرتبط على نحو وثيق غالبًا بالقناعات الدينية. في دراسة الحالة التي كتبها عن موزمبيق، يكتب فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا: “المجموعات المسيحية في غورونغوزا تعتمد بشكل كامل على الغفران الأحادي، حيث إن الله يعتبر الطرف الفاعل الأكثر أهمية في تسوية الصراعات”.

من ناحية أخرى، فإن ممارسة الصفح والنسيان قد تكون واسعة الانتشار في أفريقيا، لكنها ليست معطى ثقافيًا عامًا مُسلمًا به. نُشرت نتائج مسحين حول السلام والعدل في شمال أوغندا في آب/أغسطس 2007. أجري أحد هذين المسحين من قبل مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، بمشاركة 1.725 من ضحايا الصراع في 69 مجموعة تركيز في الأقاليم الفرعية آشولي لاند ولانغو وتيسو، وبمشاركة 39 بُخمرًا لتوفير درجة من التفسير الثقافي للاستجابات التي تم الحصول عليها من مجموعات التركيز. يستنتج التقرير أن التصورات المتعلقة بفضاء العفو والملاحقة القضائية المحلية، والمحكمة الجنائية الدولية والممارسات المحلية أو التقليدية متفاوتة جدًا United Nations, Office of the High Commissoner for Human Rights 2007. المسح الآخر، الذي أجراه باحثون من مبادرة باركلي–تولين حول المجموعات السكانية الهشة والمركز الدولي للعدالة الانتقالية، أظهر نتائج مماثلة يمكن إيجازها بأن ثمة مستويات مرتفعة من الدعم للمقاربة التقليدية، إلا أن غالبية الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أرادوا أن يخضع مرتكبو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان للمساءلة (قيد النشر).

كما أن للمواقف الثقافية تأثيرًا على الآراء بشأن لجان الحقيقة. في تقريره حول لجنة الحقيقة والمصالحة، يجادل تيم كيلسال أنه، وفي غياب الجاذبية الطقسية القوية، فإن قول الحقيقة علنًا “يفتقر إلى جذور عميقة في الثقافات المحلية” في ذلك البلد، وهناك حالة مماثلة في بوروندي ورواندا.

3. 4. 2. كيف يمكن دمج إستراتيجيات مختلفة؟

معظم البلدان التي تمت دراستها كجزء من هذا المشروع، تجمع أدوات العدالة التقليدية والمصالحة مع إستراتيجيات أخرى للتعامل مع تركة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية. في موزمبيق صدر قانون عفو؛ وفي شمال أوغندا صدر قانون عفو وتدخلت المحكمة الجنائية الدولية، وفي حالة رواندا أنشئت محكمة أروشا ومحاكم وطنية واجتماعات غاتشاتشا؛ وفي سيراليون تم تأسيس محكمة خاصة ولجنة حقيقة. (تعد بوروندي استثناءً للقاعدة. حيث لم تشارك الأوبوشنغانتاهي في البرمجة الفعلية للعدالة الانتقالية الخاصة بها، لا رسميًا ولا بشكل غير رسمي). ماهي العلاقة المتبادلة بين هذه الإستراتيجيات؟ كيف يمكن أن تعيش الممارسات القائمة على العلاقات الشخصية وتلك القائمة على المجتمع المحلي، جنبًا إلى جنب، مع أشكال تنظمها الدولة و/أو ترعاها المنظمات الدولية للعدالة الجزائية وقول الحقيقة؟

(هذه المشكلة لا تقتصر على بلدان العالم الثالث بشكل عام، أو على المجتمعات الأفريقية بعد الصراع بشكل خاص. لقد ولّد البحث في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية عن آلية للعدالة يمكن أن تكمل مقاربة تقتصر على العقاب، ولّد اهتمامًا متجددًا بالأنظمة التقليدية غير الحكومية في التعامل مع الجريمة. في أستراليا، ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة، تعد أنظمة العدالة التقليدية جزءًا من تراث السكان الأصليين، وقد تم إعادة إحيائها مؤخرًا. وقد تنامى الاهتمام ببرامج العدالة التصالحية في بلدان غربية أخرى، لكن ذلك يستند إلى فلسفات معاصرة تقدمية للعدالة أكثر مما يستند إلى تقاليد محلية منسية، وتعد برامج المصالحة بين الضحايا والمدنيين مثالًا على ذلك. لقد استخدمت تلك الصيغة بشكل طاغٍ لمعالجة جرائم ثانوية، رغم أن المبادرات في سياقات الصراع مثل آيرلندا الشمالية حاولت توسيع هذا المفهوم).

تظهر دراسات الحالات في هذا الكتاب قدرًا كبيرًا من التنوع في تلقي الآليات التقليدية. هناك إحجام واضح عن استخدامها في معظم الدوائر السياسية في بوروندي. في موزمبيق حالة من التساهل السلبي. إلا أنه من المفيد التذكر أنه في مثل تلك السياقات، قد تظهر بعض الأخطار. فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا، يكتبان أن “ثمة مخاطرة في أن تستخدم الماغامبا وظواهر مماثلة في فترة ما بعد الحرب بشكل خاطئ من قبل النخب السياسية الوطنية. على سبيل المثال، يمكن للنخب السياسية أن تستخدم نجاح أرواح ومعالجي الماغامبا كحجج لتبرير خيارهم في منح العفو بعد الحرب والإفلات من العقاب والصمت”. أما في سيراليون، فقد تمثل رد الفعل في الاعتراف بقيمة طقوس المصالحة والتطهير. إلا أن إدماجها في عمل لجنة الحقيقة والمصالحة كان ضعيفًا.

تخطط اتفاقية جوبا الموقعة في حزيران/يونيو 2007 بين الحكومة الأوغندية وجيش الرب للمقاومة للإدماج الكامل لطقوس ماتو أوبوت في السياسة الوطنية فيما يتعلق بجرائم الحرب التي ارتكبت في الماضي. وتعد رواندا البلد الوحيد الذي كانت فيه أداة المساءلة المحلية جزءًا كاملًا من السياسة الرسمية. لقد ذكر هذا الفصل أعلاه المشاكل التي تنشأ عن مثل هذا الوضع.

* * *

لقد جمع هذا الفصل المعلومات حول نقاط الشبه والاختلاف بين آليات العدالة والمصالحة القائمة على التقاليد في البلدان التي يركز عليها الكتاب. وسيكون تقييم دورها الفعلي أو المحتمل بعد الصراعات العنيفة موضوعًا للفصل الختامي.

المراجع وقراءات إضافية

Allen, Tim, Trial Justice: The International Criminal Court and the Lord’s Resistance Army (London: Zed Books, 2006)

Baines, Erin K., ‘The Haunting of Alice: Local Approaches to Justice and Reconciliation in Northern Uganda’, International Journal of Transitional Justice, vol. 1 (2007), pp. 91–114

Baines, Erin, Stover, Eric and Wierda, Marieke, War-affected Children and Youth in Northern Uganda: Toward a Brighter Future (Chicago, Ill.: John D. and Catharine T. MacArthur Foundation, 2006)

Kelsall, Tim, ‘Truth, Lies, Ritual: Preliminary Reflections on the Truth and Reconciliation Commission in Sierra Leone’, Human Rights Quarterly, no. 27 (2005), pp. 361–91

Orentlicher, Diane, ‘Settling Accounts Revisited: Reconciling Global Norms with Local Agency’, International Journal of Transitional Justice, vol. 1 (2007), pp. 10–22

Penal Reform International (PRI), Access to Justice in Sub-Saharan Africa: The Role of Traditional and Informal Justice Systems (London: PRI, 2002)

Sierra Leone Truth and Reconciliation Commission, ‘Reconciliation’, Final Report, 2004, Vol. 3B, chapter 7,

Tutu, Desmond, No Future Without Forgiveness (London: Rider, 1999)

United Nations, The Rule of Law and Transitional Justice in Conflict and Post-Conflict Societies: Report of the Secretary-General, UN document S/2004/616, 23 August 2004

United Nations, Office of the High Commissioner for Human Rights (OHCHR), Making Peace Our Own: Victims’ Perceptions of Accountability, Reconciliation and Transitional Justice in Northern Uganda (New York: United Nations, 2007),

Waldorf, Lars, ‘Mass Justice for Mass Atrocity: Rethinking Local Justice as Transitional Justice’, Temple Law Review, vol. 79, no. 1 (2006), pp. 1–88__

الفصل الثاني

محاكم الغاتشاتشا في رواندا

بيرت إنغليير(*)

1. الصراع في رواندا

قبل عام 1994، كانت رواندا بلدًا غير معروف تقريبًا ومخبأ في وسط أفريقيا. لكن في 6 نيسان/أبريل 1994، أُسقطت الطائرة التي كانت تحمل الرئيس حينذاك جوفينال هابياريمانا في سماء العاصمة كيغالي. شكل ذلك بداية حملة من العنف والإبادة الجماعية ضد أقلية التوتسي العرقية، وما يسمى مجموعة الباهوتو ›المعتدلة‹ التي تنتمي إلى الأغلبية العرقية لكن التي كانت تعارض النظام القائم. خلال فترة 100 يوم، قتل حوالي 800.000 شخص. وشكلت هذه الأحداث المأساوية صدمة للعالم ووضعت رواندا على الخريطة العالمية. حدثت الإبادة الجماعية في رواندا في سياق من الحرب الأهلية، وفي محاولة خرجت عن السيطرة لاستحداث ديمقراطية متعددة الأحزاب. شكل ذلك ذروة العنف في بلد تميز تاريخه باندلاعات متقطعة للعنف العرقي نتيجة الصراع على السلطة )والثروة( عبر الزمن، وهو صراع تشكل حول الثنائية القطبية بين المجموعتين العرقيتين الهوتو والتوتسي التي ميزت المشهد الاجتماعي – السياسي في رواندا. يشكل الباهوتو الأغلبية العرقية، حيث تبلغ نسبتهم 84 بالمئة من السكان، بينما 14 بالمئة هم من الباتوتسي و1 بالمئة من الباتوا(1).

1, 1, الأصول البعيدة للصراع (حتى عام 1962)

ليس هناك إجماع عام على تاريخ رواندا في أزمنة ما قبل الاستعمار. ثمة تفسيرين لهذه الفترة. روج للتفسير الأول النظام السابق (الهوتو)، خصوصًا خلال الإبادة الجماعية عام 1994؛ في حين يدعم النظام الحالي التفسير الثاني. تلعب الانتقائية في استخدام الموارد المتاحة وطبيعة التفسير الذي يعطى للمؤسسات الحيوية القديمة التي حددت التفاعل بين الفئات الاجتماعية المختلفة، مثل المحسوبية (أوبوهاكي) والعمل القسري (أوبوريتوا)، دورًا في قراءة هذا التاريخ. يقدم هذا الفصل عرضًا موجزًا للخطوط الرئيسية لهاتين القراءتين للتاريخ الرواندي. وكما دائمًا، فإن الحقيقة قد تكون في مكان ما بين القراءتين.

(*) يود المؤلف أن يشكر ستيف فانديغينستي ولوك هويسه لتعليقاتهما القيمة على مسودات سابقة من هذا الفصل. لقد استفاد النص النهائي بشكل كبير من دعمهما. أما أية أخطاء أو نواقص في الفصل، فهي من مسؤولية المؤلف.

لقد استخدم المؤلف صيغة الـ “باهوتو” و”باتوتسي” بدلًا من “هوتو” و”توتسي” بوصفهما أكثر إخلاصًا للغة الأصلية. “الماهوتو” و”الماتوتسي” هما صيغتا المفرد. أما جذري الكلمتين، “هوتو” و”توتسي”، فقد كانتا المفضلتين للاستخدام كصفتين.

قبل الاستقلال عام 1962 ، كانت البلاد مملكة. وكان ملك هو (موامي) وأرستقراطية من التوتسي يحكمون الشعب الذي كانت أغلبيته من الباهوتو. وانخرطت المملكة المركزية في محاولات مستمرة لفتح الأراضي المحيطة والسيطرة عليها من أجل استغلال السكان الهوتو. كان الباتوتسي رعاة يربون قطعان كبيرة من المواشي. غزوا المنطقة قبل قرون وتمكنوا من إخضاع السكان الهوتو الزراعيين، الذين كانوا يحرثون الأرض ويزرعونها. كان الباهوتو قد هاجروا أيضًا، لكن في وقت سابق، إلى المنطقة التي باتت تعرف باسم رواندا. لكن، وبينما أتى الباهوتو من مناطق مختلفة في وسط أفريقيا وكانوا يعتبرون أسلاف عرق البانتو، يعتقد أن الباتوتسي أتوا من الشمال، وهم من أصول سامية أو حامية. كان الباتوا يُعتبرون السكان الأصليين للمنطقة. هذه إحدى القراءات من الماضي.

نسخة أخرى من هذا التاريخ ما قبل الاستعماري، باتت النسخة الشائعة الآن في رواندا، بدلًا من التأكيد على الأصول الجغرافية والعرقية المتميزة للمجموعات التي تسكن البلاد. فقد بات التركيز هو على وحدة شعب رواندا، البانيا رواندا، والمواطنة الرواندية التي تستند إلى القاسم المشترك، وهو الرواندية (أوبانيارواندا). لم يكن الهوتو والتوتسي في الأصل تصنيفين إثنيين، بل طبقتين اجتماعيتين –اقتصاديتين. كان الأباتوتسي (بصيغة الجمع) الاسم الذي يعطى للأشخاص الأكثر ثراءً مُلاّك المواشي. أما الأسر الفقيرة، والتي تمتلك قطع أرض صغيرة أو لا تمتلك أرضًا على الإطلاق، ولا مواشٍ، فكان يشار إليهم بأنهم أباهوتو. كانت المرونة الحركية ممكنة؛ حيث إن أسرة تمتلك المواشي كانت تنتقل إلى فئة التوتسي؛ وأولئك الذين يفقدون مكانتهم يتردّون إلى حالة الهوتو. ومن ثم أتى الاستعمار لـ “يخلق” مجموعات عرقية في مجتمع منسجم تمامًا، كانت الانقسامات التي تسوده انقسامات اجتماعية-اقتصادية صرفه.

ثمة قدر أقل من الجدل يحيط بأثر الاستعمار على النسيج الاجتماعي للمجتمع الرواندي. كان الأثر حاسمًا، إلا أن فكرة أن الاستعمار زرع بذور الإبادة الجماعية التي حدثت لاحقًا يطعن بها البعض، في حين يعتقد آخرون أنها صحيحة. استعمرت رواندا أولًا من قبل ألمانيا (1897 – 1916)، ثم أصبحت في عام 1919 رسميًا مستعمرة بلجيكية. أجريت إصلاحات عديدة شاملة، خصوصًا لطريقة الحكم غير المباشر التي استخدمها المستعمر البلجيكي، والتي أحدثت تغييرًا كبيرًا في المجتمع الرواندي. انسجامًا مع الأفكار الأنثربولوجية السائدة حينذاك، كان البلجيكيون يؤمنون بتصنيف الأعراق طبقًا لكونها أعراقًا أعلى أو أدنى مرتبة. واستنتجوا بأن ›عرق‹ التوتسي كان أكثر أهلية للحكم من الباهوتو، الذين كانوا مخلوقات أدنى ويمكن فقط أن يكونوا محكومين وأن يقوموا بالعمل اليدوي. استخدم البلجيكيون الحكام التوتسي لتنفيذ سياساتهم الاستعمارية. تكيف أصحاب السلطة من التوتسي مع هذا الوضع الجديد بسهولة ليس لأن التحالف مع الحاكم الاستعماري كان شرطًا مسبقًا للبقاء في السلطة وحسب، بل أيضًا لأنه ضاعف من سلطتهم بشكل كبير، ومن سيطرتهم على السكان (الهوتو) وبالتالي ضاعف من ثروتهم. لقد أصبحت الهوية العرقية جزءًا من التركيبة المؤسساتية، على سبيل المثال، من خلال إصدار بطاقة الهوية العرقية.

شهد عام 1959 ثورة اجتماعية، وهو حدث لم يكن من الممكن تخيله قبل بضع سنوات، وأصبحت تعرف بـ :ثورة الهوتو”. وفي موجة من الأحداث المتتابعة بين عامي 1959 و1962، أطيح بالحكام التوتسي وأخرجوا من مجتمعاتهم (على الهضاب) واستبدلوا من خلال الانتخابات بـ “بورغوماسترز”، كانوا في أغلبيتهم من أصول هوتية. أصبح غريغوار كاييباندا، وهو من الماهوتو، أول رئيس لرواندا. أتت هذه الأحداث مصحوبة بالعنف ضد الحكام التوتسي وعائلاتهم، وسعت أول موجة من الباتوتسي للحصول على اللجوء في البلدان المجاورة. تبعت ذلك موجة ثانية أكبر في 1963 – 1964، عندما تجمع الباتوتسي من الموجة الأولى وهاجموا رواندا من بوروندي وتنزانيا. قتل عدد كبير من الباتوتسي في هجمات انتقامية وغادرت أعداد أكبر منهم البلاد كلاجئين. هذه الهجمات ورد الفعل العنيف من النظام شكل استشعارًا بما كان سيحدث بعد ثلاثين عامًا. شكل المتحدرون من هؤلاء اللاجئين الكتلة الرئيسية والعمود الفقري للجبهة الوطنية الرواندية وجناحها العسكري الجيش الوطني الرواندي، الذي هاجم رواندا في تشرين الأول/أكتوبر 1990 في محاولة للعودة المسلحة إلى بلدهم.

1. 2. الباهوتو والباتوتسي في ظل نظام هابياريمانا

المكونات الأيديولوجية للجمهوريات الرواندية (1962 – 1973، خلال حكم الرئيس كاييباندا، و1973 – 1994 تحت حكم الرئيس هابياريمانا) “شكلت في الوقت نفسه عكسًا واستمرارًا لهذه الصور الاجتماعية – النفسية الراسخة للتوتسي الراعوي الأجنبي، المتفوق عرقيًا والمزارع الهوتي، الابن الأصلي للبلاد، الخاضع، والتي تم تعزيزها في ظل الحكم الاستعماري. ظل الباهوتو والباتوتسي تصنيفين متمايزين بعد الثورة الاجتماعية، إلا أن الباتوتسي أصبحوا الآن مخلوقات أدنى مكانة في ›نظام طبيعي” مستعاد تحت هيمنة الهوتو. أصبحت هذه الأفكار جزءًا من التركيبة المؤسساتية من خلال سياسة الحصص العرقية التي منح بموجبها الباتوتسي 9 بالمئة من المناصب الحكومية (دون سلطة حقيقية) ونفس النسبة من المقاعد في المدارس والجامعات. لكن، ورغم هذه القيود الخانقة على الفرص، فإن السكان التوتسي العاديين داخل رواندا استمروا بالعيش دون أن يستهدفوا جسديًا خلال أوج حكم الجمهورية الثانية.

الإستراتيجية الثانية في الشرعنة استندت إلى الفكرتين المتقاطعتين المتمثلين في “التنمية” و”الفلاحين”. كانت صورة رواندا بوصفها أمة مكتفية بذاتها من الفلاحين الذين يمنحون قيمة خاصة ل ›العمل اليدوي‹ تتردد باستمرار في خطب هابياريمانا. سمي الحزب السياسي الوحيد الحركة الوطنية الثورية من أجل التنمية، بينما كان البرلمان المجلس الوطني للتنمية. كان الرئيس هو اللاعب السياسي الرئيسي، لكنه مارس السلطة مع نخبة حاكمة من الباهوتو الشماليين وأفراد عشيرته، وغالبًا عشيرة زوجته. كان هؤلاء يشكلون ما بات يعرف بالأكازو (البيت الصغير)، الذي يسيطر على الدولة وامتيازاتها (النقدية). وكان النظام برمته موجهًا إلى المحافظة على الوضع الراهن. في هيكليات الدولة الهرمية والتراتبية، كانت سلسلة السيطرة والتحكم تصل إلى أعماق الحياة الريفية. ولعبت هذه الهيكليات المؤسساتية دورًا مهمًا في التعبئة وحشد الزخم خلال الإبادة الجماعية عام 1994.

1. 3. الحرب الأهلية، والديمقراطية متعددة الأحزاب والإبادة الجماعية (1990 – 1994)

أسهم عدد من العوامل في إطلاق عملية الانتقال السياسي في رواندا. صاحبت موجة من التحولات الديمقراطية نهاية الحرب الباردة؛ فقد أجبر الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران أفريقيا الفرانكوفونية على التحول الديمقراطي من أجل ضمان استمرار تلقي المساعدات الاقتصادية. كما أفضى انخفاض أسعار البن في الأسواق العالمية وإحداث برنامج للتكيف البنيوي إلى أزمة اجتماعية–اقتصادية. وفي تشرين الأول/أكتوبر 1990 تعرضت رواندا لهجوم من قبل الجبهة الوطنية الرواندية التي اتخذت من أوغندا قاعدة لهجماتها، مطالبة بالعودة إلى بلدها الأصلي وبحصتها من السلطة. شكلت هذه الظروف ضغوطًا على نظام هابياريمانا دفعته للشروع في إصلاحات ليبرالية. أحدثت مراجعة للدستور أجريت عام 1978 تغييرًا جوهريًا. فقد تمت المصادقة على قيام حياة سياسية متعددة الأحزاب ونشأت الأحزاب السياسية. وفي الوقت نفسه، كان هناك حركة سياسية–عسكرية خارجية، هي الجبهة الوطنية الرواندية، تقاتل للعودة إلى رواندا، مطالبة بحصة من السلطة، فأجبرت القوى الموجودة في السلطة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

كان التحول إلى حياة سياسية متعددة الأحزاب، بعد عقود من حكم الحزب الواحد والشروع في إصلاحات مؤسساتية وفي الوقت نفسه خوض حرب في بلد يزيد عدد سكانه عن طاقته الاستيعابية، عملية منهكة. كان هناك ثلاثة تيارات سياسية فاعلة خلال الفترة الانتقالية: الحركة الرئاسية، وهي النخبة الموجودة في السلطة؛ والمعارضة “الديمقراطية” الداخلية التي شكلتها الأحزاب السياسية حديثة التشكل؛ والجبهة الوطنية الرواندية وداعموها بوصفها معارضة مسلحة. لقد قادت قوات المعارضة الداخلية الإصلاحات السياسية والمؤسساتية. تبع ذلك وضع دستور جديد يسمح للأحزاب السياسية بالتنظيم تشكيل حكومة ائتلافية. لقد استخدمت قوات المعارضة وصولها إلى أجهزة الدولة لإحداث مزيد من الإصلاحات على النظام السياسي وتقويض النظام الحاكم، حيث وقعت اتفاقية أروشا للسلام في 4 آب/ أغسطس 1993 بعد عام من المفاوضات؛ وتم تعزيز الإصلاحات الداخلية بتسوية تفاوضية حول تقاسم السلطة بين التيارات السياسية الثلاثة حول إدماج قوات المتمردين في الجيش الوطني. لم يترتب على الاتفاقية المزيد من فك ارتباط الحركة الوطنية الثورية من أجل التنمية بأجهزة الدولة وحسب، بل إنها أدت أيضًا إلى تراجع موقع وامتيازات النخبة الحاكمة، والرئيس والأكازو الشماليين في مركزها.

لم تجد اتفاقية أروشا طريقها إلى التنفيذ. رغم محادثات السلام والتوصل إلى اتفاق، فإن رواندا “استقرت في ثقافة حرب”. كان العنف قد أصبح طريقة لممارسة العمل السياسي، ليس فقط في ميادين المعارك بل أيضًا في شوارع كيغالي وتلال الأرياف. مع انفتاح الحلبة السياسية، بدأت الأحزاب السياسية حديثة التشكل بتنسيب الأعضاء. كانت الاجتماعات الحاشدة تنظم في الريف، حيث كانت الخطب الملهمة والمشروبات المجانية تهدف إلى إقناع الفلاحين بالالتزام بهذه ›العائلة‹ السياسية أو تلك. في هذا المناخ، تراجعت أجهزة الدولة التي كانت تتمتع بوقت ما بالمرونة والديناميكية، لكن التي كانت تطغى عليها النزعة الاستبدادية، فتفككت بسرعة. في المناطق التي أخرجت فيها السلطات الحاكمة (سياسيًا) من مجتمعاتها المحلية، حدث فراغ في السلطة. لعبت أجنحة الشباب المرتبطة بالأحزاب السياسية، بوجه خاص، دورًا مهمًا في حملة الرعب. كان لدى التحالف من أجل الدفاع عن الجمهورية منظمة “الإيبموزاموغامبي” (ذوو الهدف الواحد)، وكان هناك “الإينكوبا – الرعد” الجناح الشبابي للحركة الجمهورية الديمقراطية، وكان لدى الحزب الديمقراطي الاجتماعي “الأباكومبوزي – المحررون” والحزب الحاكم الحركة الوطنية الثورية من أجل التنمية “الإنتراهاموي – العاملون معًا”.

في وقت لاحق، ومع استمرار الحرب وتراجع فرص العملية السياسية والطعن بمفاوضات السلام، تحولت بعض هذه المجموعات الشبابية إلى ميليشيات صرفة، دربها وسلحها الجيش. كانت تشكل رأس حربة في عمليات الإبادة الجماعية مع الجيش وشريحة واسعة من الموظفين الإدارييين. كان مصطلح “الإنتراهاموي” يقتصر، في الأصل، على أعضاء الجناح الشبابي للحركة الوطنية الثورية من أجل التنمية، ونمت الميليشيا من داخل هذا الجناح. لكن بعد أحداث الإبادة الجماعية، صنف جميع أولئك الذين شاركوا أو اشتبه في مشاركتهم على أنهم “إنتراهاموي”، حتى لو لم يكونوا “أعضاء رسميين”. لقد تم تضخيم هذا المصطلح.

في حين أثر انعدام الأمن الذي تسببت به الأحزاب السياسية على جميع المواطنين العاديين خلال سنوات الاضطراب هذه، فإن الباتوتسي هم الذين تعرضوا إلى أكبر درجة من الاستهداف. أطلق عليهم اسم إيبييتسو، أو المتواطئين مع قوات المتمردين، بسبب علاقتهم المزعومة والتآمر مع الجبهة الوطنية الرواندية، ولسبب واحد هو أنهم كانوا ينتمون إلى نفس الهوية العرقية التي هيمنت على مجموعة المتمردين. مباشرة بعد بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 1990 ، اعتقل عدد كبير من الباتوتسي في سائر أنحاء البلاد وسجنوا لفترة من الزمن. وفي فترات منتظمة، وفي كثير من الأحيان كرد انتقامي على هجمات الجبهة الوطنية الرواندية أو تقدمها، كان يتم التحريض على ارتكاب مجازر بحق التوتسي. لم يقتصر ذلك على عمليات القتل الانتقامية في الفترة 1963 – 1964؛ بل إنه “أسس الأنماط التي تكررت في عمليات الإبادة الجماعية عام 1994”.

رغم توقيع اتفاقية السلام، فإن الرئيس هابياريمانا، وبضغوط مكثفة من المتشددين، لم يكن يعتزم تنفيذها. أشار إلى الاتفاقية في خطاب له بوصفها مجرد “قطعة ورق”. كانت تجري التحضيرات لاستئناف الحرب، من طرف الجبهة الوطنية الرواندية أيضًا. انخرط كلا الطرفين في أنشطة لزعزعة الاستقرار وأنشطة إرهابية واغتيالات سياسية. مع مطلع عام 1994، كان قد تم تحديد العدو. من خلال الحملات الإعلامية المكثفة والدعاية الحكومية، بات العدو الذي يهدد حكم الروباندا نيامووينشي (الأغلبية العظمى) تهديدًا لحكم أغلبية الهوتو العرقية. ولذلك فإن الخطر (المتصوَّر) كان يأتي ليس فقط من الخارج، من خلال الغزو، بل أيضًا من الداخل، من كل مواطن توتسي يعيش في رواندا، وبالتالي من خلال كل موهوتو لا يؤيد الوضع الراهن المتمثل في حكم الأغلبية العظمى. حركت القصص والتقارير المتداولة حول قيام الجبهة الوطنية الرواندية بقتل الباهوتو، في طريقها إلى رواندا، الخيال وعززت بناء الخوف. وهكذا أصبح هناك شعور/تصور بوجوب القضاء على هذا التهديد. ووجد شعار قوة الهوتو طريقه عبر الهضاب والمرتفعات؛ ووصم الباتوتسي بـ الإنيينزي (الصراصير).

في هذا المناخ المتفجر، أُسقطت طائرة هابياريمانا عند اقترابها من مطار كيغالي وهو عائد من اجتماع قمة عقد في تنزانيا. في تلك الليلة نفسها، في 6 نيسان/ أبريل 1994 ، بدأت حملة إبادة واسعة النطاق. تحركت الأحداث بسرعة في العاصمة. وحدثت ردود فعل عفوية في المناطق الريفية استجابة للدعوة إلى التحرك؛ قاوم آخرون لوقت طويل وكان استخدام القوة الخارجية ضروريًا من أجل الشروع في عمليات القتل. قادت الميليشيات والجيش وقوات الشرطة ومعظم الجهاز الإداري في الدولة عمليات القتل في سائر أنحاء البلاد.

جدير بالملاحظة، أن الباهوتو الذين لم يؤيدوا حملة الإبادة الجماعية أو الذين كانوا يعارضون بقوة نظام هابياريمانا، أو كانوا مرتبطين بشكل ما ب الباتوتسي، أصبحوا أيضًا ضحايا العنف. إلا أن المحير هو ارتفاع مستوى المشاركة من قبل المواطنين العاديين، الفلاحين الهوتو، الذين شاركوا في حملة الإبادة الجماعية وتعقبوا ونهبوا وقتلوا جيرانهم التوتسي.

1. 4. أسباب وديناميكيات الصراع: الأنماط الرئيسية للتفسير

لقد ظهر إجماع في الأدبيات الكثيرة المتاحة حول المأساة الرواندية بشأن حقيقة أن الإبادة الجماعية لم يكن لها علاقة بـ “الحرب القبلية” غير السياسية بين مجموعات إثنية. رغم ذلك، فإن النمط الرئيسي المستخدم من قبل المراقبين لتفسير الإبادة الجماعية عام 1994 كانت الطبيعة العرقية للصراع: المجموعة العرقية التي تشكل الأغلبية وهي الباهوتو، حاولت تحقيق القضاء الكامل على المجموعة العرقية التي تشكل الأقلية، وهي الباتوتسي.

أنماط أخرى تركز على عمليات الاستغلال التي تقوم بها النخب؛ وندرة الموارد البيئية؛ والملامح الاجتماعية–النفسية للمرتكبين؛ ودور المجتمع الدولي.

يستكشف “نمط استغلال النخب” رغبة النخبة الرواندية في البقاء بالسلطة. غزو الجبهة الوطنية الرواندية والحرب التي تلته، والاتفاقية الدولية لتقاسم السلطة والضغوط من أجل التحول الديمقراطي وما تلاها من ولادة المعارضة السياسية، جميعها هددت احتكار السلطة والمزايا التي تتمتع بها النخبة في رواندا. كانت هذه النخبة مستعدة لاستخدام جميع الوسائل من أجل البقاء سياسيًا وإبقاء قبضتها على المزايا المرتبطة بقوة الدولة. ينسجم ›نمط استغلال النخب‹ بشكل كامل مع “نمط الخصائص الاجتماعية – الثقافية للمجتمع الرواندي”. نخبة قوية، مستعدة لفعل أي شيء للبقاء في السلطة. تستخدم بنية الدولة المفرطة في المركزية، مع خطوط القيادة والسيطرة التي تمتد بعيدًا في عمق الحياة الريفية، لحشد جيش “مطيع”، “وملتزم” و”غير منتقد” من الفلاحين، حتى لو كان ذلك يعني ذبح جيرانهم.

نمط آخر يركز على أهمية “الموارد البيئية”. وتؤكد هذه الحجة على أن ندرة الموارد في رواندا، مصحوبة بأعلى كثافة سكانية في أفريقيا ومعدلات نمو سكاني مرتفعة، شكلت تربة خصبة للعنف الذي تحول إلى إبادة جماعية.

كما حظي دور المجتمع الدولي بقدرٍ كبير من الاهتمام في السنوات القليلة الماضية. بات التركيز غالبًا على الأشهر التي سبقت الإبادة الجماعية وخلالها. وتفيد الحجة هنا بأن الطبيعة السلبية للأطراف الدولية

المعنية مهدت الطريق نحو الإبادة الجماعية، سواء عن قصد – وبشكل ضمني – أو عن غير قصد. كما تتم المجادلة، بأن وجود المجتمع الدولي في رواندا منذ وقت طويل على شكل مشاريع تنموية غذى زخم الإبادة الجماعية، من خلال وجودها الحيادي سياسيًا والجاهل ثقافيًا واجتماعيًا في البلاد.

أنماط التفسير على المستوى الكلي تخفق في فهم وتحليل ديناميكيات وتجارب العنف على المستوى المحلي. بصرف النظر عن الحاجة لفهم الأسباب العامة للصراع من أجل منع حدوثه مرة أخرى، من المهم أيضًا استكشاف ديناميكيات الصراع على المستويات الأدنى من المجتمع. لقد سبق وذكرنا درجة انخراط المواطنين العاديين في أعمال النهب والقتل. من المهم فهم تطورات الإبادة الجماعية في المجتمعات الصغيرة، والتي تمت وجهًا لوجه، حيث إن القدر الأكبر من عمل العدالة الانتقالية يتم على هذا المستوى من خلال محاكم الغاتشاتشا. إن نظام المحاكم مصمم للعمل على الوحدات الأدنى من المجتمع، كما نجادل أدناه. يظهر التحليل الجزئي المقارن للإبادة الجماعية، أن العنف الذي أطلق على المستوى الكلي تم تبنيه وصياغته بشكل أساسي في الشرائح والتشكيلات الاجتماعية السياسية الجزئية التي ترسخت فيها. الإبادة الجماعية، ورغم أنه تمت صياغتها من الأعلى، فقد تمت إعادة صياغتها بشكل كبير على مستوى متمايز جدًا من التوترات الاجتماعية والانقسامات والاختلافات المناطقية المحلية وعلى أساس الخصوصيات المجتمعية أو الفردية. لقد عكس عنف الإبادة الجماعية كلًا من أهداف القوى والعوامل فوق المحلية، وبشكل أساسي الانقسام بين الهوتو والتوتسي والذي تمت تعبئته من قبل اللاعبين السياسيين لأغراض سياسية وانعكاساتها المحلية، من خلال الصراع على السلطة، الخوف، العمليات القسرية (داخل الجماعات)، السعي للحصول على الموارد الاقتصادية والمكاسب الشخصية، والضغائن التي تدفع إلى الانتقام وتصفية الحسابات القديمة.

1. 5. رواندا ما بعد الإبادة الجماعية

استولت الجبهة الوطنية الرواندية على السلطة في 4 تموز/ يوليو 1994 ووضعت حدًا للإبادة الجماعية.

هربت الحكومة المهزومة وقواتها المسلحة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة وتبعها عدد كبير من السكان. ترددت تبعات ذلك خارج حدود رواندا، وتسببت بانعدام استقرار وانعدام أمن إقليمي لسنوات بعد ذلك. رغم أن آلة الإبادة الجماعية توقفت بعد 100 يوم في تموز/ يوليو 1994، فإن العنف ظل هو

النظام السائد. يكشف العمل الميداني في رواندا أن الرواندييين شهدوا عقدًا من العنف بين عام 1990، مع بداية الحرب الأهلية والممارسة السياسية متعددة الأحزاب، ونهاية تسعينيات القرن العشرين، عندما انتهت الأعمال العدائية الظاهرة على تراب رواندا. بداية من عام 1996، وما بعد تفكيك المعسكرات الموجودة في جمهورية الكونغو الديمقراطية بالقوة، هاجمت قوات الحكومة المهزومة وميليشيا إنتراهاموي شمال رواندا من قواعدها في جمهورية الكونغو الديمقراطية. بات هذا يعرف بحرب المتسللين (الأباسينغيزي)، التي قتل فيها مئات – وعلى الأرجح آلاف – المدنيين. وبما أنه كان من الصعب تمييز المتسللين عن المدنيين، فإن الجيش الوطني الرواندي لجأ تدريجيًا إلى إستراتيجيات دموية في مواجهة التمرد لتهدئة المنطقة.

نظرًا لأن الجبهة الوطنية الرواندية كانت الطرف المنتصر عسكريًا، فقد تمكنت من وضع الأجندة لرواندا ما بعد الإبادة الجماعية دون قيود تذكر. الرئيس بول غاغامي أشار بشكل متكرر إلى أنه “يريد بناء بلد جديد” – وهي رغبة ينبغي أن تؤخذ حرفيًا. يشكل التحرر من نظام الإبادة الجماعية واحدًا من العوامل الأيديولوجية الكامنة ومن إستراتيجيات الحصول على الشرعية. لقد تم إطلاق حملة هندسة اجتماعية جريئة، في فترة ما بعد الإبادة الجماعية، من أجل ترجمة هذه الرؤية إلى واقع، متضمنة المجموعة الآتية من الأفكار. يمكن النظر إلى الجبهة الوطنية الرواندية على أنها تهدف إلى بناء رواندا ما بعد استعمارية حقيقية. كانت القوى الاستعمارية قد شوهت جوهر الثقافة الرواندية، وقد حافظت هذه الذهنية الاستعمارية على الجمهوريتين الأولى والثانية. ينبغي للخاصية الرواندية، وليس العرقية، أن تعرّف العلاقات بين الدولة والمجتمع. إن بناء أو إعادة ترسيخ هذه الوحدة القائمة على الخاصية الرواندية تمضي بالتوازي مع إلغاء “أيديولوجيا الإبادة الجماعية”. كما تمت صياغة المصالحة، وهي عنصر بدأ بالهيمنة في الإطار الأيديولوجي ما بعد عام 1994 وبحلول نهاية عقد التسعينيات، يصاغ هو أيضًا على أساس الوحدة، في حين أن الهدف الكلي للعدالة في حالة جرائم الإبادة الجماعية (بمعنى المسؤولية والمساءلة) كان واحدًا من أحجار الزاوية في النظام. ينبغي للتقاليد الرواندية الأصلية المستمدة من النسيج الاجتماعي–الثقافي الرواندي أن تحل محل الممارسات المستوردة والداعية للتقسيم. تعد الغاتشاتشا واحدة من هذه التقاليد، تعتبر هذه المؤسسات جزءًا مما يسمى “بناء ثقافة ديمقراطية” يتم تصورها على أنها “أقرب إلى النموذج الديمقراطي القائم على الإجماع”.

إن اختيار وتأسيس محاكم الغاتشاتشا يتناسب بشكل كامل مع هذه الرؤية. إنها رواندية أصيلة، ومورد ما قبل استعماري تقريبًا؛ وتهدف إلى محاربة الإبادة الجماعية والقضاء على ثقافة الإفلات من العقاب، وينبغي أن تحقق المصالحة بين الروانديين وذلك بإعادة تعزيز الوحدة.

2. الغاتشاتشا “القديمة” و”الجديدة”

يشار إلى نظام محاكم الغاتشاتشا كما يعمل حاليًا في رواندا في كثير من الأحيان بمصطلحات وأوصاف كما لو أنه يتطابق، أو على الأقل يشبه، آلية تسوية الصراعات “التقليدية” المعروفة بالغاتشاتشا. غير أن العلاقة بين الغاتشاتشا “القديمة” و”الجديدة” لا يتعلق بالهوية، ولا حتى بالاستمرارية التدريجية. ثمة اختلاف نوعي، وقد طرأ تغيير جوهري يميز تأسيس محاكم الغاتشاتشا بعد الإبادة الجماعية. يتمثل الشبه في الاسم، والتوجهات المتشابهة بالمعنى الأكثر عمومية، وفي الخصائص المشتركة؛ لكن ينبغي على المرء أن ينظر إلى ما وراء هذه العناصر الأكثر وضوحًا لأوجه الشبه كي يفهم الطبيعة الحقيقية للمؤسسة “القديمة” و”الجديدة” ولكي يدرك لحظة الانقطاع عن الماضي. إن محاكم الغاتشاتشا ›الجديدة‹ هي بالمعنى الحقيقي فعلًا “تقليد مخترع”. وفي حين أن أي مؤسسة “تقليدية” تتغير بمرور الوقت بحكم التغييرات الاجتماعية بشكل عام، فإن الانقطاع هو السمة المميزة في حالة الغاتشاتشا. لقد أدى تدخل الدولة، من خلال الهندسة القانونية والاجتماعية، إلى تصميم وتنفيذ شيء جديد يشبه من بعيد نموذج مؤسسة قائمة.

ولذلك، فإن هذا القسم من الفصل لن يركز على التطور “التدريجي” للغاتشاتشا، بل سيبرز أولًا ماهو معروف حول المؤسسة “القديمة”، ويركز عليها عن قرب في فترات مختلفة، ومن ثم يتحول إلى النظام الذي يتعامل مع جرائم الإبادة الجماعية. يعاني التاريخ البعيد للغاتشاتشا من نفس المشكلة التي تم التركيز عليها آنفًا، والمتعلقة بالتاريخ القديم لرواندا بشكل عام. ليس هناك العديد من المصادر المتوافرة، كما أن فرص تحريف الأدلة والتلاعب بها كثيرة جدًا. ونوجز هنا الخطوط الرئيسية للمؤسسة القديمة والتغيرات التدريجية التي طرأت عليها بمرور الوقت، وذلك بالاعتماد على عدد قليل من المصادر المكتوبة والتي لا تزال متوافرة. وقد حصلنا على إضافات لهذه المعلومات من قبل أشخاص كبار السن، خلال مقابلات أجريت معهم وجمعت خلال العمل الميداني في جميع مناطق رواندا.

يستند فهمنا للسياق الرواندي وعمل نظام محاكم الغاتشاتشا إلى 18 شهرًا من العمل الميداني، الذي تم القيام به بين تموز/ يوليو 2004 ونيسان/ أبريل 2007، في عدد من المجتمعات المحلية الريفية الرواندية. من خلال مجموعة من الطرائق، المتمثلة في ملاحظات المشاركين والمقابلات الحية والمقابلات شبه المركبة والنقاشات مع المجموعات واستبيانات المسوح، استشار المؤلف والأشخاص الروانديون المتعاونون معه حوالي 1.300 مواطن عادي في رواندا، معظمهم من الفلاحين. وراقبنا أكثر من 280 جلسة لمحاكم الغاتشاتشا (أكثر من 700 محاكمة) في عشرة مجتمعات محلية تقع في مناطق مختلفة من البلاد، وأقمنا لفترات أطول في مجتمعات محلية من أجل فهم عملية الغاتشاتشا في السياق الاقتصادي والاجتماعي – السياسي للمجتمعات المحلية.

2. 1. الغاتشاتشا بوصفها آلية “تقليدية” لتسوية النزاعات

من أجل التوصل إلى فهم كامل لأصول وغايات الممارسة القديمة للغاتشاتشا، ينبغي وضعها في الإطار الكوني للعالم الاجتماعي – السياسي لرواندا في ذلك الوقت. كانت القرابة الواسعة أو العائلة (أوموريانغو) تشكل الوحدة الرئيسية للتنظيم الاجتماعي. وكانت تشمل عددًا من الأسر (إنزو)، أو السلالات والوحدات الاجتماعية الأصغر. السن والجنس يحددان المكانة داخل السلالة. الرجال كبار السن ممن توفي آباؤهم وأمهاتهم هم وحدهم المستقلون؛ أما جميع الآخرين، وخصوصًا النساء، فيعتمدون عليهم. رب الأسرة مسؤول عن الالتزام بشعائر الأسلاف، وهو الذي يرتب الزيجات، ويدفع أو يتلقى الديون ويتحكم بوثائق الملكية الجماعية للأرض والمواشي. كانت العائلة هي المصدر الرئيسي للحماية والأمن. ليس للشخص وجود مستقل؛ حيث كانت وحدة العائلة تشكل ضمانة للأمن.

أتت الهيكليات السياسية لتُفرض على العائلات الممتدة. حوالي القرن السابع عشر، كانت رواندا تتكون من عدة مناطق أصغر يحكمها ملوك. كان الملك (موامي) في الوقت نفسه يتحكم بالأشياء العادية وأيضًا بالعلاقة مع عالم ما وراء الطبيعة. كان يجسد السلطة، والعدالة والمعرفة؛ ولم تكن السلطات القضائية والسياسية منفصلة. كان الموامي هو الحكم النهائي، يساعده الأبيرو، وهم حراس التقاليد. إلا أن ثمة مقولة شعبية مفادها: “قبل أن يسمع الملك بشيء، ينبغي أن يسمعه الرجال الحكماء”. وهذا يشير إلى حقيقة أن المشاكل كانت تعالج أولًا في الوحدات الأدنى من المجتمع، من قبل رؤوساء العائلات. من الناحية العملية، كان يحدث هذا فيما بات يعرف بتجمعات الغاتشاتشا.

لقد بات من المتعارف عليه أن كلمة “غاتشاتشا” تعني “العدالة على العشب”. في الواقع، فإن اسم غاتشاتشا مشتق من كلمة “أوموغاشا”، والتي تشير في اللغة الكينيارواندية إلى نبات ناعم وطري يفضل الناس التجمع والجلوس عليه. وكانت هذه التجمعات تهدف إلى استعادة النظام والانسجام. وكان الهدف الرئيسي للتسوية استعادة الانسجام الاجتماعي، والى درجة أقل التوصل إلى الحقيقة حول الأحداث، ومعاقبة المرتكبين، أو حتى التعويض من خلال تقديم الهدايا. رغم أن العناصر الأخيرة يمكن أن تكون جزءًا من التسوية، فإنها كانت عنصرًا ثانويًا بالمقارنة مع استعادة الانسجام بين العائلات وتطهير النظام الاجتماعي.

كان للاستعمار أثر حاسم على المجتمع الرواندي برمته، وبالتالي على الغاتشاتشا أيضًا. خلال الحقبة الاستعمارية، تم إحداث نظام قضائي على النمط الغربي في رواندا، لكن تقاليد الغاتشاتشا حافظت على وظيفتها بوصفها آلية عرفية لتسوية الصراعات على المستوى المحلي. تميز موقف القوى الاستعمارية حيال المجتمع الرواندي بالحكم غير المباشر؛ أي أن المؤسسات الأصلية حافظت على وظائفها. إلاّ أنه، ورغم سياسة الحكم غير المباشر، فإن وجود الإداريين الاستعماريين قد غ وأضعف ما كان موجودًا قبل قدومهم. على المستوى القضائي، تجلى ذلك في أوضح أشكاله من خلال إحداث القانون المكتوب ونظام المحاكم “الغربية” الذي فرض على المؤسسات ›التقليدية‹. استمرت المؤسسات التقليدية بالعمل لكنها كانت أدنى في التراتبية من النظام الجديد. باتت القضايا الخطرة مثل القتل تعالج الآن في المحاكم التي تعمل على النمط الغربي. وعلى نحو مماثل، فقد الملك مكانته الفريدة بوصفه حجر الزاوية في المؤسسات التقليدية، ومن هنا فقد هو والزعماء المحيطون به السلطة والشرعية في تنفيذ الصلاحيات القضائية. كما ينطوي هذا على تلاشي شرعية محاكم الغاتشاتشا.

بعد الاستقلال، تطورت الغاتشاتشا تدريجيًا إلى مؤسسة ترتبط بسلطة الدولة، حيث إن السلطات المحلية كانت تشرف على (أو تلعب دور) الإنيانغاموغايو (القضاة المحليين). وعندما أصبحت الدولة الحديثة أكثر قوة، استوعبت تدريجيًا الأشكال غير الرسمية والتقليدية. وبتلك الطريقة، تطورت مؤسسة الغاتشاتشا إلى هيئة شبه تقليدية أو شبه إدارية. برزت بعض العناصر الجديدة إلى المقدمة؛ حيث بات هناك بعض الإجراءات الثابتة التي ينبغي اتباعها، وبات يتم تدوين الملاحظات، وأصبحت الاجتماعات تعقد في أيام محددة، وما إلى ذلك. وصارت المؤسسة تلعب دور الحاجز، بحيث إن الأطراف المتنازعة (لا يترتب عليها) اللجوء مباشرة إلى نظام المحاكم الرسمية على مستوى الإقليم. إذا كان ذلك ممكنًا، كان يتم تسوية النزاع في أدنى وحدات المجتمع، كما يحدث في غالبية الحالات. وإذا اقتضى الأمر، كانت القضية تحول إلى محكمة أعلى. وكانت الغاتشاتشا تمثل نظامًا شبه قضائي وآلية مناسبة لتخفيف الضغط على نظام المحاكم العادية. رغم إحداث بعض العناصر الرئيسية ورغم علاقتها الأداتية بالهيكليات القضائية الأعلى، فإن الطبيعة التصالحية وغير الرسمية للغاتشاتشا ظلت حجر الزاوية في المؤسسة، حيث إن قراراتها ظلت إلى درجة كبيرة لا تنسجم مع القانون المكتوب للدولة.

جدير بالملاحظة أن الغاتشاتشا، كما وجدت بعد الاستقلال، لا تزال موجودة حتى اليوم، رغم أنها لم تعد تسمى غاتشاتشا. يمكن القول بأنها لا تزال موجودة بشكلين. أولًا، لاحظنا في عدة مناسبات خلال عملنا الميداني أن السلطات المحلية تحاول حل مشاكل السكان في مناطقهم. في الواقع، فإن هذا يشكل أحد أهم مهام المدراء المحليين. بعضهم كان يشير إلى أنشطته بأنها شكل من أشكال الغاتشاتشا. لكن حتى الدور الذي تلعبه السلطات المحلية في تسوية هذه النزاعات المحلية تقلص مع تأسيس “الأبونزي”، وهي لجنة من الوسطاء، مع نهاية عام 2004. من ملاحظتنا لنمط النزاعات التي كان يتم تسويتها، فإن العقوبات التي يمكنها فرضها ونمط الوساطة، من حيث سماتها ونطاق نشاطها، يشبه الغاتشاتشا كما كانت موجودة قبل الإبادة الجماعية. غير أن لجنة الوساطة اتخذت شكلًا رسميًا بالكامل وأدمجت في أجهزة سلطة الدولة أيضًا. وكما في حال محاكم الغاتشاتشا الحديثة، فإن الأبونزي تعمل طبقًا لقوانين مكتوبة وإجراءات محددة؛ إلا أن قراراتها لا تزال مستمدة من العادات.

2. 2. إعادة الدعوة لممارسة الغاتشاتشا

ظهرت إمكانية استخدام الغاتشاتشا مباشرة في أعقاب الإبادة الجماعية، كما يكشف تقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان. جاء هذا التقرير نتيجة أبحاث وتأملات عدد من الباحثين وأساتذة الجامعات الروانديين العاملين في مؤسسات مختلفة. لم يقم هؤلاء فقط بدراسة طبيعة الغاتشاتشا القديمة، بل إن العمل الميداني أكد أيضًا أن الغاتشاتشا كانت أصلًا تعمل بطريقة شبه تقليدية في بعض المناطق بعد انتهاء الإبادة الجماعية مباشرة. وكان ذلك العمل يتم إما بمبادرة من السكان أو من قبل السلطات الإدارية. تكشف رسالة من الحاكم الإداري لإقليم كيبويي في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، مرفقة بتقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام 1996، أن السلطات الإدارية اتخذت المبادرة بدعم ممارسة الغاتشاتشا الموجودة في بعض المناطق والحث عليها. ويشكل محضر اجتماع عقد بين سكان أحد المجتمعات المحلية وممثل عن وزارة الداخلية في آذار/ مارس 1996 دليلًا على حقيقة أن الحكومة كانت تسمح بممارسة الغاتشاتشا غير الرسمية أو شبه التقليدية. وقد كان هذا الدعم غير رسمي، حيث إنه لم يكن جزءًا من السياسة الرسمية، ولم يكن له إطار قانوني ومؤسساتي. يبدو من الواضح أن الغاتشاتشا كانت تعمل غالبًا كما كانت تعمل قبل الإبادة الجماعية، أي أنها كانت تعالج نزاعات ثانوية بين السكان.

كان الظهور العفوي لأنشطة الغاتشاتشا والدعم التدريجي لها من قبل السلطات مدفوعًا بوضوح، بحقيقة أن النظام القضائي العادي لم يكن موجودًا بعد الإبادة الجماعية. وكان على الغاتشاتشا أن تفعل ما كانت تفعله من قبل، أي تخفيف الضغط على المحاكم العادية. لم تكن هذه المحاكم تعمل ببطء الآن، كما كانت من قبل، بل إنها لم تكن تعمل على الإطلاق. حالما بدأت بالعمل، سرعان ما أثقلت بقضايا المشتبه بهم في أحداث الإبادة الجماعية الذين كانوا يملؤون السجون.

بدأ عنصر جديد بالتأثير في ممارسة الغاتشاتشا في حقبة ما بعد الإبادة الجماعية، أي الجرائم المرتبطة بالإبادة وتبعات الإبادة الجماعية. كانت الجرائم المتعلقة بالممتلكات، وهي الجرائم التي كانت “الغاتشاتشا القديمة” تركز عليها، لكن التي ارتكبت حاليًا خلال الإبادة الجماعية وتدمير المنازل وسرقة الأبقار والأدوات المنزلية والاستيلاء على الأراضي وما إلى ذلك، رفعت أمام الإنياغاموغايو والسلطات المحلية. تكشف مراقبة أنشطة محاكم الغاتشاتشا الحالية أنه في حالات التهم المتعلقة بالنهب، كان بوسع مرتكبي الجرائم نبش وثائق تعود إلى السنوات التي أعقبت الإبادة الجماعية مباشرة لإثبات أنهم كانوا قد أعادوا الممتلكات التي نهبوها أو دفعوا تعويضات عن الأضرار التي أحدثوها. كان يتم التوصل إلى التسويات الأولية، في كثير من الأحيان، في سياق اجتماع شبه رسمي أو غير رسمي للغاتشاتشا مع السلطات التي تقيم الدعوى وتشرف عليها، وتقديم الأدلة (الوثائق المستخدمة في القضايا التي ترفع أمام محاكم الغاتشاتشا الحالية) بأن التعويضات كانت قد دفعت.

يقول تقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام 1996، إنه كان من المحظور تمامًا التحدث عن عمليات القتل خلال جلسات الغاتشاتشا في تلك السنوات الأولى بعد الإبادة الجماعية. وجد الناس أن التعامل مع هذه الجرائم مسألة بالغة الحساسية، ويبدو أن الجيران وأفراد العائلات قاموا بالتغطية على أولئك الذين ربما شاركوا في عمليات القتل. إلاّ أن رسالة الحاكم الإداري لكيبويي، تذكر أن اجتماعات الغاتشاتشا ينبغي أن تجمع أسماء أولئك الضالعين في أعمال العنف. كما أن المشاورات في مجتمعات محلية أخرى، حيث كانت الغاتشاتشا تعمل حينذاك، وجدت أيضًا أن الناس اعتقدوا أنها ينبغي أن تعمل كآلية لاستعادة النظام والانسجام في المجتمع، وتحقيق المصالحة بين الأسر والجيران.

في ضوء الملاحظات التي ذكرت عن ممارسة الغاتشاتشا التي وجد الباحثون أنها كانت موجودة في سنتي 1996-1995، تعكس أصول وطبيعة الغاتشاتشا القديمة وطبيعة العنف الذي مورس خلال الإبادة الجماعية. وخلص مؤلفو تقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى استنتاج مفاده، أن مؤسسة الغاتشاتشا يمكن أن تلعب دورًا في التعامل مع الجرائم المتعلقة بالإبادة الجماعية، وقدموا عددًا من التوصيات (انظر المربع 2).

المربع 2: دور الغاتشاتشا في رواندا: توصيات المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان

* كان العنف الذي مورس خلال الإبادة الجماعية والمذابح من الجسامة، بحيث لا يمكن ببساطة أن تتم معالجته في الغاتشاتشا.

* يمكن للغاتشاتشا أن تعمل كنوع من لجنة حقيقة لتحقيق هدفين اثنين. فمن جهة، يمكنها جمع الوقائع حول الأعمال الوحشية التي ارتكبت في المجتمعات المحلية، ومن ثم يتم تقديم المعلومات للمحاكم التقليدية. ومن جهة أخرى، يمكن أن تشكل فضاءً لإعادة توحيد الروانديين ومناقشة القيم المشتركة فيما بينهم، وهي آلية تساعد الناس على العيش معًا والتصالح مع بعضهم بعضًا.

* ينبغي ممارسة الحذر من انخراط الحكومة أكثر مما ينبغي، ولا ينبغي تحويل هذه المؤسسة إلى محكمة رسمية. المصدر: المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

من الواضح أن توصيات تقرير المفوض السامي لحقوق الإنسان لم ينظر بها بجدية، ناهيك عن اتباعها. بعد فترة من التفكير وجولة من المشاورات، اقترحت لجنة أسسها الرئيس الرواندي حينذاك، باستور بيزيمونغو لتحديث آلية تسوية النزاعات ›وتحويلها‹ إلى آلية رسمية لمعالجة القضايا المتعلقة بحوالي130.000  شخص سجنوا بسبب جرائم تتعلق بالإبادة الجماعية حينذاك، وهي مهمة لا يستطيع النظام القضائي “العادي” إنجازها بطريقة مرضية. أتت اللجنة نتيجة اجتماعات ما يسمى بـ “الأوروغويرو”، وفي سياق تلك الاجتماعات التي حدثت بين أيار/ مايو 1998 وآذار/ مارس 1999 . كان يعقد اجتماع مساء كل يوم سبت في مكتب الرئيس مع ›ممثلين عن المجتمع الرواندي‹ لمناقشة المشاكل الخطيرة التي تواجه الروانديين، وكانت تتم مناقشة مقترحات التوصل إلى حلول. وأعطيت مسألة العدالة والتعامل مع الإبادة الجماعية مكانة بارزة على الأجندة، وجرت مناقشة احتمال استخدام الغاتشاتشا. تم التعبير عن تحفظات جدية من بعض المشاركين، لكنها جوبهت بحجج تدعم استخدامها من قبل أنصارها. المربع 3 يلخص الحجج الرئيسية لكلا الطرفين والموجودة في التقرير الذي وضع نتيجة النقاشات.

المربع 3: الحجج المؤيدة والمعارضة لاستخدام الغاتشاتشا التي برزت خلال المداولات مع الرئيس، 1999-1998

الحجج المساقة ضد استخدامها:

* إن محاكمة جرائم الإبادة الجماعية والمذابح في الغاتشاتشا سيقلل من خطورة هذه الجرائم.

* هل يستطيع الناس العاديون من غير المتعلمين وغير المطلعين على الإجراءات القضائية أن يضطلعوا بمعالجة هذه الجرائم الخطيرة؟

* العلاقات العائلية والصداقات ستجعل من هذه المحاكمات منحازة. سيكون من الصعب جدًا إقناع الناس بقول الحقيقة، وفي بعض أنحاء البلاد لم يتبق أحد للإدلاء بإفادته.

* سيكون من الأفضل إذا استخدمت الغاتشاتشا كآلية للتحقيق، وأن تقدم المعلومات للمحاكم التقليدية.

* إن محاكمات الغاتشاتشا للتهم بارتكاب الإبادة الجماعية والمذابح ستؤدي إلى صراعات وتوترات جديدة بين السكان المحليين.

* هل ستكون الغاتشاتشا متطابقة مع القوانين الدولية؟

الحجج المساقة لصالح استخدامها:

* إن السماح لمحاكم الغاتشاتشا بمعالجة جرائم الإبادة الجماعية لا ينطوي على التقليل من خطورة هذه الجرائم. على العكس، فإن ذلك سيجعل الناس يتعاملون مع جرائم الإبادة الجماعية والجرائم الأخرى ضد الإنسانية على نفس المستوى الذي ارتكبت فيه تلك الجرائم. ينبغي أن يشارك كل رواندي في بناء رواندا جديدة.

* الناس ليسوا غير متعلمين إلى درجة أنه لا يمكن تعليمهم. ينبغي شرح نظام الغاتشاتشا للسكان؛ وينبغي تدريب المسؤولين ومساعدتهم من قبل المحامين.

* إن المخاطرة بعدم ظهور الحقيقة وباحتمال الانحياز أمر حقيقي، لكن المشاركين الآخرين يمكن أن يقدموا أدلة متناقضة. هذا سيجعل من الممكن مواجهة هذه النزعات.

* لن تكتفي الغاتشاتشا بالتحقيق، بل ستعاقب أيضًا. إن شكلًا تشاركيًا حقيقيًا للعدالة ينبغي أن يعطي السلطة للسكان للتعامل مع العنف الذي حدث بينهم. بعد استخدامها في الجرائم المتعلقة بالإبادة الجماعية، سيتم تحويلها إلى نظام يتعامل مع الجرائم العادية.

* ستسرع الغاتشاتشا من عملية التعامل مع العدد الهائل من القضايا المتعلقة بالإبادة الجماعية؛ وستضع حدًا لثقافة الإفلات من العقاب بإرسال إشارة لأولئك الذين شاركوا فعليًا في أعمال القتل.

* إن جريمة الإبادة الجماعية جريمة استثنائية وهي بحاجة إلى حل استثنائي للتعامل معها. المصدر: رواندا، تقرير حول اجتماعات التداول التي عقدت في مكتب رئيس الجمهورية بين أيار/مايو 1998 وآذار/ مارس 1999 (كيغالي: مكتب رئيس الجمهورية، 1999).

يوضح التقرير أن فكرة الوحدة تمت مناقشتها ونشرها على نطاق واسع، وأن النقاش تمحور حول الحاجة لإعادة بناء البلاد. إلا أن الموضوع المشترك الكامن وراء النقاشات في تلك السنوات كان، كما يوضح التقرير أيضًا، الهدف المتمثل في القضاء على ثقافة الإفلات من العقاب، والسعي نحو المساءلة. أما كلمة ›مصالحة‹ فبالكاد ذكرت، وخصوصًا ليس في الفصل المتعلق بالعدالة. ظهرت فكرة العدالة التصالحية التي ترتبط حاليًا بنظام محاكم الغاتشاتشا فقط في السنوات التي تلت، وقد تكون اجتماعات أوروغويرو التربة التي نشأت منها لتطرح بعد ذلك في الخطاب العام. إلا أن نظام محاكم الغاتشاتشا وضع تصوره في البداية في مناخ هيمن فيه هدف المساءلة. يلاحظ التقرير أن استخدام خدمة المجتمع كبديل عن العقوبة ينبغي دراسته لكن بطريقة تؤدي إلى تحاشي “تقويض سياسة الحكومة في القضاء على ثقافة الإفلات من العقاب”، ويذكر التقرير أنه ينبغي استخدام اسم “الولايات القضائية لغاتشاتشا” للإشارة إلى أن التراث الرواندي كان مصدر الإلهام بالنسبة لنظام المحاكم الجديد الذي يتمتع، رغم ذلك، بنفس صلاحيات المحاكم الكلاسيكية “الولاية القضائية”. يمكن العثور على مخطط نموذج الغاتشاتشا في التقرير الذي وضع عن اجتماعات أوروغويرو. كانت تلك هي الفكرة الجنينية لما أدخل لاحقًا في القانون، وتم تنفيذه وتعديله بشكل مستمر.

2. 3. تصميم وممارسة نظام محاكم الغاتشاتشا

يتم تعريف التجربة الفعلية نتيجة عمل محاكم الغاتشاتشا ونطاق عملها ومحدوديته، في المقام الأول، بالطريقة التي تم تصورها فيها قبل التنفيذ. كما تم شرحه أعلاه، فقد تم تصور نظام المحاكم خلال اجتماعات أوروغويرو، وخضع هذا التصور لعدة تعديلات بمرور الوقت استنادًا إلى النتائج التي تم التوصل إليها من تجريبها في 751 منطقة والتي بدأت عام 2002. وهنا، نركز على ملامح النظام منذ بدأ تطبيقه في جميع أنحاء البلاد عام 2005.

تم تأسيس محاكم الغاتشاتشا من أجل الملاحقة القضائية ومحاكمة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، بين 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1990 و31 كانون الأول/ ديسمبر 1994. لعملية الغاتشاتشا خمسة أهداف هي:

* معرفة الحقيقة حول ما حدث.

* تسريع الإجراءات القانونية بالنسبة للمتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.

* القضاء على ثقافة الإفلات من العقاب.

* إجراء عملية مصالحة بين الروانديين وتعزيز وحدتهم.

* استخدام قدرات المجتمع الرواندي للتعامل مع مشاكله من خلال نظام عدالة قائم على العادات الرواندية.

تشكل محاكم الغاتشاتشا الأداة الرئيسية للعدالة الانتقالية في رواندا. وهي تنسجم مع الهدف الرئيسي المعلن لتحقيق المساءلة، وبهدف كلي هو التوصل إلى المصالحة.

من أجل تيسير العملية، تم إدماج ثلاثة مبادئ جوهرية في التشريعات المتعلقة بالإبادة الجماعية والغاتشاتشا. من جهة، تم توسيع نظام العدالة على نطاق شعبي وجعله لا مركزيًا وذلك بتأسيس عدد كبير من المحاكم في كل وحدة إدارية في المجتمع. يستند هذا الإجراء إلى نموذج الغاتشاتشا التقليدية وجعل أشخاص عاديين يترأسون جلسات المحاكمة كقضاة، مع المشاركة الفعالة لكل السكان بوصفهم “جمعية عامة”، وليس فقط من خلال مجرد التواجد. ومن ناحية أخرى، هناك مبدأ المساومة في الأحكام من أجل زيادة الأدلة والمعلومات المتوافرة. تم اتباع هذا الأسلوب من أجل تيسير جمع الأدلة. ينبغي على المدعى عليه أن يقدم أكبر قدر ممكن من التفاصيل عن الجريمة (كيف، أين، متى، هوية الضحايا، المتواطئون، والأضرار، إلخ)، والاعتذار علنًا كي يقبل اعترافه ويتم تخفيض الحكم الصادر بحقه. ومن خلال مرسوم رئاسي صدر عام 2003 بات بوسع المرء، من حيث المبدأ، أن يخفف الحكم الصادر بحقه بالكشف عن معلومات حول الجرائم المرتكبة. كان الاعتراف الذي يعتبر كاملًا ومخلصًا، مصحوبًا بطلب العفو، شرطًا ضروريًا لإطلاق السراح المشروط لشخص من السجن. أدى ذلك إلى ظهور الكثير من الاعترافات في غاتشاتشا السجون التي بدأت في مطلع عام 1998.

يكمن أصل الدافع للاعتراف في الضغوط التي مارستها الدولة من خلال حملات التوعية، إلاّ أن له أيضًا طبيعة دينية. رغم أن عددًا كبيرًا من المعتقلين أدلوا باعترافات ›كاملة‹، ثمة تصور عام بأن هذه الإفادات جزئية فقط، وتعترف بجرائم ثانوية، وتحمل المسؤولية لبعض الأشخاص بالتواطؤ، وغالبًا لأولئك الذين ماتوا أصلًا أو ›اختفوا‹ بعد الإبادة الجماعية، بينما يسود الصمت حول مشاركة آخرين.

تيسر هاتان الدعامتان ظهور الحقيقة، التي تشكل لاحقًا أساس مجمل إطار العدالة الانتقالية في رواندا ما بعد الإبادة الجماعية. الحقيقة هي المعلومات اللازمة لتحديد طبيعة الذنب أو البراءة، ومحاكمة المتهمين، والكشف عن الأماكن من أجل إخراج الضحايا من مدافنهم، ومن أجل تحديد أشكال التعويض، وتوليد

المعارف حول الماضي بشكل عام وإعادة صياغة وتأسيس العلاقات الاجتماعية.

ثمة سمة محورية ثالثة تتمثل في مبدأ التصنيف حسب نوع الجرم. تتم الملاحقة القضائية للمشتبه بهم بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في نظام من المحاكم المتوازية. أولئك الذين يتم تحديدهم على أنهم الأشخاص المسؤولون أكثر من غيرهم وعلى أنهم من منظمي أعمال العنف تتم محاكمتهم من قبل المحاكم العادية، في حين يحكم على الآخرين من قبل محاكم الغاتشاتشا. ولذلك، يتم تصنيف المشتبه بهم في ثلاث فئات طبقًا للجريمة أو الجرائم التي ارتكبوها. يحدد التصنيف المحكمة التي ينبغي أن تحاكمهم ونطاق العقوبات المفروضة. وتختلف العقوبة ليس فقط طبقًا لخطورة الجريمة، بل أيضًا طبقًا لما إذا كان المرتكب قد اعترف بالجرائم ومتى قدم هذا الاعتراف. دخل قانون أساسي جديد حيز التنفيذ في آذار/ مارس 2007، لتعديل قانون كان قد صدر عام 2004 (انظر الجدول 1). لا يمكن تطبيق التغييرات بأثر رجعي.

الجدول 1: نظام محاكم الغاتشاتشا في رواندا: التصنيف وإصدار الأحكام

(أ) حزيران/ يونيو 2004 -آذار/ مارس 2007

(*) تخفيض نصف الحكم لخدمة المجتمع بشكل مشروط.

(ب) من آذار/ مارس 2007 فصاعدًا

(*) تخفيض نصف الحكم إلى خدمة المجتمع بشكل مشروط؛ ويعلق سدس الحكم ويتم قضاء ثلث الحكم في مكان الاحتجاز.

المصدر: الجريدة الرسمية لجمهورية رواندا: القانون الأساسي رقم 16/ 2004 الصادر في 19 حزيران/يونيو 2004 ، والقانون الأساسي رقم 2007/ 10  الصادر في 1 آذار/ مارس 2007.

منذ عام 2005، عقدت اجتماعات الغاتشاتشا في كل من الخلايا البالغ عددها 9.013 والقطاعات البالغ عددها 1.545 في رواندا. تتكون الخلية في المجتمع الرواندي من مجتمع محلي صغير يعرف أفراده بعضهم بعضًا وجهًا لوجه، ويقارن بحي في البيئة الحضرية، وهذه هي أصغر وحدة إدارية. أما القطاع فهو يشبه قرية صغيرة ويتكون من عدة خلايا. هناك في رواندا ما مجمله 12.103 محاكم غاتشاتشا أسست في سائر أنحاء البلاد، يرأسها 169.442 إنيانغاموغايو، أو قضاة محليون. ينتخب هؤلاء القضاة من بين السكان، دون أن يكون مطلوبًا خضوعهم لأي تدريب قانوني أو خبرة أو مستوى تعليمي. الخاصية المحورية هي أن يكونوا “أشخاصًا يتمتعون بالنزاهة”. تقع معظم محاكم الغاتشاتشا في المجتمعات المحلية الريفية الصغيرة، لكن تم تأسيسها أيضًا في كل وحدة إدارية على مستوى البلاد، وبالتالي فهي موجودة أيضًا في المدن. تواجه عملية الغاتشاتشا أكثر المشاكل في البيئات الحضرية من حيث مجرياتها العملية. تقوض الهجرة وعدم معرفة الناس لبعضهم بعضًا في المناطق الحضرية والنزعة الفردية، المتطلبات الرئيسية لعملية الغاتشاتشا، والمتمثلة في المعرفة المشتركة للماضي وواقع العيش المشترك.

تتكون مجريات الغاتشاتشا من مرحلتين. خلال المرحلة الأولى، التي تمت على المستوى الإداري للخلية بين كانون الثاني/يناير 2005 وتموز/يوليو 2006، تم جمع المعلومات في كل خلية من خلال الاعترافات والاتهامات. من الناحية العملية، تمت ملاحظة أربعة اتجاهات. أولًا، تميزت هذه المرحلة بالمشاركة الواسعة للسلطات الحكومية التي تنفذ وتشرف على المهمة التي يضطلع بها القضاة عادة. ثانيًا، كان من الممكن فقط جمع الإفادات، أو الاتهامات. كان بوسع السكان أن يتحققوا فقط من المعلومات التي جمعت أصلًا أو أن يضيفوا بعض الإفادات التي تثبت الجرم. أما الإفادات التي تقدم دفاعًا عن المتهمين فلم تسجل وكان يتوجب الاحتفاظ بها حتى مرحلة المحاكمة، حسبما تم شرحه. ثالثًا، كان هناك احتمال وجود تناقض في تفسير وتطبيق القواعد التوجيهية التي وضعتها الخدمة الوطنية للولايات القضائية للغاتشاتشا حسب المكان. أوجد ذلك عنصرًا من الاعتباطية في عملية كان يفترض أن تطبق بشكل متسق. رابعًا، طبقًا للتقديرات التي تستند إلى المجريات التجريبية، فإن 5 بالمئة فقط من القضايا التي تنتظر المحاكمة كانت نتيجة الاعترافات. ولذلك حدث تحول من الاعترافات، أي الاعتراف مقابل تخفيض الحكم، وهي العملية التي استخدمت للتشجيع على كشف الحقيقة فيما يتعلق بالماضي، إلى الممارسات الاتهامية. وقد أوجد ذلك نوعًا خاصًا وغير متوقع من المناخ في المجتمعات المحلية ورفع من عدد الأشخاص المتهمين.

في نهاية مرحلة جمع المعلومات، تم تصنيف الجرائم من قبل القضاة الشعبيين الذين يترأسون محاكم الغاتشاتشا على مستوى الخلية. وكان قرارهم بوضع شخص ما في فئة ما يستند إلى المعلومات التي جمعت خلال المرحلة الأولى من عملية الغاتشاتشا، والتي تحدث على مستوى أصغر وحدة إدارية في المجتمع. رغم أن القضاة المنتخبين يتخذون القرار بتصنيف أحد الأشخاص، فإن المعلومات والأدلة التي يتم هذا على أساسها تأتي من خلال اعتراف أحد المرتكبين و/أو من خلال الاتهامات الموجهة من قبل أفراد “الجمعية العامة” للمحكمة على هذا المستوى، والذين يشكلون جميع سكان الخلية. أشارت المعلومات الإحصائية المقدمة من قبل الخدمة الوطنية للولايات القضائية للغاتشاتشا إلى أنه مع نهاية مرحلة جمع المعلومات كان يتوجب محاكمة 818.564 شخصًا على جرائم تتعلق بالإبادة الجماعية في سائر أنحاء البلاد. من بين أولئك الأشخاص، كان 44.204 أشخاص غير موجودين في البلد و 87.063 شخصًا قد توفوا. أشارت التقديرات عام 2004 استنادًا إلى النتائج التي جمعت خلال المرحلة التجريبية إلى أنه ستوجه الاتهامات إلى حوالي 750.000 شخص. الجدول 2 يظهر حصص كل فئة.

الجدول 2: الملاحقات القضائية ذات العلاقة بالإبادة الجماعية في رواندا: عدد المشتبه بهم في تموز/يوليو 2006

الفئة 1                         77.296

الفئة 2                         432.557

الفئة 3                         308.738

الإجمالي                       818.564

المصدر: رواندا، تقرير حول جمع البيانات في محاكم الغاتشاتشا (كيغالي: الخدمة الوطنية لمحاكم الغاتشاتشا، 2006).

في تموز/يوليو 2006 بدأت المرحلة الثانية (مرحلة المحاكمة). تجري المحاكمات بالنسبة لأولئك الموجودين في الفئة الثانية على مستوى القطاع. تستخدم المعلومات التي جمعت في المرحلة السابقة لإجراء محاكمة المتهمين وأولئك الذين قدموا اعترافاتهم. تجدر الملاحظة أنه في عدة أماكن لم يكتمل جمع المعلومات، وكانت العملية لا تزال مستمرة عند إجراء المحاكمات. خلال مرحلة المحاكمة، يستدعي القضاة المنتخبون في محكمة الغاتشاتشا في القطاع الأطراف في القضية، أي المتهم أو الشخص الذي قدم الاعتراف، والشخص الذي وجه الاتهام أو الضحية (وفي كثير من الأحيان يكون الضحية هو الذي يوجه الاتهام، لكن ليس دائمًا). وغالبًا ما يكون المتهمون يعيشون أحرارًا في المجتمع المحلي. في بعض الأحيان، يوضع المتهمون خلال مرحلة جمع المعلومات في مراكز احتجاز وقائي، بموجب أوامر من “الإنياغاموغايو” لمنعهم من الهرب. ينقل هؤلاء، مع أولئك الذين وضعوا في مراكز الاحتجاز بعد الإبادة الجماعية مباشرة إلى قراهم محاكم الغاتشاتشا في رواندا الأصلية. يقرأ القضاة ملفات القضايا، أي الإفادات التي تم جمعها، بصوت عال، ويسمعون الأطراف في القضية والشهود المحتملين أو الأشخاص الآخرين الذين يرغبون بالتدخل. عندما تتم دراسة القضية بشكل كاف، يتداولون فيما بينهم ويصدرون الحكم علنًا.

تتاح للشخص الذي يحكم عليه إمكانية الاستئناف. وتتم مراجعة قضيته من قبل محكمة استئناف الغاتشاتشا في القطاع، والتي تتكون من مجموعة أخرى من القضاة المنتخبين، وسكان نفس المنطقة. إذا تلقى أحد الأشخاص حكمًا بالسجن، فإنه يحتجز مباشرة؛ وإذا كان قد قضى حكمه أصلًا بينما كان في مركز الاعتقال ينتظر المحاكمة، يطلق سراحه. منذ أواسط عام 2007 ، وبسبب اكتظاظ السجون بالسجناء الجدد منذ بداية عملية الغاتشاتشا، بات يترتب على المحكومين قضاء فترة في خدمة المجتمع. ويتم ذلك في معسكرات عمل، لكن يتم التخطيط لجعل ذلك لامركزيًا على مستوى المجتمعات المحلية المعنية.

تشير التقارير الشهرية حول التقدم المحرز إلى أنه في هذه الفترة (تموز/يوليو 2006 – شباط/فبراير 2007) جرت محاكمة حوالي 10.000 شخص شهريًا. يقدم الجدول 3 لمحة عامة عن أنشطة المحاكمات بين 15 تموز/يوليو2006  ونهاية شباط/فبراير 2007. بعد آذار/مارس 2007، تم تعديل إجراءات المحاكمة مرة أخرى.

الجدول 3: الأنشطة خلال محاكمات الغاتشاتشا في رواندا، تموز/يوليو 2006 -شباط/فبراير 2007

المصدر: التقارير الشهرية حول التقدم المحرز للخدمة الوطنية للولايات القضائية للغاتشاتشا )موجود نسخة منها لدى المؤلف(.

نظريًا، تستمر مرحلة المحاكمات إلى أن يتم التعامل مع جميع القضايا. لكن ومنذ مطلع عام 2007 ، بدأت الحكومة تضغط بشكل متزايد على القضاة لتسريع عملهم. كانت نهاية عام 2007 هي الموعد النهائي (الطموح)، وتم تأجيله. لكن في بعض الأماكن، انتهت أنشطة الغاتشاتشا خلال عام 2007 . القانون الجديد يجعل من الممكن تأسيس عدد كبير من المحاكم في منطقة ما بدلًا من المحكمة الوحيدة التي كانت موجودة من قبل. وبما أنه كان ينبغي محاكمة 432.557 شخصًا بواقع 10.000 كل شهر، فإن ذلك كان سيستغرق ثلاث سنوات ونصف أخرى حتى نهاية العملية. ولذلك، فمنذ آذار/مارس 2007، تمت إضافة حوالي 3.000 محكمة جديدة إلى 12.103 محاكم كانت موجودة أصلًا. في بعض القطاعات هناك 12 محكمة تعمل في الوقت نفسه. في البداية، كان هناك يوم محدد في الأسبوع تعقد فيه اجتماعات الغاتشاتشا، لكن، ومن أجل تسريع المحاكمات، أجبرت العديد من المناطق التي فيها عدد كبير من القضايا على أن تعقد جلساتها مرتين أسبوعيًا. محكمة الغاتشاتشا تدرس بين قضية وأكثر من 10 قضايا يوميًا. أضف إلى ذلك، فإن حوالي 80.000 شخص وضعوا في الفئة الأولى. ينبغي محاكمة هؤلاء الأشخاص من خلال نظام المحاكم الكلاسيكية. وهذا يساوي عدد الأشخاص الذين كانوا مسجونين في البداية، والذين كان من المستحيل عمليًا محاكمتهم في المحاكم العادية.

تتم معالجة الجرائم المتعلقة بالممتلكات في محاكم الغاتشاتشا على مستوى الخلية. وهناك احتمالان على كل مستوى. أولًا، يمكن لطرفي النزاع، الضحية والمرتكب، أن يتوصلا إلى تسوية ودية تتعلق بنوع التعويض ومبلغه. ثم يقوم القضاة بالإشراف على الاتفاق وتصديقه. ثانيًا، إذا لم يكن هناك تفاهم متبادل، تجري المحاكمة طبقًا لنفس الإجراءات الموصوفة أعلاه. وأخيرًا، يتوصل القضاة إلى قرار حول طبيعة التعويض. جدير بالملاحظة أن التعويض بالنسبة لهذه الجرائم ليس فرديًا بل يتعلق بالأسرة. وهذا لا أساس قانونيًا له، بل أساس عرفي فقط.

إن عملية الغاتشاتشا عملية معقدة جدًا حسب تصور وتجربة الروانديين العاديين. يمكن للأشخاص الأكبر سنًا أن يقارنوا هذا الوضع مع ما كان يحدث في الماضي، حيث كان لهم تجربة مباشرة مع المؤسسة “القديمة”. وهم يشيرون في معظم الأحيان إلى محاكم الغاتشاتشا بوصفها ›إحدى أدوات الدولة‹. يتم تأسيس محاكم الغاتشاتشا حاليًا من قبل الدولة وتوضع لها قواعد وهناك أشخاص يدونون الملاحظات، في حين أن النسخة التقليدية كانت أكثر بساطة في عملها وأهدافها. كانت الفكرة هي أن يجتمع الناس ويتحدثون حول المشكلة أو النزاع من أجل استعادة العلاقات المنسجمة، ومنع استمرار الكراهية بين العائلات. في الماضي، كانت الاجراءات المتخذة رمزية في معظم الأحيان وذات طبيعة تصالحية من خلال العقوبات التي كانت تتخذ شكل التعويض عن الضرر الذي تم إلحاقه، بينما تهدف المحاكم الحالية إلى معاقبة الأفراد من خلال الأحكام بالسجن.

كانت محاكم الغاتشاتشا القديمة تستخدم غالبًا في الجرائم الصغيرة، رغم أنها كانت يمكن أن تستخدم فيما يبدو في قضايا القتل. قد يكون وصول الاستعمار قد أحدث تعديلًا على وظيفة الغاتشاتشا في هذا الصدد، وذلك من خلال حظر استخدامها في الجرائم الخطيرة. تواجه الغاتشاتشا مشاكل في التوصل إلى الحقيقة، إلاّ أن الغاتشاتشا لو تركت دون تعديل وظلت على طريقتها التقليدية لكانت غير ملائمة للتعامل مع المشاكل العديدة المتعلقة بالإبادة الجماعية. في الغاتشاتشا المستخدمة حاليًا، لم يعد عنصر المصالحة بين العائلات (والأفراد) المحور الذي تستند إليه المؤسسة، بل إنه لم يعد موجودًا.

لقد سبق وذكرنا أن الاختلاف بين الغاتشاتشا القديمة والحديثة لا يتعلق بالدرجة بل بالنوع. يمكن العثور على أهم أوجه الشبه بين الغاتشاتشا الراهنة والقديمة على مستوى الخلية، حيث تتعامل محاكم الغاتشاتشا مع الجرائم المتعلقة بالممتلكات. هناك احتمالان، التسوية أو المحاكمة. فقط عندما يتم التوصل إلى تسويات ودية وعندما يعمل القضاة كلجان إشراف على محاولة المصالحة، يمكن تبين روح الغاتشاتشا القديمة.

2. 4. آليات وأهداف أخرى للعدالة الانتقالية

تعد محاكم الغاتشاتشا الأداة الرئيسية للعدالة الانتقالية في رواندا. إنها تناسب الهدف المعلن المتمثل في المساءلة مع الإشارة بشكل صريح إلى المصالحة، كما ذكرنا أعلاه. إضافة إلى محاكم الغاتشاتشا، هناك إستراتيجيات عدالة انتقالية أخرى تم تبنيها، وآليات أخرى تم تأسيسها، رغم أنها تبقى في الخلفية. لقد حملت المسؤولية الرئيسية عن تحقيق المساءلة أصلًا لنظام العدالة الرواندي العادي. إلا أن محاكم البداية لم تستطع ببساطة معالجة العدد الهائل من القضايا. عالج نظام القضاء الكلاسيكي 1.026 حالة بين عامي 1997  و2004.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1994 أسس قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 955 المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، من أجل الملاحقة الشخصية للأشخاص المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية وغيرها من انتهاكات القانون الدولي، وذلك لضمان ألاّ يمر هذا النوع من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان دون عقاب. كانت العلاقة بين المحكمة الدولية الخاصة برواندا والحكومة الرواندية صعبة دائمًا، وغالبًا بسبب الاحتمال بأن تقوم المحكمة بالتحقيق بجرائم الحرب التي ارتكبها جنود الجبهة الوطنية الرواندية وقادتهم. إلاّ أن سجل المحكمة يحتوي على العديد من المثالب أيضًا. لقد كان تواصلها مع الروانديين العاديين معدومًا فعليًا. وتصور المحكمة في رواندا، وبالتالي تعتبر كذلك مثالًا على الطريقة الغربية في تحقيق العدالة، أي عديمة الكفاءة، وتستغرق وقتًا طويلًا، ومكلفة، ولا تتناسب مع العادات الرواندية. وكما هو الحال مع إجراءات المحكمة الدولية الخاصة برواندا والتي عقدت خارج رواندا في أروشا، في تنزانيا المجاورة، كان هناك محادثات أخرى عقدت في بلدان ثالثة. واستنادًا إلى قوانين الولاية القضائية العالمية، فإن المحاكمات التي عقدت في سويسرا عام 1999 وفي بلجيكا عام 2001  و2005 و2007 أسهمت أيضًا في المسعى لتحقيق المساءلة.

إضافة إلى المقاربة “الجزائية” المهيمنة، أضيف مكون تصالحي من خلال تأسيس صندوق لمساعدة الناجين من الإبادة الجماعية. كما تم وضع تصور لصندوق مخصص للتعويض على الضحايا، لكنه لم يتحول إلى واقع. كما تسهم خدمة المجتمع، المرتبطة على نحو وثيق بمحاكم الغاتشاتشا، بمقاربة للماضي أكثر تركيزًا على التعويض.

تأسست لجنة الوحدة الوطنية والمصالحة في عام 1999 ومنحت تفويضًا يمكن اختصاره بـ “تعزيز الوحدة والمصالحة”، والذي تبلور في أوضح صوره من خلال تنظيم معسكرات التضامن في إنغاندو من أجل إعادة الإدماج وإعادة التعليم. يبدو أن الأكثر أهمية، هو أن تأسيس لجنة الوحدة الوطنية والمصالحة شكّل علامة على التحول من المقاربة الجزائية الحصرية إلى عنصر إضافي يركز على المصالحة. في السنوات الأخيرة فقط، بدأ خطاب المصالحة بالظهور على السطح. الآن باتت كل مبادرة اجتماعية – سياسية، من برامج تخفيف حدة الفقر إلى برامج إعادة التوطين إلى اللامركزية السياسية، تصاغ بلغة ›المصالحة‹، و›تعزيز الوحدة‹، و›التمكين‹ و ›إعادة بناء العلاقات الاجتماعية‹. رغم هذا التغير في المناخ، فإن محاكم الغاتشاتشا تواجه صعوبة في التخلص من المقاربة الجزائية للعدالة والكامنة في جوهرها. كما تمت الإشارة إليه أعلاه، فإن هذه المحاكم تأسست في وقت لم يكن هدف المصالحة (أو الإشادة بها لفظيًا) بارزًا كما هو اليوم.

2. 5. اللاعبون والشركاء المعنيون الرئيسيون

إن نظرة أكثر تمعنًا إلى قائمة المشاركين في اجتماعات أوروغويرو، حيث تم تصور نظام محاكم الغاتشاتشا، تكشف عن مشاركة أعضاء الحكومة، أعضاء في مؤسسات الدولة المهمة، ممثلين عن الجيش والشرطة، وممثلين عن الأحزاب السياسية (المسموح بها). وفي النقاشات المتعلقة بالعدالة، دعي أفراد من الجهاز القضائي وبعض المحامين. بالنظر إلى النموذج النهائي للانتقال السياسي، أي الانقلاب العسكري وما تلا ذلك من توازن للقوى، مع هيمنة الجبهة الوطنية الرواندية على جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، لا عجب أن تتم مناقشة طبيعة العدالة في أعقاب الإبادة الجماعية والحرب دون وجود أفكار “بديلة” ومشاريع أخرى لمجتمع رواندا ما بعد الإبادة الجماعية. كان ذلك نقاشًا بين النظراء، وقد حدث بشكل أساسي بسبب غياب “المجتمع المدني”.

لم يشارك أي عضو في المجتمع المدني في النقاشات، كما أنهم لم يشاركوا في العملية التي تم تصور محاكم الغاتشاتشا خلالها. وهذا ليس مفاجئًا، حيث لم يكن المجتمع المدني موجودًا أصلًا خلال حكم نظام هابياريمانا. ما كان موجودًا كان إضافة من حيث الكم، وليس من حيث النوع. للمجتمع المدني الصحي عادة تاريخ يعتمد عليه وبيئة اجتماعية – سياسية يمكن أن يزدهر فيها. وليس للمجتمع المدني تاريخ في رواندا بسبب السوابق التاريخية للدكتاتورية، كما أن البيئة الاجتماعية – السياسية غائبة بسبب الاختيار المتعمد لنخبة سياسية جديدة. وزير الإدارة المحلية، والشؤون الاجتماعية والتنمية في نظام ما بعد الإبادة الجماعية، بروتايس موسوني، يصف موقف نظام رواندا فيما يتعلق بالمجتمع المدني بشكل واضح: “هناك مناظرتان حول دور منظمات المجتمع المدني في البلدان النامية يشارك فيها باحثون دوليون. من جهة ينظر إلى المجتمع المدني على أنه قوة مناهضة للحكومة، ومن جهة أخرى ينظر إلى المجتمع المدني على أنه شريك فعال في تقديم الخدمات وفي العملية التنموية. رواندا تفضل المقاربة الثانية”.

تمثل جمعيات الضحايا، مثل إيبوكا، وهي الجمعية التي تشكل مظلة للناجين من الإبادة الجماعية، أصواتًا محلية نادرًا ما تسمع. موقفها، بشكل عام، يدعم عملية الغاتشاتشا لكنها تتدخل بشكل حاسم وقت ظهور المشاكل، خصوصًا عندما تتم مضايقة الناجين من الإبادة الجماعية نتيجة لمشاركتهم في عملية الغاتشاتشا. كما أن إيبوكا قادرة على التنظيم على المستوى المحلي. لقد لاحظنا بشكل متكرر انعقاد اجتماعات لأعضاء الإيبوكا لمناقشة مجريات الغاتشاتشا في مجتمعاتهم المحلية. في كثير من الأحيان يقدم ممثلو إيبوكا القادمون من خارج المجتمعات المحلية المشورة، أو يحذرون القرويين الذين نجوا من الإبادة الجماعية فيما يتعلق بسلوكهم حيال السجناء الذين يطلق سراحهم، أو الإستراتيجيات التي ينبغي تبنيها خلال جلسات الغاتشاتشا. هذه التعليمات لا تتطابق دائمًا مع توجيهات الحكومة فيما يتعلق بمحاكم الغاتشاتشا، والتي توجه إلى المستوى المحلي خلال حملات التوعية العديدة، لكنها لا تشكك بشكل جوهري في الإطار الذي تضعها فيه سياسة الحكومة.

الكنائس والتي طالما ظلت البيئة الوحيدة التي يمكن للحركات المناهضة لهيمنة الحكومة أن تتطور فيها، تطلب مساعدتها لنشر صورة إيجابية عن عملية الغاتشاتشا. الكنيسة الكاثوليكية، وهي المؤسسة الدينية الأكبر، تقبل هذا الدور التابع الذي ينبغي عليها لعبه، غالبًا بسبب الدور الذي لعبه بعض المنتمين اليها في المذابح.

كما أن للبلدان المانحة دورًا مهمًا في الأنشطة القضائية في رواندا ما بعد الإبادة الجماعية ونظام محاكم الغاتشاتشا بشكل خاص. البعض يسمي الظاهرة في رواندا بأنها “العدالة المدفوعة من المانحين” بعد فترة أولية من الإحجام، بات معظم المانحين يدعمون نظام محاكم الغاتشاتشا حديث التكوين بسبب معرفتهم بأنه الخيار الأقل سوءًا لمعالجة الماضي، من جهة، لأن العدالة الكلاسيكية (الجزائية) لن تكون قادرة على إدارة وتسوية مشاكل الماضي، ومن جهة أخرى، لأنها عدالة ثورية غير معروفة وغير مثالية.

على المستوى المحلي، يمكننا التعرف على عدة فئات اجتماعية تلعب دورًا في عملية الغاتشاتشا. هذه المجموعات قائمة على أساس الهوية وفي كثير من الأحيان لديها رهانات مختلفة في مجريات الغاتشاتشا، ولذلك فهي تصور مواقف متباعدة حيال هذه المؤسسة. إن تشكيل المجموعة على هامش حلبة الغاتشاتشا ليست مسألة عرقية فقط. منذ عام 1994 ، ظهرت هويات جديدة. إنها تمثل فئات فرعية للانقسام الرئيسي الذي يهيمن على المجتمع الرواندي، أي القطبية الثنائية للهوتو والتوتسي.

يمكن تقسيم الباتوتسي إلى ناجين من الإبادة الجماعية و”العائدين القدامى”. الفئة الأولى عاشت في رواندا قبل الإبادة الجماعية ونجت من الاضطرابات والفوضى. والفئة الثانية إما مِن لاجئين سابقين أو من أبناء اللاجئين الذين غادروا رواندا بعد ثورة الهوتو. وقد استقر هؤلاء غالبًا في المدن بعد عودتهم إلى رواندا في أعقاب الإبادة الجماعية. آخرون، من الفلاحين العاديين، عادوا غالبًا إلى منطقة عائلاتهم الأصلية. وهؤلاء يلعبون دورًا ثانويًا في مجريات الغاتشاتشا. لم يتأثروا بالإبادة الجماعية في المناطق التي يعيشون فيها حاليًا. وهؤلاء غالبًا ما يكونوا من بين قضاة الغاتشاتشا في مجتمعاتهم، أو يمكن أن يتدخلوا في المجريات بإبداء بعض الملاحظات العامة.

الناجون من ناحية أخرى، هم المعنيون الرئيسيون في عملية الغاتشاتشا على المستوى المحلي. وجميع هؤلاء تقريبًا يحملون هوية التوتسي، مع بعض الاستثناءات القليلة. توضح الملاحظات أثناء العمل الميداني أن هناك، بشكل عام، ثلاثة معايير ضرورية ليتمكن المرء من تقديم ادعاء مشروع بأنه ضحية يسعى للعدالة بسبب ›أخطاء ارتكبت‹ في محاكم الغاتشاتشا: ينبغي أن يكون المرء قد عانى من الاضطهاد، وليس ببساطة ›أن يكون قد خسر‹ بين تشرين الأول/أكتوبر 1990 وكانون الأول/ ديسمبر 1994؛ والاضطهاد بسبب هوية معينة؛ أو اضطهاد “على أساس الهوية” بسبب الانتماء إلى مجموعة التوتسي العرقية، والتي أحد أفرادها حاليًا يعترف به رسميًا على أنه ناجٍ من الإبادة الجماعية. الناجون هم المحفزون لمجريات الغاتشاتشا من حيث إنهم يقدمون إفاداتهم، ويوجهون الاتهامات ويقدمون المعلومات المتعلقة بالماضي. لكن، ورغم معرفتهم بالأحداث خلال الإبادة الجماعية بشكل عام، وبشكل أكثر تحديدًا حول ما حدث لهم شخصيًا، فإنهم نجوا لأنهم كانوا مختبئين وبالتالي فإن معرفتهم محدودة. تقييمهم لمحاكم الغاتشاتشا متفاوت. إنهم يرون فيها فرصة للحصول على المزيد من المعلومات حول المواقع التي دُفن فيها أفراد عائلتهم القتلى، أو كوسيلة للحصول على بعض التعويضات العينية عن الخسائر التي تعرضوا لها أو رؤية المسؤولين عن جرائم الماضي يعاقبون على أفعالهم. إلا أنهم يعون أيضًا أن إفاداتهم التي تجرّم الآخرين تتسبب في ›علاقات سيئة‹ مع عائلات المتهمين والسجناء. إنهم يرون نتائج إفاداتهم في كثير من الأحيان في الغاتشاتشا، أي التي تؤدي إلى السجن أو خدمة المجتمع في معسكرات العمل، على أنها الفائدة الوحيدة التي يجنونها من الدولة.

بين الباهوتو، يمكن التمييز بين أربع مجموعات في المجتمع المحلي. أولًا، هناك السجناء الغائبون عن حياة القرية اليومية والذين يتم نقلهم إلى القرية عندما تجري محاكمتهم. إلا أن أسرهم موجودة، وتتواصل مع محاكم الغاتشاتشا كوسيلة لإطلاق سراح أحبّتها. ثانيًا، يضم المجتمع المحلي سجناء محررين اعترفوا في السجن ولذلك أطلق سراحهم. تتم مراقبة هؤلاء بشكل وثيق من قبل السلطات. وفي كثير من الأحيان يلعبون دورًا مهمًا في مجريات الغاتشاتشا بتوجيه الاتهامات إلى القرويين من الباهوتو الذين لم يسجنوا لكنهم كانوا ضالعين بشكل ما في الإبادة الجماعية. إذا كان اعترافهم صادقًا وإذا كانوا مقتنعين شخصيًا بأن كشف الحقيقة حول الماضي أمر ضروري، فإنهم يكونون بمثابة شهود خبراء وتتم استشارتهم في كثير من الأحيان من قبل الإنياغاموغايو. إلا أن صدقهم يؤدي إلى صراعات خطيرة بينهم وبين أولئك الذين يتهمونهم. يستخدم التخويف أو وسائل غير مباشرة لإسكاتهم أو لعقد تحالفات معهم. وتستخدم نفس التكتيكات للتأثير في سلوك الناجين من الإبادة الجماعية. في بعض الأحيان تحدث عمليات قتل للتخلص من الشهود. بشكل عام، ثمة تصور بأن هؤلاء السجناء المحررين أدلوا باعترافات جزئية فقط للخروج من السجن، واعترفوا بجرائم ثانوية، واتهموا آخرين بالضلوع بالجرائم، خصوصًا من أولئك الذين قتلوا أو اختفوا، وظلوا صامتين حيال مشاركة آخرين. يبقى هناك مجموعتان فرعيتان من الهوتو، أولئك الذين اتهموا في الغاتشاتشا والذين لم يتهموا. المجموعة الفرعية الأولى تعيش في خوف من محاكمة قادمة يصعب التنبؤ بنتائجها. وأولئك في المجموعة الفرعية الثانية يشعرون بالارتياح لأنهم غير متهمين، لكنهم حذرون جدًا بألاّ ينخرطوا في صراع مع أي شخص لأنهم يعرفون بأن الصراعات الحالية يمكن أن تجرّهم إلى حلبة الغاتشاتشا لتتم تسويتها بناء على مزاعم بأنها جريمة تتعلق بالإبادة الجماعية.

في البداية، كان الإنياغاموغايو، كما تنص التقاليد، “رجالًا مسنين وحكماء”. لكن بعد عدة أشهر، توجب استبدال عدد كبير منهم لأنهم كانوا هم أنفسهم موضع اتهام في الغاتشاتشا. بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2005، تم استبدال 26.752 أو 15.7 بالمئة من القضاة لأنه كان مشتبهًا بهم. تم استبدالهم بنساء وبأشخاص أصغر سنًا وبناجين من الإبادة الجماعية. تحوي مقاعد الغاتشاتشا في كثير من الأحيان مزيجًا من الناجين (الباتوتسي) و “غير الناجين” (الباهوتو). في بعض الأحيان يكون القضاة جميعهم من الهوتو أو جميعهم من التوتسي. ينظر إلى التركيبة العرقية لأفراد المحكمة كوسيلة لتمرير وجهة نظر. تلقّى القضاة فترة قصيرة من التدريب حول القانون والإجراءات. في كل مقاطعة (أي في كل 10 قطاعات تقريبًا) هناك منسق للإشراف على أنشطة الغاتشاتشا. وهذا هو الشخص الذي يمكن استشارته من قبل القضاة.

لا تلعب السلطات المحلية عمومًا دورًا نشطًا بشكل واضح في مجريات الغاتشاتشا لكنها موجودة دائمًا، مع بعض قوات الأمن، وقد تلقوا تعليمات من السلطات العليا بأن عليهم أن يراقبوا أنشطة الغاتشاتشا على نحو وثيق وأن يضعوا تقارير بذلك. وقد كلفت السلطات المحلية ببعض المهام القضائية الصرفة مثل جمع المعلومات، حيث يلعب السكان والقضاة دورًا ثانويًا فقط. تقوم السلطات المحلية بتعبئة المواطنين في حملات تحسيس وتوعية وتدون الملاحظات حول حضور الأشخاص الذين يعيشون في مناطقها الإدارية. إن عدم المشاركة في الغاتشاتشا يعني إما التعرض للغرامة أو عدم تلقي الخدمات عند الاتصال بالإدارة المحلية.

وبهذا المعنى، فإن المفارقة هي أن الغاتشاتشا شكل من العدالة التشاركية غير الشعبية، حيث تتواجد جموع كبيرة من الأشخاص غير المهتمين جسديًا لكنهم يغيبون نفسيًا أو أنهم لا يدعمون تلك الأنشطة. أما المتحدثون فهم غالبًا القضاة، والناجون ومجموعة صغيرة من السجناء المحررين.

2. 6. الحياة في حقبة ما بعد الإبادة الجماعية واستحداث محاكم الغاتشاتشا

في السنوات العشر التي فصلت الإبادة الجماعية عن محاكمات الغاتشاتشا، عاش الضحايا وأولئك الذين كانوا ضالعين في العنف، لكنهم لم يلعبوا دورًا قياديًا خلال الإبادة الجماعية معًا، كل مجموعة على تلالها، ليس كجيران كما هو حالهم الآن، حيث إن الناجين جمعوا معًا في مواقع إعادة توطين، لكنهم كانوا لا يزالون في نفس المنطقة. ولذلك كان عليهم تطوير أسلوب حياة ووسائل يتمكنون فيها من التفاعل مع بعضهم بعضًا. من المهم فهم هذه االإستراتيجيات والتكتيكات المستخدمة في الحياة اليومية في العقد الذي سبق تأسيس محاكم الغاتشاتشا بموافقة الدولة. هذا يسمح لنا بالتحقق مما إذا كان تأسيسها قد يسر أو عرقل عملية طبيعية ل ›التعامل مع الماضي‹. لم يكن العيش معًا خيارًا شخصيًا، بل أمرًا تحتمه الضرورة.

اتسمت هذه المساكنة في البداية بالخوف المتبادل، الذي تراجع تدريجيًا بمرور الوقت. بعد عام 2003، تكثف هذا الخوف من وقت إلى آخر مع كل موجة من تحرير المعتقلين الذين كانوا قد أدلوا باعترافاتهم في السجن. حتى عام 2005، بداية محاكمات الغاتشاتشا، كان يتم التعبير عن تبعات الإبادة الجماعية بتعابير الخسائر المادية والبشرية. كان انعدام الثقة موجودًا بين مختلف المجموعات العرقية، لكنه كان يعتمل تحت سطح الحياة الاجتماعية. بحكم الضرورة، عادت الحياة إلى شكل من أشكالها الطبيعية والمساكنة. الحياة على الهضاب براغماتية إلى درجة كبيرة، ويتم الإبقاء على التوترات والصراعات في الظلام، لأن الجيران والقرويين يعتمدون على بعضهم بعضًا في أنشطتهم اليومية وفي صراعهم من أجل البقاء في ظروف الفقر المشترك.

إن المصالحة “السطحية” تختلف عن نسختها “الحقيقة”، في رواندا كما في أمكنة أخرى. إن التعايش (كوبانا)، مسألة ضرورة، وقد تصبح أقل إثارة للخوف بالنسبة لأولئك المعنيين مباشرة بمرور الوقت، إلاّ أن المصالحة الشخصية (أوبيونغي)، مسألة تتعلق بالقلب وحالة شعورية في علاقة اجتماعية. يشير الرواندويون، وخصوصًا الناجين، في كثير من الأحيان إلى “القلب” عند التحدث عن أحداث الماضي وعند التعبير عن طبيعة، ومستوى الثقة التي يضعونها في جيرانهم والقرويين الآخرين أو أفراد المجموعة العرقية الأخرى. في السياق الرواندي، فإن القلب يمثل القوة التي توحد الكائن البشري. إنه مركز استقبال الدوافع الخارجية ومقر الحركة الداخلية. تترابط العواطف، والأفكار والإرادة وتتوحد في القلب. القلب يبقى غير مفتوح للآخرين لكنه يظل موطن الحقيقة. بسبب العنف الذي عاشه الروانديون، فإن “القلوب قد تغيرت”.

لقد تغير القلب بسبب الجرائم المرتكبة، والعنف الذي عانى منه الناس أو الأفعال غير الإنسانية التي شهدوها. لقد تغيرت الأحوال المعيشية، والعالم الاجتماعي والتفاعلات اليومية إلى شكل من أشكال الحياة الطبيعية، إلاّ أن المظاهر الخارجية التي تشي بالطبيعية لا تكشف الكثير عن دواخل شخص ما. المظاهر الخارجية خادعة، كما تقول التعابير الشعبية: “لا ينطق الفم دائمًا بما يعتمل في القلب” أو “أعطِ المعدة الحاقدة حليبًا وستستفرغه دمًا”. لقد أصبحت الأفعال والتفاعلات اليومية طريقة للتعامل مع الماضي، بمعنى إيجابي أو سلبي؛ اللقاء العابر في الطريق إلى الحقول، تقديم كأس من بيرة الموز أو التشارك في شربها في الحانة المحلية، الدعوة إلى عرس أو تقديم يد المساعدة عند نقل شخص مريض إلى المستشفى قد تكون محفزات في إعادة بناء العواطف والعلاقات. في هذه الأثناء، فإن الاتهامات بممارسة السحر، أو التهديدات أو الشكوك بالتسميم، و(تفسير) غمزة عين أو عدم دعوة شخص إلى احتفال ما تكفي لتعميق انعدام الثقة. في بعض الأحيان عقدت تحالفات بين الضحايا والمرتكبين، بحكم الضرورة، لكن في أحيان أخرى بدافع الاختيار. إن استكشاف هذه الممارسات والانخراط فيها كان وسيلة لدراسة وتفحص إنسانية الآخر، المتبلورة في القلب.

إن الانخراط مع الماضي في هذه الممارسات والمواجهات اليومية كان قد تطور على مدى السنين. ما نسميه قول الحقيقة وتحقيق العدالة وتعزيز المصالحة أو تقديم التعويض (أو عكس العواطف، مثل الرغبة بالانتقام أو انعدام الثقة)، كانت قد تجذرت في المكامن الغامضة للحياة المحلية. لقد أصبح الانخراط مع الماضي متداخلًا في شبكة من العلاقات المجتمعية القريبة، التي يصعب فهمها من منظور شخص لا ينتمي إليها ومعتاد على تصنيفات مسبقة مختلفة لما هو مسلم به.

في كل الأحوال، فإن الصمت حول الماضي كان هو السائد. كانت الأشياء “من الماضي” معروفة أو مشتبهًا بوجودها لكن لم يكن يتم التحدث عنها بصوت عالٍ. كان يتم استكشاف الشخص الآخر بشكل ضمني فقط. أما وصول محاكم الغاتشاتشا فقد غير هذا الوضع بشكل كبير. لم تأت المحاكم كمحفزات لعملية طبيعية، رغم صعوبتها، للمساكنة التي كانت قد بدأت أصلًا. أتت لتغييرها من حيث المحتوى؛ فكما ذكرنا أعلاه، كان التحدث، أو الكشف عن الحقيقة أو سماعها يشكل حجر الزاوية في نظام هذه المحاكم. لقد أصبحت (طبيعة) المشاركة في جلسات الغاتشاتشا هي النشاط الذي يهدف إلى استكشاف ›طبيعة‹ قلب الآخر. منذ تأسيسها، بات يتوجب قول الحقيقة بطريقة تقرها الدولة. كان التصور العام من قبل الشعب الرواندي هو أن جلسات الغاتشاتشا لم تكشف الحقيقة عن الماضي، ولذلك فإن حقيقة قلب ›الآخر‹ هي أحد الوجوه الأكثر إشكالية لنظام محاكم الغاتشاتشا. إنها تنطوي ليس فقط على أن المعرفة بالوقائع لا تزال غائبة، بل إن إعادة الروح الانسانية للذات والآخر وإعادة تكوينهما ككائنات اجتماعية، وهو البعد العلاجي لقول الحقيقة، لم يتحقق. ما سهلت الغاتشاتشا حدوثه بالنسبة للبعض أقلقته أو دمرته بالنسبة لآخرين.

3. التقييم: نقاط القوة والضعف

تتسم معظم خصائص الغاتشاتشا بجوانب قوة وضعف، إما لأن هناك بعدين لنفس الخاصية أو لأنه ينظر إليها من زاوية مختلفة. فيما يلي لمحة عامة عن أهم خصائصها. نقدم هذه الخصائص بالتدرج من أقواها (النقاط 1 – 3) إلى الضعف المطلق (النقاط 5 – 7). أما النقطة 4 فهي في مركز هذا الطيف، وتجسد من نقاط القوة بقدر ما تجسد من نقاط الضعف.

1. يفضل الروانديون العاديون محاكم الغاتشاتشا على المحاكم الوطنية والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواند اللتعامل مع جرائم الإبادة الجماعية. بالنسبة للفلاح العادي، فإن المحاكم الكلاسيكية هي مؤسسات بعيدة مكانيًا ونفسيًا. رغم أن أفكارهم عن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا متأثرة جزئيًا بالتقارير الإعلامية وحملات التوعية والتحسيس، فإنهم بصدق يفضلون العدالة القريبة رغم مشاكلها.

2. لقد لعبت النساء دورًا مهمًا في مجريات الغاتشاتشا. وهذا ينسجم مع التطورات في مجالات أخرى من المجتمع الرواندي. الغاتشاتشا القديمة، كالمجتمع برمته، كان يهيمن عليها الرجال. وحيث إن الإبادة الجماعية كانت بشكل أساسي أمرًا ذكوريًا، فإن النساء أصبحن يلعبن دورًا مهمًا في جهود إعادة البناء. رغم ذلك، فإن الغاتشاتشا تبقى منحازة ضد النساء بسبب عدم ملاءمتها للتعامل مع الجرائم الجنسية. لقد تم وضع بنود تسمح للنساء بتقديم الإفادات عن الجرائم الجنسية، على سبيل المثال، من خلال الجلسات المغلقة. إلا أن وجود الغاتشاتشا في المجتمعات المحلية القريبة يجعل من الصعوبة بمكان معالجة هذه الجرائم.

3. مجريات الغاتشاتشا تسرع العدد الكبير من القضايا المتعلقة بالإبادة الجماعية. لقد كسرت محاكمات الغاتشاتشا كل الأرقام القياسية من الناحية الكمية. إنها لن تقتصر على التعامل فعليًا مع حوالي 130.000 شخص سجنوا بعد الإبادة الجماعية، بل تعالج الآلاف غيرهم ممن اتهموا بشكل غير متوقع عندما بدأت محاكم الغاتشاتشا بالعمل على المرتفعات في الأرياف. سيكون هناك عدالة جماعية للأعمال الوحشية الجماعية، من حيث الكم، لكن لن يكون هناك نفس القدر من اليقين حول أدائها من الناحية النوعية.

4. نظام محاكم الغاتشاتشا متناقض. التناقض سمة متأصلة في نظام محاكم الغاتشاتشا وعملية المصالحة في رواندا. لقد تبنى النظام السياسي بعد الإبادة الجماعية خطاب المصالحة بمرور الوقت، لكنه لا يريد أن يمنحه فرصة للنجاح. إنه يعيق نفس الشيء الذي ييسره في الوقت نفسه. لقد تم تصور وتنفيذ نظام محاكم الغاتشاتشا باسم الوحدة والمصالحة، لكن الهندسة القانونية والاجتماعية داخل مؤسسة قديمة والخصائص السلوكية وممارسة الحكم لنظام ما بعد الإبادة الجماعية، تشكل أكبر العقبات أمام شكل حقيقي من المصالحة. تشمل المجالات التي تتضح فيها هذه التناقضات ما يلي:

(أ) توليف وتعديل أو إدارة كوارث؟ لقد أظهرت الحكومة الرواندية انفتاحها على إجراء تعديلات على العملية بمرور الوقت. لقد أحدثت عدة تغييرات جعلت النظام أكثر فعالية وكفاءة. وقد عدلت التغييرات التدريجية النظام من خلال إدخال مكونات تعويضية أكثر، مثل تخفيض الحكم بعد تقديم اعتراف صادق والدور البارز للخدمة الاجتماعية. لكن بشكل عام، فإن التعديلات حدثت ببطء وهي ثانوية نسبيًا، كما يتبين من الجدول 1 الذي يقارن قوانين عام 2004 بقوانين عام 2007 . وما يبدو أنه عملية توليف وتعديل من زاوية، يبدو عملية إدارة كارثة من زاوية أخرى.

(ب) إن نظام المحاكم هو كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. لقد حولت التغييرات والتعديلات محاكم الغاتشاتشا إلى مؤسسة هجينة تحتوي عناصر من آلية تسوية الصراعات غير الرسمية الأصلية، لكنها أدمجت الآن بشكل كامل في النظام القضائي الرسمي. وهذا يجعل نظام المحاكم مبتكرًا، مع تقاليد وأهداف مختلفة ربما تعزز بعضها بعضًا، لكنه يجعلها أيضًا هشة عندما تكون المصادر المتنوعة للإلهام والنتائج المتوخاة غير قابلة للتصالح مع بعضها بعضًا ويمكن أن تلغي بعضها بعضًا. تشكل محاكم الغاتشاتشا نظام عدالة مركزي ولامركزي في الوقت نفسه؛ حيث إنها تجسد تأسيس وإكمال عملية على المستوى المحلي، في حين يتم التحكم بها وتوجيهها من الأعلى. كما أنها طريقة رسمية وغير رسمية لتحقيق العدالة. كما أن المحاكم مزيج من العدالة الجزائية والتصالحية، مع وجود “اعترافات واتهامات واعترافات مقابل تخفيض الأحكام ومحاكمات، وصفح وعقاب وخدمة مجتمع وسجن”. لكن كما ذكرنا آنفًا، فإنها في جوهرها تركز على العدالة الجزائية. كما يزعم بأنها محلية وتستلهم العدالة العرفية، لكنها تحدث طبقًا لمعايير حقوق الإنسان الدولية. استنادًا إلى مراقبة العمل الفعلي للمحاكم، نستنتج أن محاكم الغاتشاتشا شكل جديد، من جهة، وتقلد الآلية التقليدية لتسوية النزاعات لكنها ذات إمكانية أضعف من حيث المصالحة، بينما تقلد من ناحية أخرى النظام القانوني الحديث، مع ضمانات أقل باتباع الإجراءات الصحيحة.

(ج) فلاحون أو تقنيون قضائيون: هل يستطيع التابع أن يتحدث ؟في رواندا، يجري إحقاق العدالة الحقيقية خارج أجهزة الدولة وخارج أنشطة الغاتشاتشا، انسجامًا مع ما نصفه في القسم 5.2 . إن تقييمًا وفهمًا كاملًا للممارسات الاجتماعية للسكان المعنيين أمر ضروري للتحقق مما إذا كان تعديل أو تنفيذ آلية العدالة والمصالحة التقليدية سيكون مثمرًا. قد تكمن نقاط قوة آليات العدالة التقليدية في حقيقة أنها تعمل انسجامًا مع البيئة الاجتماعية – الثقافية للسكان في أنشطتهم اليومية. قد لا يبدو هذا طريقة فعالة للتعامل مع الماضي من منظور نصوص حقوق الإنسان، لكنها الطريقة التي يتعامل بها السكان المحليون، جزئيًا بحكم الضرورة، وجزئيًا بحكم الاختيار. المفارقة، هي أن أنشطة الغاتشاتشا تتم إلى حد ما بشكل يتناقض مع الممارسات التي تم تطويرها أصلًا بمرور الزمن للتعامل مع الماضي. إنها لا تنسجم مع براغماتية أسلوب حياة الفلاحين ولم يتم تعديلها لتتناسب مع الواقعية السياسية للعالم الجزئي. وهذا يؤكد مكانتها بوصفها ›تقليدًا مخترعًا‹ وعلى أنها تشكل انفصالًا مع الماضي. علاوة على ذلك، هناك نقص حاد في الفهم التاريخي والثقافي للغاتشاتشا القديمة، كما أن مفهوم وتنفيذ عمليات الغاتشاتشا الحديثة، لا يأخذ في الاعتبار الأبعاد والتبعات الاجتماعية-السياسية للعملية. “إننا نطبق القانون وحسب”. هذا هو الرد المهيمن للنظام بشكل عام وللمحامين، ولأغلبية المنظمات غير الحكومية التي تنفذ وتساعد في تنفيذ عملية الغاتشاتشا. يمكن لمقاربة قانونية ضيقة أن تشكل ضمانة للتفاعلات مع المسؤولين الحكوميين لبيئة اجتماعية-سياسية مغلقة بإحكام وتتم مراقبتها بشكل وثيق، لكنها تنطوي أيضًا على عمى جزئي ومفروض ذاتيًا عن عدد من العناصر المكونة لها. إن آلية مستوحاة من التقاليد بحاجة إلى مقاربة حساسة ثقافيًا.

(د) إنها لا مركزية بشكل مفرط، وهي بنفس الوقت ليست مركزية بما يكفي. كما ذكر أعلاه، فإن الروانديين العاديين يفضلون العدالة القريبة على المحاكم الوطنية أو الدولية أو غيرها من الهيئات القضائية.

إن حقيقة أن محاكم الغاتشاتشا تعمل في البيئة الحية الطبيعية لأولئك المعنيين تحقق هذه الرغبة. إلا أن الغاتشاتشا وعملية المصالحة في رواندا بشكل عام مدفوعة بقوة من الدولة، وتملكها الدولة، وهي عملية تسير من القمة إلى القاعدة حيث يلتزم الناس بالمبادئ والآليات والخطاب المصمم لهم. ولتقديم بعض الأمثلة: أصبح مسؤولو الدولة ضالعون في الإجراءات القضائية والتفوا على ›مُلكية‹ السكان لها عندما بدأوا بفلترة المشتبه بهم ›الحقيقيين‹ من الفئة الأولى من أجل تقليص عدد المهتمين في تلك الفئة. لا يمكن قول جزء من الحقيقة، كما سنرى مرة أخرى أدناه: الدولة تسيطر على ما يمكن بثه، وتخلق نوعًا من الرقابة الذاتية لدى السكان. وفي الوقت نفسه، فإن محاكم الغاتشاتشا، بصلاحياتها الجزائية القاسية، لامركزية بشكل مفرط. إنها تعمل في عناقيد اجتماعية من المجتمعات المحلية التي تتميز جميعها بتركيبة ديموغرافية معينة، وهيكليات سلطة وصراعات قائمة. وهذا ما يوفر الإمكانية للناس لتشكيل تحالفات أو لظهور الحاجة لاتباع إستراتيجية معينة في ممارسة “الاتهام” أو “التآمر بالصمت”، فيما لا يعكس بالضرورة الإجراءات التي تم تصورها في البداية. وهذا يرتبط أولًا وقبل كل شيء بقدرات الأفراد. إن قوة السلطة، أو المال أو البندقية تسمح للبعض بالتأثير في المجريات. لكن ذلك يحدث أيضًا نتيجة قوة الأعداد، والتركيبة (العرقية) للجماعة. عندما يكون عدد الناجين قليلًا ويكونون معزولين، فإنهم ينزعون إلى الصمت كي لا يتم إلغاؤهم (جسديًا أو اجتماعيًا) من المجتمع المحلي أو تجاهل إفاداتهم جزئيًا. عندما يكون عدد الناجين كبيرًا، ويكونون جزءًا من بنية السلطة (الإدارية) ويمثلون في محاكم الغاتشاتشا، يكون لديهم نفوذ أكبر، وهو وضع يمكن أن يخلق شعورًا بانعدام الحيلة والاعتباطية لدى السجناء المحررين والمتهمين.

(هـ) الانتقام، أو الجزاء أو المصالحة ؟لاحظنا أن التجمع الطقسي في سياق جلسات الغاتشاتشا الأسبوعية يغير العلاقات المتوترة، خصوصًا بين السجناء الذين يطلق سراحهم والناجين. لقد تمت ملاحظة أهمية الطقوس بشكل عام، سواء كانت في سياق الآليات التقليدية لتسوية الصراع في أعقاب الصراعات العنيفة، خصوصًا في سياق أفريقي. لكن علينا أن نميز بين الطقس بالمعنى الدقيق للكلمة والبعد الطقسي لعملية ما من أجل تحقيق فهم كامل لأثر جلسات الغاتشاتشا. لم تكن الغاتشاتشا التقليدية طقسًا، ولا هي كذلك في نسختها الحديثة. إنها عمل متكرر للتجمع في جلسات الغاتشاتشا، بصرف النظر عما يتم فعله هناك من حيث المحتوى. يبدو أن لذلك، بحد ذاته، أثرًا تغييريًا على العلاقات الاجتماعية بين أولئك الذين تتم مواجهتهم في تلك الاجتماعات. إلا أن محتوى المواجهات تتم معالجته طبقًا لمنطق يستند إلى الملاحقة القضائية، وهو ما يحد من النواحي الخطابية المرتبطة عادة بالأفعال الطقسية أو البعد الحواري أو العلاجي لعمليات البوح بالحقيقة. إن الأنشطة المستمرة للغاتشاتشا تظهر فقط إمكانية محدودة للتطور لبناء الثقة بين المجموعات العرقية، والتعاطف مع مواقف الآخرين والخسائر التي تمت في الصراع، وثقافة المداولات الديمقراطية من خلال الحوار. وهذا ينتج عن حقيقة أن محاكم الغاتشاتشا تعمل طبقًا لمنطق المحاكمات الجنائية وليس كهيئات حقيقة ومصالحة صغيرة. وبتلك الطريقة، فإن عملية الغاتشاتشا تديم الانقسامات التي يفترض أن تلغيها.

(و) العوامل السياقية تعيق وتيسر مجريات الغاتشاتشا. لا تحدث محاكمات الغاتشاتشا بمعزل عن محيطها. إن الفقر المدفع جعل الناس يلجؤون إلى تكتيكات وإستراتيجيات مشبوهة في مجريات الغاتشاتشا. يفتقر الناجون إلى سياسة تعويض مناسبة. وتفقد أسر المرتكبين المحكوم عليهم أهم مصدر للدخل لديها عندما يؤخذ رب الأسرة ليقضي حكمه. علاوة على ذلك، فإن حكم القانون لم يتجذر بعد في رواندا. إن عمليات القتل التي تتم خارج القانون وعلى هامش أنشطة الغاتشاتشا تعيق بشكل خطير تحقيق الأهداف المعلنة. إنها تزرع الخوف لدى السكان. علاوة على ذلك، فإن رواندا ليست بلدًا ديمقراطيًا (بعد). ولا يتم تحقيق حرية الاختيار والتعبير عن الرأي بسهولة. يتم توجيه الناس في خياراتهم خلال

الانتخابات، وينظر إلى هيكليات الإدارة المحلية على أنها تحقق توازنًا بين المناصب المعينة والمنتخبة.تشكل السلطات التي تشغل المناصب المعينة على المستوى المحلي حكومة ظل للسلطات الإدارية “المنتخبة”. المساءلة تحدث باتجاه الأعلى، إلى السلطات العليا، وليس باتجاه الأسفل إلى السكان. جميع الشخصيات الرئيسية في الإدارة (المحلية) هم أفراد في الجبهة الوطنية الرواندية، فمعظمهم ينتمون إلى الأقلية العرقية. هذا الاغتصاب للسلطة من قبل مجموعة عرقية واحدة يلاحظ في أوساط السكان الباهوتو. رغم أنهم يجدون ذلك نتيجة طبيعية إلى حد ما للانقلاب العسكري، فإن الاستياء يطغى أيضًا ويصل إلى أنشطة الغاتشاتشا. رغم أن السلطات المحلية ليست نشطة بشكل مكشوف في عملية الغاتشاتشا، فإنها تشكل الإطار الذي تعمل داخله الغاتشاتشا. في تصورات الهوتو، فإن هذا يعني في كثير من الأحيان أن التركيبة المكونة من الغاتشاتشا، مع إشارتها إلى الماضي ما قبل الاستعماري، من جهة، وهيكلية سلطة تشغّلها الحركة السياسية – العسكرية التي يهيمن عليها أفراد أقلية التوتسي، ينظر إليها على أنها عودة إلى الفترة الإقطاعية عندما كان الخدم الهوتو في مرتبة أدنى من الإقطاعيين التوتسي في جميع مجالات الحياة. الحكومة هي التي أسست وتدعم عملية الغاتشاتشا. وكهدف معلن، فإن محاكم الغاتشاتشا ينبغي أن تصل إلى الحقيقة، والمصالحة والمساءلة. كما أن نظام المحكمة بحاجة لإلغاء ثقافة الإفلات من العقاب. من هذا المنظور، فإن محاكم الغاتشاتشا تشكل مبادرة شرعية في السياسات تستحق الثناء بحد ذاتها. لكن ممارسة الحكم في مجالات أخرى من السياسات، والبنية المؤسساتية وطبيعة السلطة تقوض عمل وشرعية نظام المحاكم.

5. عدالة تشاركية غير شعبية .تستمد محاكم الغاتشاتشا شرعيتها من المشاركة الشعبية، إلاّ أن الناس ليسوا راغبين كثيرًا بالمشاركة. بعد الاهتمام الأولي، بدأ الإرهاق يصيبهم. باتت الغرامات والممارسات القسرية تحل محل المشاركة الطوعية. وهذا لا يحدث فقط لأن العملية تستغرق وقتًا طويلًا، بل أيضًا لأن معظم الباهوتو باتوا يرون في المحاكم الآن شكلًا من أشكال عدالة المنتصر لا يستطيعون التعبير عن مطالبهم من خلالها.

6. لا حقيقة في عملية الغاتشاتشا .ثمة رأي طاغٍ يصاحب عملية الغاتشاتشا مفاده أن الحقيقة غائبة. ولهذا تبعات خطيرة على النظام في جوهره ويعيق تحقيق أهدافه الكلية. إن ظهور الحقيقة يشكل حجر زاوية لكل هيكلية العدالة الانتقالية في رواندا ما بعد الإبادة الجماعية، كما ذكرنا أعلاه. أما أسباب عدم وجود الحقيقة فهي متعددة ومعقدة “الحقيقة”، في المقام الأول، يجري تقليصها حكمًا من خلال تعريف معايير ما يمكن “للحقيقة” أن تكونه، منهجيًا وأيديولوجيًا، ولكن أيضًا من خلال خصائص الثقافة الرواندية. ›العدالة‹ هي في معظم الأحيان ›جنائية‹ لأنها مستمدة من عملية جنائية. وتتفاوت طبقًا للمكان، نظرًا لأنها تظهر من خلال ديناميكية التجمعات المحلية بشكل يقوض ويفسر الإجراءات الهادفة لإظهار الحقيقة بشكل يتناقض مع الأهداف الأساسية. كما أن ›الحقيقة‹ تتسم بدرجة عالية من الأداتية، حيث يتم السعي للحصول عليها من خلال المواجهة على أساس )عرقي في الغالب(، وليس من خلال المداولات أو الحوار. إنها تنطوي على درجة من الاعتباطية الناجمة عن مبدأ “الاعتراف والإدانة دون تحقق”. ونتيجة لذلك فإن “الحقيقة” تكون “جزئية” بمعنى أنها “غير كاملة” و”مشوهة”، وأيضًا “أحادية” و”ذات بعد واحد”، وتفتقر إلى قاعدة سياقية واسعة.

7. المصالحة في خطر والثقافة التحتية للهوتو قيد التشكل ؟محاكم الغاتشاتشا غير قادرة على التعامل مع جرائم الجبهة الوطنية الرواندية وعمليات القتل الانتقامي التي ارتكبها المدنيون التوتسي. لا يمكن مساواة الإبادة الجماعية ضد أقلية التوتسي بجرائم الحرب الأهلية ضد السكان الهوتو. الأول كان عنفًا بغرض الإبادة، أما الثاني فكان عنفًا بغرض الانتقام والإخضاع والسيطرة. رغم ذلك، فإن حقيقة أنه يتم التعامل مع الحالة الأولى بينما يتم إخفاء الحالة الثانية عن الأنظار، يؤسس لتراتبية أخلاقية للصحيح والخطأ والألم والمعاناة. إن التنافر بين التجارب والتفاهمات المجسدة شعبيًا للصراع من جهة وطريقة التعامل مع الماضي التي تسيطر عليها الحكومة وتنتجها، على المستويات العملية والتفسيرية، تشكل واحدة من العقبات الرئيسية أمام شرعنة النظام الاجتماعي – السياسي الراهن. إنها تولد قدرًا كبيرًا من المظالم التي لا يتم التعبير عنها تحت سطح الحياة اليومية والأنشطة الحثيثة للغاتشاتشا، لتتخمر وتتفاعل في “النص الخفي”. هذه آراء وتجارب لا يتم نسيانها بل ببساطة لا يتم التعبير عنها ›لأنه لا يمكن التعبير عنها‹ من خلال بنية العدالة الانتقالية التي تم تأسيسها. يمكن أن ينظر إلى الشائعات، على سبيل المثال وفكرة أن هناك آلة تصاحب محاكم الغاتشاتشا لتدمير جميع الباهوتو، أو فكرة الإبادة الجماعية المزدوجة، على أنها مجرد نافذة وجودية تطل على الخيال الشعبي الاجتماعي. لا تشكل ادعاءات الباهوتو بأنهم عانوا في الماضي أساسًا لأي دفاع قانوني، وهي غير قانونية بالتأكيد عندما تكون جزءًا من أيديولوجيا الإبادة الجماعية، لكنها تعكس تصورات حقيقة. يكشف تقرير حول ›أيديولوجيا الإبادة الجماعية‹ التعريف الواسع بشكل مفرط وغير الواضح لماهية أيديولوجيا الإبادة الجماعية. يسمح النطاق الواسع للتعريف بالاستخدام المتحمس، وغير المكبوت والاعتباطي للقوة للقضاء ليس فقط على نزعات الإبادة الجماعية بل على أقل علامة من علامات عدم الالتزام. وكنبوءة تحقق نفسها، فإنها تخلق وتديم، بل تعزز نفس الشيء الذي يفترض أن تلغيه، أي الثقافة التحتية للهوتو. ينبغي لكسر دائرة العنف، وهو أحد أهداف عملية الغاتشاتشا، أن يستند إلى تفاهم مشترك حول أصول المجتمع الرواندي مع إدماج القطبية الثنائية المعقدة للهوتو والتوتسي والتي تشكلت حول الصراع على السلطة بمرور الزمن، بينما يتم الاعتراف أولًا بوصول ذلك الصراع إلى أوجه في تسعينيات القرن العشرين سواء في الإبادة الجماعية أو الحرب أو الحروب الأهلية.

4. الخلاصة

منذ البداية، انتشرت فكرة استخدام محاكم الغاتشاتشا للتعامل مع الجرائم المرتبطة بالإبادة الجماعية لعام 1994 في رواندا على نطاق واسع في سائر أنحاء العالم. إن وجودها معروف جيدًا، لكن المعرفة بطبيعتها، والأكثر أهمية، بعملها الفعلي بدأ بالتكشف فقط بعد أن تم تنفيذها في سائر أنحاء البلاد عام 2005. لقد أوضحت المقارنة بين الغاتشاتشا “القديمة” و”الجديدة” بوضوح أن محاكم الغاتشاتشا لا تشكل عدالة تقليدية بالمعنى الكامل ولا آلية للمصالحة. إنها ليست نتيجة لتطور تدريجي بل بدعة لمحاكاة الممارسة القديمة لتسوية النزاعات والعدالة الكلاسيكية على حد سواء. علاوة على ذلك، فإن التبصر المعمق في الإدارة الجزئية للعدالة في المجتمعات المحلية، ونظرة عامة إلى نتائجها من حيث أعداد الناس المتهمين والذين تجري محاكمتهم على المستوى الكلي وتشريح طبيعة العملية المجتمعية التي أطلقتها (أو بالأحرى عززتها)، تحد من الحماسة الأولية. لا تشكل محاكم الغاتشاتشا نجاحًا كليًا. لقد رأينا على المستوى الكلي أن النظام يتمتع بنقاط قوة لكن العملية برمتها تطغى عليها نقاط ضعفها. على المستوى الفردي، أتت محاكم الغاتشاتشا لتيسر بالنسبة للبعض ما دمرته أو خربته بالنسبة لآخرين، سواء على مستوى قول الحقيقة، أو الحصول على تعويض، أو المساءلة أو تحقيق المصالحة.

هل كان يمكن توقع نقاط الضعف هذه على نحو أفضل وهل كان بالإمكان/ ولا يزال من الممكن معالجتها بشكل مناسب؟ ما هي الاحتمالات بالنسبة للمستقبل، وما هي الدروس التحذيرية التي تم استخلاصها؟ الجواب ليس بسيطًا ولا مباشرًا. يمكن لعملية اختصار نقاط القوة والضعف أعلاه أن تعطي إشارات حول ما ينبغي ولا ينبغي فعله.

إن حقيقة أن محاكم الغاتشاتشا تعاني من حملة واسعة جدًا من الهندسة الاجتماعية والقانونية أمر مهم. الأكثر من ذلك، هو أن المهمة التي تثقل كاهل المؤسسة طموحة للغاية. ينبغي التخفيف من حماسة الطموح والحد من التدخل، بعد أن تؤخذ بالاعتبار الطريقة الرواندية في تحقيق العدالة. من المهم أن الآلية بنيت على أساس ممارسات موجودة ومملوكة محليًا وتم استلهامها اجتماعيًا وثقافيًا “للتعامل مع الماضي”، سواء في مجال بلسمة الجراح، أو المساءلة، أو قول الحقيقة أو التعايش/المصالحة، وهذا يتحقق على نطاق محدود في حالة الغاتشاتشا. إن جوهرها جزائي، في حين أن جوهر المؤسسة القديمة كان تعويضيًا. تشير المراقبة إلى أن الناحية التصالحية، على سبيل المثال تعويضات على مستوى محاكم الخلية، تعمل بشكل أفضل من العدالة الكلاسيكية التي تحدث بين النظراء في محاكم الغاتشاتشا على مستوى القطاع. تبقى خدمة المجتمع بديلًا مهمًا وعقوبة تعويضية تظهر للناس نتيجة محاكمات الغاتشاتشا.

إضافة إلى ذلك، فإن الفهم الكامل لديناميكيات وتجليات العنف الحاصل على الهامش، والإبادة الجماعية (أو الحرب) على الهضاب، كان يمكن أن يؤدي إلى تصميم النظام بطريقة تميز بشكل أفضل بين الذين يشغلون مناصب عليا في سلسلة القيادة (حتى على المستوى المحلي) والأفراد العاديين. ينبغي للتغييرات في النظام أن تحدث بأثر رجعي. كما ذكر أعلاه، يمكن أن ينظر إلى كل هذا إما كعملية توليف وتعديل أو كعملية إدارة كوارث. إنها في كل الأحوال عملية تهدف إلى جعل النظام ينسجم مع ما هو موجود أصلًا بين السكان وما يمكن تحقيقه في المستقبل.

إن العيش معًا مرة أخرى هي ممارسةٌ يتم تشكيلها محليًا. يمكن للدولة وسياساتها أن تسهل أو تعيق هذه الممارسات. في رواندا، يحدث التيسير والإعاقة في الوقت نفسه، من جهة من خلال الطبيعة المتناقضة لتصميم محاكم الغاتشاتشا، ومن جهة أخرى من خلال سياسات وممارسات الحكم المحيطة بنظام المحاكم. يبدو من المهم عدم تعزيز الانقسامات التي يفترض بأن هذا النظام مصمم للقضاء عليها ووضع سياسات دعم شاملة لا تؤدي إلى نشوء ديناميكيات “نحن ضد هم” بين السكان، وتعزيز الهويات التي يعتزم المرء إعادة تشكيلها (ما لم يكن ما يقوله المرء يختلف عما يريده، بالطبع). سيكون من الصعب تعديل عملية الغاتشاتشا أكثر من هذه الناحية. ليس هناك وقت كاف، والعملية جارية أصلًا. إلا أن المستقبل يسمح بعملية تطوير شاملة للجميع في أحد أفقر بلدان العالم. ستكون الشمولية هي العامل الأهم في سياسات العدالة الانتقالية التالية ربما، على سبيل المثال، من خلال تأسيس صندوق للتعويضات. لقد أظهرت تجربة الغاتشاتشا العناصر التي هي على المحك والسبل التي (لا) ينبغي اتباعها.

المراجع وقراءات إضافية

des Forges, Alison, Leave None to Tell the Story: Genocide in Rwanda (New York: Human Rights Watch, 1999)

Ingelaere, Bert, ‘Changing Lenses and Contextualizing the Rwandan (Post) Genocide’, in F. Reyntjens and S. Marysse (eds), L’Afrique des Grands Lacs: Dix Ans de Transitions Conflictuelles. Annuaire 2005–2006 [Africa of the Great Lakes: ten years of conflictual transitions. Yearbook, 2005–2006] (Paris: L’Harmattan, 2006), pp. 389–414

‘Does the Truth Pass Across the Fire? Transitional Justice and its Discontents in Rwanda’s Gacaca Courts’, Discussion Paper, Institute of Development Policy and Management, Antwerp, 2007

de Lame, Danielle, A Hill Among a Thousand: Transformations and Ruptures in Rural Rwanda (Madison, Wis.: University of Wisconsin Press, 2005)

Mamdani, Mahmood, When Victims Become Killers: Colonialism, Nativism, and the Genocide in Rwanda (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 2001)

Musoni, Protais, ‘Building a Democratic Culture: Rwanda’s Experience and Perspectives’, Paper presented at the conference on Elections and Accountability in Africa, Wilton Park, Sussex, UK, 21–25 July 2003

Ntampaka, Charles, ‘Le Gacaca: Une Juridiction Pénale Populaire’ [The Gacaca: a penal jurisdiction of the people], in Charles de Lespinay and Emile Mworoha (eds), Construire L’Etat de Droit: Le Burundi et la Région des Grands Lacs [Building a state of law: Burundi and the Great Lakes region] (Paris: L’Harmattan, 2003), pp. 219–36

Oomen, Barbara, ‘Donor Driven Justice and its Discontents: The Case of Rwanda’, Development and Change, vol. 36, no. 5 (2005), pp. 887–910

Pottier, Johan, Re-Imagining Rwanda: Conflict, Survival and Disinformation in the Late Twentieth Century (Cambridge: Cambridge University Press, 2002)

Prunier, Gerard, The Rwandan Crisis: History of a Genocide (New York: Columbia University Press, 1995)

Reyntjens, Filip, ‘Le Gacaca ou la Justice du Gazon au Rwanda’ [Gacaca, or justice on the grass in Rwanda], Politique Africaine, no. 40 (1990)

Rwanda, Report on the Reflection Meetings Held in the Office of the President of the Republic from May 1998 to March 1999 (Kigali: Office of the President of the Republic, 1999)

Rwanda, Genocide and Strategies for its Eradication (Kigali, 2006) (2006a)

Rwanda, Report on Collecting Data in Gacaca Courts (Kigali: National Service of the Gacaca Courts, 2006) (2006b)

United Nations High Commissioner for Human Rights (UNHCHR), Gacaca: Le Droit Coutumier au Rwanda [Gacaca: customary justice in Rwanda] (Rwanda: UNHCHR, 1996)

Uvin, Peter, Aiding Violence: The Development Enterprise in Rwanda (Bloomfield, Ct: Kumarian Press Inc., 1998)

— ‘Reading the Rwandan Genocide’, International Studies Review vol. 3, no. 3 (2001) Waldorf, Lars, ‘Mass Justice for Mass Atrocity: Rethinking Local Justice as Transitional Justice’, Temple Law Review, vol. 79, no. 1 (2006)

مواقع إلكترونية

Avocats Sans Frontières,

<http://www.asf.be/index.php?module=publicaties&lang=en&id=177>

Institute of Research and Dialogue for Peace (IRDP), <http://www.irdp.rw>

National Service of the Gacaca Courts, <http://www.inkiko-gacaca.gov.rw>

National Unity and Reconciliation Commission, <http://www.nurc.gov.rw>

Penal Reform International, <http://www.penalreform.org/transitional.html>__

الفصل الثالث

العدالة التصالحية ودور أرواح الماغامبا في غورونغوزا، وسط موزمبيق، في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية

فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا

1 – مقدمة:

يتناول هذا الفصل إستراتيجيات العدالة التصالحية على مستوى المجتمع المحلي، والتي تطورت في أعقاب الحرب الأهلية في موزمبيق، 1976 – 1992. أنهت اتفاقية السلام العامة، التي وقعت في روما، إيطاليا، في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1992 بين حكومة موزمبيق، ممثلة بجبهة تحرير موزمبيق وحركة المتمردين السابقة، المقاومة الوطنية الموزمبيقية، حوالي عقدين من حرب أهلية دموية جدًا. مفاوضات السلام التي جرت بين عامي 1990 و1992 سبقتها وصاحبتها مجموعة شاملة من التغييرات السياسية على النظام الماركسي – اللينيني ما بعد الاستعماري، واستبدلت ذلك النظام بالدستور التعددي لعام 1990 والذي أسس نظامًا ديمقراطيًا متعدد الأحزاب واقتصاد السوق المفتوح. كانت هذه التغييرات السياسية والاقتصادية، المصاحبة للمفاوضات من أجل السلام، عوامل حاسمة في إنهاء الحرب الأهلية.

رغم أن اتفاقية السلام جلبت ارتياحًا هائلًا للضحايا، فمن منظور العدالة الانتقالية، لم تطور سلطات موزمبيق أي سياسة محددة للتعامل مع الانتهاكات والجرائم التي تم ارتكابها خلال الحرب الأهلية. بعد أن كان تم استغلالهم وإساءة معاملتهم، باتت السلطات تحث الضحايا على الصفح ونسيان الماضي المؤلم، بوصف ذلك جزءًا من عملية بناء السلام والمصالحة الوطنية.

في هذا السياق من انتهاكات وجرائم الحرب، وما أعقبها من ممارسات ما بعد الحرب من عملية إنكار وتخلٍ، لم يفقد الضحايا والناجون في مقاطعة غورونغوزا وسط موزمبيق الأمل. من خلال استخدامهم للموارد الأصلية المتاحة والمتوافرة، تمكن الناجون من الحرب من الشروع في المهمة الجسيمة المتمثلة في استعادة حياتهم الفردية والجماعية. نركز هنا على الممارسات الاجتماعية – الثقافية التي تتخذ شكل العدالة التصالحية والمصالحة في أعقاب الحرب الأهلية. هذا هو الحال مع روح الغامبا (ماغامبا في حالة الجمع).

الماغامبا، بشكل عام، هي أرواح الجنود القتلى التي تعود إلى عالم الأحياء للقتال من أجل العدالة. إن الماغامبا، في معانيها وتجلياتها المختلفة، تسهم في بلسمة جراح الحرب وتلعب دورًا محوريًا في تحقيق العدالة التصالحية للناجين من الحرب.

2. سياق الصراعات في موزمبيق في الحقبة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية

تعرض شعب موزمبيق لاضطرابات اجتماعية وسياسية لعقود عديدة. رغم أن البرتغاليين كانوا موجودين في موزمبيق منذ حوالي خمسة قرون، فإن الاستعمار الفعلي بدأ حوالي ثلاثينيات القرن العشرين. اتخذ العنف الاستعماري شكل العمل القسري. كما كان رفض منح حقوق اجتماعية – سياسية، واقتصادية وثقافية للسكان الأصليين جزءًا من النظام السياسي الاستعماري. من جهة أخرى، مُنح البرتغاليون الذين استوطنوا في البلاد حقوق المواطنة الكاملة. في مطلع ستينيات القرن العشرين، أطلقت جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو بالبرتغالية) صراعًا مسلحًا من أجل الاستقلال في شمال البلاد. شكل ذلك بداية الحرب والصراع الدموي الذي استمر لحوالي ثلاثة عقود.

استمرت الحرب ضد الاستعمار 10 سنوات طوال (1964 – 1974). كانت المناطق الريفية ميادين المعارك الرئيسية، وكان سكانها الأكثر عرضة وتأثرًا بها. أدت اتفاقية سلام لوساكا بين فريليمو والسلطات البرتغالية إلى الاستقلال في نهاية حزيران/يونيو 1975. إلاّ أن السلام لم يعمر طويلًا. في البداية، أثيرت أحداث العنف بعد الاستقلال من قبل قوى خارجية. قام نظام إيان سميث في روديسيا السابقة بغزو موزمبيق بذريعة أن جنودًا من جيش التحرير الوطني الأفريقي في موزمبيق كانوا قد وجدوا ملاذًا آمنًا هناك. نشر الجيش الروديسي الفوضى والاضطرابات في موزمبيق، وارتكب عام 1977 المجزرة المعروفة في إنهازونيا في مقاطعة بارو (إقليم مانيكا). الحرب الأهلية، التي أطلقتها المقاومة الوطنية الموزمبيقية (رينامو بالبرتغالية)، بدأت في نفس الوقت. ثمة خلافات بين أنصار فريليمو ورينامو وبين بعض الأكاديميين، حول الأصول الحقيقية لهذا الصراع الداخلي. وتطغى آراء مختلفة حول الأدوار التي لعبتها العوامل الداخلية والخارجية في هذا النقاش. سلطات فريليمو ترى في الحرب الأهلية امتدادًا لحرب العدوان الخارجي، التي قادها في البداية الروديسيون وتابعها لاحقًا نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. رينامو، من جهتها، تؤكد على المكوّن الداخلي الذي أدت إلى ظهوره دكتاتورية فريليمو في حقبة ما بعد الاستعمار وسياساتها القمعية. آخرون يفضلون الحديث عن مزيج من العوامل الداخلية والخارجية.

لم يجر هنا استعراض النقاشات حول أصول عنف ما بعد الاستعمار. الأمر المحوري بالنسبة لهذا الفصل، هو أن كلا الصراعين تسببا بتعطيل ودمار كبيرين في موزمبيق. إلا أن الناجين من كلا الحربين يتفقون على أن الحرب الأهلية كانت أسوأ بما لا يدع مجالًا للمقارنة من حيث مدى قسوتها والدمار البشري والمادي الذي أحدثته. أُحرق عدد كبير من القرى حتى تحولت إلى رماد، وتعرض العديد من المدنيين الأبرياء لانتهاكات فظيعة وعذبوا وقتلوا. كانت مناطق الحرب مقسمة بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة وتلك التي تسيطر عليها رينامو، وكان العديد من المدنيين يتنقلون بين هاتين المنطقتين بحثًا عن حد أدنى من الأمان. إلاّ أن أحداثًا مؤلمة جدًا وعمليات إخضاع للسكان جرت في تلك المنطقتين.

كانت مقاطعة غورونغوزا مركز الحرب الأهلية. بين 1981 وأواسط الثمانينيات، أنشأت قوات رينامو مقرًا لها في المنطقة ومارست السيطرة الكاملة على مناطق الحرب. وكان ذلك يعني أن أغلبية السكان كانوا على احتكاك (قسري أو غير قسري) مع قوات رينامو أكثر منهم مع الجيش بقيادة فريليمو. وبما أن الحرب الأهلية كانت تدور على أساس تكتيكات حرب العصابات، فإن الاستقطاب في مناطق الحرب كان يعني أن مقاتلي فريليمو اعتبروا الناس الذين يعيشون تحت سيطرة رينامو أعداء لهم، والعكس بالعكس. وكانت تبعات ذلك مدمرة لجميع أولئك الذين عاشوا في المنطقة. قتل العديد من المدنيين الذين عاشوا في رينامو من قبل القوات الجوية لفريليمو. من جهة أخرى فإن رينامو تسببت في قدر كبير من الألم والمعاناة من خلال سياستها المسماة ›غانديرا‹، وهو نظام عمل قسري يهدف لتوفير الدعم اللوجستي لمجهودها الحربي. كما شملت “غانديرا” استخدام النساء في العبودية الجنسية. في هذا الصدد، فإن ›غانديرا‹ كانت مهينة بعمق: كان الناس يفصلون قسرًا عن أسرهم، وكان آخرون يعذبون ويقتلون.

يبقى عدد الأشخاص الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية موضع نزاع. يتحدث بعض المراقبين عن مقتل 100.000 مدني؛ ويتحدث آخرون عن مقتل مليون مدني؛ كما أن آخرين يشيرون إلى أن “التقدير الأكثر واقعية هو أنها حوالي 50.000 ضحية فقدوا حياتهم مباشرة نتيجة الأعمال العسكرية للمتمردين على مدى فترة الحرب”. كانت رينامو والحكومة تجندان الشباب بشكل قسري للقتال في الحرب. وأجبر هؤلاء على تدمير قراهم وقتل أقاربهم. وأخضع أفراد العائلات وأجبروا على التجسس على بعضهم بعضًا، ما أدى إلى تعذيب وقتل العديد من الأقارب. استبدلت ثقافة السلام بشكل كامل بثقافة الحرب، وتلاشى رأس المال الاجتماعي الذي كان على شكل علاقات ثقة وتبادلية ودعم متبادل وتعاون وتضامن، واحترام

المحظورات بشكل حاد وخطير.

3. الانتقال من الحرب إلى السلام وثقافة الإنكار في موزمبيق

يظهر نمطان مختلفان من العملية الانتقالية وإستراتيجيتان مختلفتان للتعامل مع تركتها في التاريخ الحديث لموزمبيق. حدثت العملية الانتقالية الأولى في حزيران/يونيو 1975 عندما حصلت البلاد على استقلالها من البرتغال. ونتيجة للمفاوضات المباشرة مع الحكومة البرتغالية الانتقالية عام 1974، تمكنت فريليمو من التفاوض، من خلال اتفاقات لوساكا في 25 أيلول/سبتمبر 1974، من نقل السيادة الكاملة والسلطة إلى أيدي سلطات فريليمو. العملية الانتقالية الثانية، في تسعينيات القرن العشرين، شملت عددًا من العمليات. كانت العملية تعني تحويل النظام السياسي من الأيديولوجيا الماركسية – اللينينية إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب واقتصاد سوق حر، ومن الحرب الأهلية إلى السلام والديمقراطية. كان الانتقال من الحرب الأهلية إلى السلام، هو الذي استحوذ على اهتمام السكان المحليين والمراقبين الدوليين.

أدت حقبة ما بعد الاستعمار إلى إستراتيجيات عدالة انتقالية مختلفة.

بعد الاستقلال بثلاث سنوات، حوالي نهاية عام 1978، طرح حزب فريليمو، من خلال الخطب السياسية للرئيس حينذاك سامورا ماشيل، خطة سياسية أو إستراتيجية للتعامل مع بعض التركات المعقدة للماضي الاستعماري. (كان ماشيل أول رئيس لموزمبيق في حقبة ما بعد الاستعمار، وحكم البلاد منذ الاستقلال عام 1975 وحتى وفاته عام 1986). واستهدفت هذه الإستراتيجية مجموعة مختارة من الأفراد، أطلق عليهم اسم الكومبروماتيدوس، (المتعاملون، الذين يزعم أنهم تعاونوا بطرق مختلفة مع النظام القديم) (الإدارة الاستعمارية البرتغالية). استخدمت هذه الإستراتيجية للتعامل مع الأشخاص الذين تخاذلوا نهاية الحقبة الاستعمارية بين عام 1978 و 1982 ، وشملت مبادرات مختلفة بلغت ذروتها في الاجتماع الذي عرف باجتماع المتعاملين.

في خطاب وصوله إلى السلطة أمام اجتماع المتعاملين، قام ماشيل بشرح الحاجة لإجراء مراجعة للماضي الاستعماري البشع بقوله ›فقط بمراجعة الماضي، نستطيع أن نعرف الحاضر. وفقط بمعرفة الحاضر، نستطيع أن نح للمستقبل. هذه هي العناصر الثلاثة المحورية في المجتمع، الماضي والحاضر والمستقبل. إن صفحات الماضي مسجلة في التاريخ؛ ولا نستطيع أن نمضي بعكس اتجاهها؛ فالتاريخ هو التاريخ، وكرر هذا بعد نهاية الاجتماع: “نشعر بضرورة أن نقوم دائمًا بتعميق معرفتنا بالماضي بحيث نزيد قدرتنا على فهم وتسوية مشاكل الحاضر ونجري التحضيرات للمستقبل الذي نتطلع إليه”.

تأسست سياسة الذاكرة لحزب فريليمو على فكرة “دعونا لا ننسى الزمن الذي مضى”. تم التعبير عن هذه الإستراتيجية الشاملة مفاهيميًا بعدة طرق، من خلال “أعمال العدالة الثورية”، “إستراتيجية إعادة الاندماج”، “التحرر الذاتي من التسويات مع الفاشية الاستعمارية”، “تحرير الذات من الضمير المثقل”، “نزع الاستعمار الذهني”، “إعادة تأهيل المتعاملين” أو “المعركة الداخلية لتحرير الوعي”. رغم هذه الاختلافات المفاهيمية، فإن الملامح الرئيسية لهذه الإستراتيجية كانت تهدف إلى “تغيير المتعاملين استنادًا إلى افتراض الذنب والتكفير والعقاب وإعادة التعليم”. شملت هذه الإستراتيجية انتهاكات جسيمة لدستور موزمبيق لعام 1978. عمل الرئيس ماشيل جاهدًا خلال اجتماع المتعاملين ليظهر للجميع أن لا قانون فوقه؛ وأنه هو القانون. في إحدى المناسبات، عندما تجرأ أحد المتعاملين على تحدي ماشيل بالمطالبة بأدلة أكثر مادية وإقناعًا بأنه كان يتعامل مع الإدارة الاستعمارية لإعاقة موزمبيق عن تحقيق الاستقلال، غضب الرئيس غضبًا شديدًا. وفي تجاهل لدستور عام 1978 ، أمر باعتقاله فورًا وإرساله إلى الحقول البعيدة في إقليم نياسا. لم يجرؤ أحد من مساعدي ماشيل الذين كانوا موجودين في الاجتماع، ويراقبون ما يحدث بحذر، على تذكير الرئيس بأنه لا يمتلك حقًا قانونيًا بالأمر باعتقال شخص ما. ظل الجميع صامتين وشهدوا انتهاك ماشيل لنفس الدستور الذي ناضل بقوة للتوصل إليه في بلده. إضافة إلى ذلك، وخلال هذا الاجتماع لم يتم توضيح أهمية هذه الإستراتيجية بالنسبة لضحايا القمع الاستعماري.

ولذلك، حاولت المرحلة الانتقالية لما بعد الاستعمار في مطلع ثمانينيات القرن العشرين معالجة مشاكل الماضي الاستعماري العنيف. على النقيض من ذلك، وخلال المرحلة الانتقالية من الحرب الأهلية إلى السلام والديمقراطية في مطلع تسعينيات القرن العشرين، لم تقم أية محاولات للبحث في الماضي الدموي ولم يكن هناك أي اهتمام بمحنة الضحايا في أذهان النخب السياسية في موزمبيق والمسؤولة عن العمليات الانتقالية.

من منظور العدالة الاجتماعية، يحدث نقاش عام في موزمبيق بمبادرة، على سبيل المثال، من النخب الفكرية المحلية والصحفيين ومحامي حقوق الإنسان، حول أفضل السبل لمعالجة تركات الحرب الأهلية والدكتاتورية الماركسية – الليبرالية التي لم تعمر طويلًا. في الواقع، بعد 10 أيام من توقيع اتفاقية السلام العام في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1992 ، نشر مجلس الشعب الموزمبيقي، الذي كان حزب فريليمو يسيطر عليه بشكل كامل حينذاك، القانون رقم 15 / 92، الذي نص على العفو عن الجرائم المرتكبة بين عامي 1979 و1992. مرة أخرى، وبمناسبة نشر هذا القانون، لم يحدث أي نقاش عام حول مضامينه الأخلاقية، ولم تصدر أية تصريحات حول قدرته على التوصل إلى الحقيقة والعدالة وتصحيح أخطاء الماضي، ولم تصدر أية مطالب رسمية علنية بالاعتذار للإقرار بمعاناة الضحايا.

إن تحليلًا للخطاب الرسمي لممثلي الحزبين الخصمين (فريليمو، الحزب الموجود في الحكومة، ورينامو) عند توقيع اتفاقية السلام العامة، يظهر درجات مختلفة من الأهمية التي منحت للضحايا في خطبهما العامة. جواكيم تشيسانو، الذي كان رئيسًا للبلاد حينذاك، لم يعبر عن أي اهتمام بمعاناة الضحايا في خطبه العامة. كانت الرسالة السياسية الوحيدة التي عبر عنها، هي أن توقيع اتفاقية السلام العامة كان ذا أهمية كبيرة وانتصارًا لشعب موزمبيق. لم يقل جملة واحدة يعترف فيها بالمعاناة التي مر بها الشعب خلال الحرب الأهلية الطويلة؛ ولم يتفوه الرئيس بكلمة واحدة لإظهار التعاطف والاحترام لذكرى الضحايا.

زعيم رينامو، أفونسو دلاكاما، خصص بعض الكلمات للإقرار بمعاناة الضحايا. قال: “نستذكر في المقام الأول إخوتنا الذين قتلوا؛ أبناء موزمبيق، المقاتلين وغير المقاتلين، من هذا الطرف أو ذاك، الذين سقطوا في هذه الحرب بين الأشقاء… إن دمهم لم يذهب سدى وعلى صرح تضحياتهم تبنى أمة متجددة ومتصالحة الآن. كما نستذكر جميع أفراد شعبنا الذي عانى، والذي انتظر بتلهف هذا اليوم في المدن وفي الأدغال. لهم جميعًا، وبشكل خاص للشباب، نوجه رسالتنا بالأمل. دعونا نبدأ من جديد، دعونا نعمل لإعادة بناء البلد” (راديو موزمبيق؛ ترجمة من قبل المؤلف).

كما لاحظت بريسيلا هينر، “في موزمبيق، كان الاعتقاد المقبول، رغم عدم التعبير عنه، هو ‘كلما ابتعدنا عن مناقشة الماضي، كلما كانت المصالحة ممكنة أكثر’. لم يتم التركيز في موزمبيق على المساءلة عن الجرائم التي ارتكبت… لم يكن هناك دعوات على المستوى الوطني لتحقيق العدالة والمساءلة والعقاب، أو الإقصاء من المناصب العامة”. مراقبون آخرون للعملية الانتقالية اقتصروا على الإقرار بأن عملية السلام في موزمبيق “فتحت فضاءات اجتماعية” سمحت بـ “اهتمام أكثر انفتاحًا على المراسم التاريخية والطقسية التي كانت قد سمحت بمعالجة المجتمعات التي كانت منقسمة في الماضي”. إلا أن مراقبين آخرين أشاروا إلى أنه “في البرنامج السياسي لفريليمو، في الدستور الجديد (1990) وفي سياسة الحكومة الجديدة هناك استعداد واضح للمصالحة مع القوى الاجتماعية المختلفة. وهذا يتعلق برواد الأعمال الخاصين، والمجتمعات الدينية وغيرها من المجموعات التي كانت في الماضي تعارض سياسات فريليمو. تتطور عملية المصالحة هذه في فضاء محدود من الناس، وخصوصًا على المستوى المركزي. فيما يتعلق بسكان الأرياف الذين استهدفوا بشكل مباشر في الحرب، يضيف هانز أبراهامسون وأنديرس نلسون أنه ›في هذه اللحظة من غير الممكن حتى الآن رؤية أي علامة على المصالحة الحقيقية مع هذه المجموعة من السكان، من خلال سياسات الدعم المقدم للمناطق الريفية. لم يتغير هذا الواقع كثيرًا، رغم أن هناك استثناء واحدًا يتمثل في الموافقة على القانون رقم 15/ 2000 الصادر في 20 حزيران/يونيو 2000، الذي يؤسس العلاقات بين المؤسسات المحلية للدولة وسلطات المجتمعات المحلية. لقد جعل هذا القانون الاعتراف بسلطات المجتمعات المحلية أمرًا رسميًا، خصوصًا الزعماء التقليديين، الذين كانوا قد جردوا من مناصبهم القيادية وهمشوا في السياسات ما بعد الاستعمارية التي اتبعتها حكومات فريليمو.

لا شك في أن نهاية الحرب الأهلية أدت إلى التحرر من حالات الرعب والأشكال المروعة من الدمار والإذلال للبشر. إلا أن اتفاقية السلام تأسست على ثقافة الإنكار: السلطات السياسية “تشجع غض النظر الجماعي، وترك حالات الرعب المروع دون تفحّص وتطبيعها كجزء من إيقاع الحياة اليومية”. نتيجة لثقافة الإنكار في موزمبيق في حقبة ما بعد الحرب، فإن محنة الضحايا والناجين أهملت تمامًا. كانت التبعات المباشرة للإستراتيجية الرسمية المتمثلة في الإنكار في حقبة ما بعد الحرب، أن الضحايا والمرتكبين السابقين وشركاءهم عليهم أن يعيشوا معًا في نفس القرى التي جرت فيها أكثر الجرائم والانتهاكات بشاعة وترويعًا.

تشير النقاشات حول العدالة الانتقالية إلى أن هذا النوع من التسوية في حقبة ما بعد الحرب، يؤدي ليس فقط إلى ظهور مشاعر الانتقام بل أيضًا إلى العنف الجسدي كشكل من أشكال التعامل مع الانتهاكات والجرائم من حقبة الحرب. إلا أنه، وكما نظهر أدناه، في غورونغوزا، لم تحدث أعمال العنف الجسدي تلك على مستوى الأسرة والمجتمع المحلي.

يمكن ملاحظة إحدى أهم وسائل معالجة الانتهاكات والمظالم في الحرب الأهلية، دون إطلاق حلقات جديدة من العنف الجسدي، من خلال الأوضاع الحياتية التي يستخدم فيها الناجون من الحرب موارد المجتمع المحلي المتاحة لهم للتعامل مع التركات المتعددة من فترة الحرب. وهذه هي عملية المداواة وتقديم العدالة التصالحية من قبل أرواح الماغامبا ومعالجو الماغامبا.

4. تركات الحرب الأهلية والمشهد الاجتماعي – الثقافي في غورونغوزا

يقطن سكان غورونغوزا بيئة تعددية من حيث مصادر السلطة والنظام القانوني، والمعتقدات والممارسات الدينية التقليدية والمسيحية. لكل من هذه المصادر تاريخه المثير للاهتمام، في ضوء السياسات الاستعمارية البرتغالية والأيديولوجيات الماركسية اللينية التي سادت في حقبة ما بعد الاستعمار والتي روجها حزب فريليمو. رغم التحول التاريخي الذي تعرضت له بعض هذه المصادر، خصوصًا السلطة التقليدية والعدالة والطب، فإن جميعها، بما في ذلك المجموعات الدينية المسيحية، لعبت دورًا في التعامل مع أوجه مختلفة من تركات الحرب الأهلية.

على سبيل المثال، في أعقاب اتفاقية السلام التي وقعت عام 1992 وفي الأشهر التي تلتها مباشرة، اكتسب الزعماء والقضاة التقليديون أهمية متزايدة. تطلبت مجمل عملية إعادة توطين السكان وعمليات الإغاثة جهدًا تنسيقيًا كبيرًا، لم يكن هناك غنى عن الزعماء المحليين فيه. كما كان للتسوية السلمية للصراعات مباشرة بين الناس، الذين كانوا منقسمين بمرارة بسبب الحرب، أهمية كبرى أيضًا. كانت الرسالة الأساسية للزعماء لضحايا الحرب تتمثل في الإصرار على المصالحة واستبعاد الكو هيرندزيرا (الانتقام). نصح الزعماء الناس بالكو ليكيريرا (أن يصفحوا) وبالكو ليكيريرانا (أن يسامح بعضهم بعضًا)، على أن ذلك يشكل أفضل إستراتيجية لوضع حد لدوائر العنف الذي تسببت به الحرب الأهلية. لعب المعالجون التقليديون، على وجه الخصوص، دورًا محوريًا في إعادة إدماج الجنود السابقين، ليس فقط في غورونغوزا بل أيضًا في مناطق مختلفة من البلاد. أقاموا طقوس استقبال وإعادة إدماج للجنود السابقين، كطريقة لإعادة ربطهم بمجتمعاتهم التي أصبحوا غريبين عنها في موزمبيق ما بعد الحرب الأهلية.

كما شاركت المجموعات الدينية المسيحية أيضًا في عمليات المصالحة بعد الحرب. معظم الكنائس في غورونغوزا انخرطت في نشر صورة واضحة وقوية عن السلام والمصالحة دون أي نوع من (العدالة الأرضية). لم تكن أفكار الانتقام وتحقيق العدالة بشكل رسمي تلقى أي تشجيع، وتركت لله مسؤولية تطبيق العدالة ضد أولئك الأفراد الذين كانوا قد أساؤوا وقتلوا أشخاصًا أبرياء خلال الحرب. بموازاة الوعظ بأهمية المصالحة من خلال الصفح، انخرطت المجموعات الدينية بحيوية في مداواة المرضى.

يلعب الوسطاء والموارد التي بتصرفهم دورًا مهمًا، لكنهم لا ينخرطون بفعالية مع عنف الماضي. بدلًا من ذلك فإنهم يشجعون المصالحة من خلال الصفح الفردي الذي لا يتطلب الاعتراف بالمسؤولية من قبل المرتكبين. ولهذا السبب، فقد اخترنا هنا دراسة أرواح الماغامبا المتعلقة بالحرب ومعالجي الغامبا. إنهم يشكلون الظاهرة الوحيدة في مرحلة ما بعد الحرب التي ترتبط بشكل وثيق بالعدالة الانتقالية بمعناها الأوسع. تنخرط الماغامبا في الماضي الدموي بشكل معمق، أي خطابيًا وجسديًا وعن طريق الأداء، لتوفير العلاج لجراح ما بعد الحرب. كما أن الماغامبا، بمعانيها وتجلياتها المتعددة، توفر فضاءات عامة يمكن من خلالها تحقيق وممارسة العدالة التصالحية في سياق الانتقال من حرب أهلية إلى السلام.

5. دور أرواح الماغامبا في غورونغوزا ما بعد الحرب

ظهرت أرواح الماغامبا في العالم الاجتماعي – الثقافي في غورونغوزا، التي كان يسكنها تاريخيًا مجموعة متنوعة من الأرواح والمعالجين، في سياق الحرب الأهلية في موزمبيق، وهي بارزة بشكل خاص في منطقة غورونغوزا. إنهم يلعبون أدوارًا مختلفة في المجتمع. تتسبب الأرواح المختلفة في البداية بالمعاناة، لكن يتم تحويل المعاناة إلى قوة علاجية. خصوصًا في حالة أرواح الماغامبا، فإن الإجراءات المتبعة لتحويل المعاناة إلى علاج تكشف عن وجود فضاءات اجتماعية وزخمًا لتحقيق العدالة التصالحية.

الناس في غورونغوزا، كما في العديد من الأماكن الأخرى في أفريقيا، يعيشون في عالم اجتماعي يمارس تقليديًا الاعتقاد بأن موت الأشخاص من خلال أفعال مؤلمة، أو انتهاك المحظورات مثل قتل البشر دون شرعية ميتافيزيقية و/أو اجتماعية، يعد جريمة تتطلب معالجة فورية من خلال طقوس التكفير. إذا لم يتم الإقرار بالخطأ، فإن روح الضحية البريئة ستعود إلى عالم الأحياء لتصارع من أجل العدالة.

تاريخيًا، كان معالجو المادزوكا يسيطرون على عالم الأرواح في غورونغوزا. وكان هؤلاء المعالجون يعملون بتوجيه من أرواح أسلافهم. كانوا متخصصين في التنبؤ ويحتكرون القدرة على إدخال الأشخاص في حالة من الغيبوبة. كان لهذا الاحتكار ثلاثة مضامين. أولًا، وحدهم الأشخاص الذين ينتمون إلى عائلات لأسلافها تاريخ في معالجة الأرواح يمكن أن يكونوا معالجين. ثانيًا، خلال معالجة أي حالة، لا يعود للمريض صوت. كان هناك توقع اجتماعي – ثقافي أنه باستخدام أرواح الأسلاف القوية جدًا يمكن لمعالج المادزوكا أن يكشف عن أسباب المشكلة الصحية أو الاجتماعية. ومن خلال تقنية تسمى كو فيما (الشمشمة)، التي كانت تتم في حالة من الاستحواذ على الشخص من قبل الروح أو الغيبوبة، كان معالج المادزوكا قادرًا على نقل المشكلة من جسد المريض أو الزبون إلى جسده هو. وبعد ذلك يكشف المعالج جميع الأبعاد غير المرئية للمشكلة التي يتم علاجها ويضع إستراتيجية تدخّل ينبغي اتباعها. وأخيرًا، فإن إجراءات المعالجة هذه ركزت قدرًا كبيرًا من السلطة في أيدي معالجي المادزوكا وأرواح أسلافهم، وكان يتوقع من المريض أن يلعب دور المستكين الخانع.

ربما لأن مجتمعات غورونغوزا كانت تعمل في ظل شروط تتميز بتوتر محمول نسبيًا، فإن الدور الذي لعبه معالجو المادزوكا لم يلق اعتراضًا كبيرًا.

إضافة إلى ذلك، في القرن التاسع عشر، ونتيجة هجرة المجموعات العرقية من نغوني في الجنوب لإخضاع سكان وسط موزمبيق، ارتكبت العديد من أفعال العنف المعمم وأعمال القتل التي طالت مجموعات محلية. ونتيجة لهذا العنف، ودون أي شرعية ميتافيزيقية أو اجتماعية، تم استحداث روح جديدة في وسط موزمبيق تسمى نفوكوا. هذه الروح، التي تعود إلى عالم الأحياء لتحقيق العدالة عن طريق إصابة المرتكبين ومجموعتهم، أشارت إلى وجود تلوث كاسح من صنع الإنسان في مجتمعات غورونغوزا. كما شوهدت ظاهرة نفوكوا أيضًا في جنوب البلاد، إلا أن أرواح نفوكوا لم تتمكن من ترسيخ نفسها إلى درجة بناء مؤسسة قوية وسط شعب غورونغوزا. طبقًا لإفادات المسنين في غورونغوزا، فإن أرواح نفوكوا ظلت ظاهرة مخفية وليس هناك سوى عدد قليل من الآثار المادية التي بقيت منها. قد يكون أحد الأوجه الجديرة بالاهتمام أن أرواح نفوكوا يمكن اعتبارها أسلاف أرواح الماغامبا من حيث منطق عملها، أي الانتقام لمقتل شخص بشكل غير عادل. لكن، وعلى عكس أرواح نفوكوا، فإن أرواح الماغامبا مضت أبعد من ذلك لترسخ نفسها كمؤسسة محلية للنشاط العلاجي، إضافة إلى معالجي المادزوكا وأسلافهم.

6. أرواح الماغامبا: حقبة جديدة، محن خطيرة وفضاءات اجتماعية للمعالجة

على خلفية معالجي المادزوكا، الذين جسدوا أرواح الأسلاف، أطلقت أرواح الماغامبا حقبة جديدة في غورونغوزا. تمثلت هذه الحقبة الجديدة في انبعاث الحياة، وقوة ›صوت‹ الشباب، ومحاولة لتحقيق التوازن بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية. كما أن أرواح الماغامبا دشنت فترة جديدة من حيث تطبيق قواعد وإجراءات إصلاحية في النشاط العلاجي. من أجل فهم العدالة التصالحية التي تجسدها أرواح الماغامبا، علينا دراسة الوقائع الإثنوغرافية ومقارنتها مع إجراءات مؤسسة المادزوكا.

تتمثل إحدى السمات الرئيسية لروح الماغامبا في بعدها العشوائي، بمعنى أن الأرواح تخلت عن القاعدة المحافظة التي كانت تنص على أن وحدهم الأفراد الذين ينتمون إلى عائلات لها تاريخ في المعالجة يمكن أن تسكنهم الأرواح وأن يعملوا كمعالجين. يمكن لأرواح الماغامبا أن تسكن أي شحص كان في غورونغوزا طالما كان للشخص أو عائلته تاريخ من التعرض للإساءة أو الخذلان أو الصدمة، أو كان ضحية للقتل. بما أن الحرب الأهلية الطويلة كانت تربة خصبة ارتكبت فيها انتهاكات فظيعة من البشر بحق البشر، وحدثت فيها جميع أنواع الإهانات والمعاناة، فإن أرواح الماغامبا سرعان ما اكتسبت دورًا بارزًا، وبدأت تحل في العديد من الناس، خصوصًا النساء الشابات. إن حلول روح الغامبا تعني الإصابة بمحن صحية واجتماعية خطيرة في حياة الضحية/المضيف وأقاربه. إلا أن الأرواح توفر أيضًا احتمال العلاج.

تشهد أرواح الماغامبا بأشكال متعددة على الأحداث العنيفة التي حدثت خلال الحرب الأهلية. على سبيل المثال، وعلى عكس معالجي المادزوكا الذين يستعملون أداة علاجية تتكون من موتشيرا (ذيل الحيوان)، والتي تشير إلى الترابط بين أرواح الأسلاف والطبيعة، فإن معالجي الماغامبا يستعملون أداة أخرى هي الحربة، التي تمثل الماضي العنيف. يقال إن هذه الحراب وجدت متصلة ببنادق الكلاشينكوف التي استخدمت العديد من المرات لطعن وقتل الناس. يشير معالجو الماغامبا إلى أنه إذا رغب الناس بالتعامل مع هذه الأرواح بنجاح فإن عنف الماضي لا يمكن تجاهله. ثمة حاجة للانخراط مع الماضي، ومعرفة المظالم التي ارتكبت، والاعتراف بالذنب وإصلاح الضرر.

يتم إيضاح العملية هنا من خلال دراسة حالتين، سينوريا وأمها أميليا، التي تشكل تجسيدًا للبعد العلاجي والعدالة التصالحية لأرواح الماغامبا.

6. 1. سينوريا: خلفية القضية

سينوريا امرأة شابة في السابعة والعشرين من العمر. ولدت خلال الحرب الأهلية في ظروف صعبة للغاية. كان والداها يعيشان في منطقة تسيطر عليها رينامو، وفي أحد الأيام وصل ثلاثة من جنود رينامو إلى منزلهم ليأخذوهم في مهمة تتعلق ب غانديرا (استخدام المدنيين لأغراض عسكرية). في ذلك الوقت، كانت أميليا، والدة سينوريا، حاملًا بها وفي مرحلة متقدمة من الحمل. تدخل والد سينوريا ليطلب من الجنود ألا يشركوا زوجته الحامل في الغانديرا. انزعج الجنود كثيرًا، وضربوا والد سينوريا ضربًا مبرحًا وأجبروا أميليا على الذهاب في مهمة الغانديرا. في الطريق إلى هناك تعرضوا لكمين من قبل جنود حكومة فريليمو، وهرب الجميع. دفعت الصدمة والخوف والدة سينوريا إلى وضع سينوريا بمفردها وسط الغابة. كانت المعجزة أن الأم والطفلة بقيتا على قيد الحياة وقررت الأسرة بمجملها الانتقال من المنطقة التي تسيطر عليها رينامو إلى المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة.

إلا أن الأخ الأكبر لوالد سينوريا، زيكا، رفض الانتقال إلى المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة وظل يعيش تحت سيطرة رينامو. الغريب أنه بعد ثلاثة أسابيع من انتقال والدي سينوريا إلى المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة، هاجم جنود رينامو المنطقة، وفتحوا باب منزل والدي سينوريا بالقوة، واختطفوا والدها وأعادوه إلى المنطقة الخاضعة لسيطرة رينامو. عُذب بشدة واتهم بالخيانة. وقد أثارت حقيقة تمكّن جنود رينامو من العثور على والدي سينوريا شائعات بأن زيكا كان قد وشى بأخيه بتسريب المعلومات للجنود حول مكانه، وكادت هذه الإدانة أن تكلفه حياته. قطع والد سينوريا علاقاته نهائيًا مع زيكا.

عندما انتهت الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 1992 ، ووسط نصائح من السلطات السياسية بالصفح والنسيان والمصالحة، ظل والد سينوريا وزيكا متخاصمين ولم يحاولا اللقاء لاستعادة علاقاتهما. في هذه الأثناء، كبرت سينوريا، ووصلت إلى سن الزواج وتزوجت شابًا من الحي. حملت منه، وقبل أن تلد ببضعة أسابيع بدأت روح تسكنها. ذهبوا إلى معالج وتم تشخيص وجود روح الغامبا. وبما أن تاريخ الولادة كان يقترب، قرر معالج الغامبا أن يؤدي طقسًا خاصًا بالمناسبة لتهدئة روح الغامبا بحيث يمكن إنقاذ المولود. وبالفعل، تمكنت سينوريا من الولادة بأمان.

كان معالج الغامبا قد أشار إلى أن ثمة حاجة لإجراء مراسم أكثر شمولًا من أجل دعوة روح الغامبا الساكنة في جسد سينوريا، بحيث يمكن حل المشكلة بشكل نهائي. إلا أن سينوريا استعادت قوتها وكانت طفلتها تنمو صحيحة معافاة، ولم تتبع هي وأسرتها تعليمات المعالج. مرت سنتان، واستمرت بالعيش مع زوجها، وحملت مرة أخرى. هذه المرة توفي الرضيع بعد أسابيع من ولادته. أجروا مراسيم حِداد عليه ودفنوا الرضيع الميت واستمروا في عيش حياتهم كالمعتاد. بعد سنتين، بدأت سينوريا وزوجها يدركان بأنها لم تعد تحمل. قررا الاستمرار في محاولة إنجاب طفل آخر لعام آخر، لكنهما فشلا في ذلك. في هذه الأثناء، بدأت سينوريا برؤية كوابيس مخيفة وكانت في بعض الأحيان تحلم وكأنها تطلق أرواحًا. وطبقًا للتفسيرات المحلية، فإن هذا يشير إلى وجود روح سيئة.

قررت سينوريا ووالدها استشارة معالج غامبا مرة أخرى. خلال المشاورات الأولية، سكنت روح جسد سينوريا ثم تم إخراجها. كشفت الروح أنها روح رجل ينتقم من خطأ ارتكبه زيكا خلال الحرب الأهلية، وأنه ما لم يعترف زيكا ويقوم بالتعويض عن الأضرار التي تسبب بها فإن سينوريا محكومة بالمعاناة أكثر وأكثر.

كما ذكر آنفًا، فإن والدي سينوريا توقفا عن التواصل مع زيكا منذ أيام الحرب الأهلية. وبما أنهما اتهما زيكا بالخيانة، فكيف يستطيعان الاتصال به وإقناعه بأن يذهب إلى معالج الغامبا للرد على اتهامات الروح التي تسكن جسد سينوريا؟ من ناحية، فإن اتهام زيكا يمكن أن يثير حلقة جديدة من المرارة وحتى العنف بين والد سينوريا وأخيه الأكبر. ومن جهة أخرى، إذا فشل والد سينوريا بالالتزام بطلب روح الغامبا، أي بإحضار زيكا إلى جلسة العلاج، فإن سينوريا لن تبقى على قيد الحياة وستفشل في حياتها بالتأكيد. لم يكن هناك طريقة أخرى لأنه لا يمكن معالجة أرواح الماغامبا بشكل نهائي ما لم يحضر الشخص المتهم وأقاربه، ويعترف بالذنب أمام جميع الموجودين في جلسة العلاج، وأن يقبل بالتعويض عن الفوضى المتعلقة بالحرب (عندما تكشف أرواح الماغامبا نفسها فإن أصواتها لا تستهدف أفرادًا بل مجموعات).

في هذه الظروف قرر والد سينوريا إخبار أخيه زيكا بالمشكلة. لم يحدث أي عنف، لكن زيكا أنكر ارتكابه لأي خطأ خلال الحرب الأهلية ورفض بشكل قاطع المشاركة في أي طقوس تتعلق بشقيقه الأصغر. وحيث لا يستطيع والد سينوريا إجبار أخيه الأكبر، فقد قرر رفع القضية إلى محكمة المجتمع المحلي. استدعي زيكا أمام المحكمة، وأمره القضاة بحضور جلسة العلاج لأجل سينوريا وأحالوا القضية إلى مقر “أميترامو” (الجمعية الموزمبيقية لممارسي الطب التقليدي). بهذه الطريقة، أعيد توحيد عائلة سينوريا والشقيقين في النهاية للمرة الأولى بعد العديد من السنوات. كسر وجود الغامبا الذي يطالب بتحقيق العدالة الصمت، وفرض على أشخاص متخاصمين التصالح ومعالجة صراعاتهم المرتبطة بالحرب.

6. 2. أميليا: خلفية الحالة

تبلغ أميليا من العمر 40 عامًا. لقد وصف جزء من تجربتها المؤلمة في سياق ولادة ابنتها، سينوريا. ما يمكن إضافته هو أنه خلال الحرب، انفصلت أميليا عن عائلتها، عن أبيها وأمها وأخوتها. في المراحل المبكرة جدًا من الحرب الأهلية، قرر والدا أميليا التخلي عن منطقتهم الأصلية للعيش في منطقة تسيطر عليها السلطات الحكومية. ظلوا تحت سيطرة الحكومة حتى نهاية الحرب الأهلية. أما أميليا، فقد ظلت في منطقتها الأصلية مع زوجها وتحت سيطرة رينامو حتى المراحل الأخيرة من الحرب، عندما قرروا أيضًا الهرب إلى منطقة تسيطر عليها الحكومة.

بدأت مشاكل أميليا خلال الحرب الأهلية. بعد الولادة الخطيرة لكن الناجحة لسينوريا، بدأت أميليا بمواجهة مشاكل إنجابية. كانت تحمل في بعض الأحيان، لكنها تتعرض لإجهاض بعد بضعة أشهر. وفي مرات أخرى أنجبت، لكن الطفل لم يبق على قيد الحياة أكثر من ستة أشهر. وفي مرات أخرى أيضًا أخفقت في الحمل.

ومن أجل الحصول على علاج، انضمت هي وزوجها إلى مجموعة دينية مسيحية. وظلا مخلصين للحياة المسيحية لعدة سنوات، إلى حد أن زوج أميليا أصبح كاهنًا، لكن أميليا لم تشف. طلبت أميليا المساعدة من والدها فنصحها بألا تتخلى عن الصلاة، حيث إنه هو أيضًا مسيحي. بعد عدة سنوات دون حل، تخلت أميليا وزوجها عن حياتهما الدينية المسيحية وأصبحت محنتهما طي النسيان. كانت حالة ابنتهما سينوريا هي التي أعادت حالة أميليا إلى الحياة.

6. 3. انتقال الأصوات والحقائق حول الماضي: سينوريا وأميليا

في سياق الإفلات من العقاب السياسي والصمت الذي ميز فترة ما بعد الحرب الأهلية في موزمبيق، فإن ظهور أرواح الماغامبا يوفر فضاءات اجتماعية حيث يمكن للأشخاص المهمشين الاجتماع لمعالجة صراعاتهم المتعلقة بالحرب. وكي تتمكن روح الغامبا من تحقيق المعالجة والعدالة التصالحية، ينبغي أداء مراسم ناجمة عن المحاولة الجماعية تحت المراقبة الوثيقة لمعالج الغامبا. على هذا المستوى، يشكل دور معالج الغامبا ضمانة في أن يتم الأداء بشكل سليم لإقناع روح الغامبا، الساكنة في جسد المريض المصاب أو أحد أقارب المريض، بكشف نفسها للناس.

في العادة، عندما يستقبل المعالج (سواء كان معالج مادازوكا أو غامبا) مريضًا في بيته ويكون بحاجة لكو سوسيرا (مراسم تشخيص)، فإن المعالج يضرب على طبل لإبلاغ الجيران بالمراسم القادمة. في الليل، يأتي الجيران إلى منزل المعالج للمساعدة في أداء الكو سوسيرا. في جلسة التشخيص والعلاج، يغني معالج الغامبا والمشاركون أغانٍ تستحضر أحداث الحرب والمعاناة والموت. وبينما يغنون، يوضع المريض في وضع الجلوس وسط المشاركين. يدخل معالج الغامبا في غيبوبة، ويمسك بحربته ويبدأ بتمثيل أحداث من الحرب الأهلية. يبدأ بالزحف وإطلاق النار والقتال، ويقوم بحركات غريبة ويركض ويدخن الحشيش ويشرب الكحول. يكون الهدف الرئيسي لهذا الأداء هو إحداث مزيج من الخوف والتعاطف في المريض من أجل استحضار حالة الشخص المسكون بروح. نتيجة لذلك، يستثار المريض ويبدأ جسده بالتحرك دون ضابط، ويبدأ المشاركون، الذين يتوقفون عن الغناء، بالصراخ بصوت عالٍ لدعوة الروح للكشف عن

نفسها. تكون هذه لحظة ترقب في الطقس، حيث إنه من غير الواضح للمشاركين في هذه اللحظة ما إذا كان المريض سيتمكن من جعل الروح تسيطر بشكل كامل على جسده. قبل أن تكشف الروح عن نفسها، يطلق المريض صرخة عالية كما لو أنه اصيب بأذى. يكتسب المرضى قوة جسدية استثنائية؛ ويصبحون عنيفين في حركة أجسامهم وكلامهم، ويحدقون بثبات. تقول النظرية في غورونغوزا إن الروح تعود للانتقام لأخطاء الماضي، ولهذا السبب فإن وجود الغامبا يتسم بأفعال عنيفة جدًا.

يتمكن معالج الغامبا، في حالة من الغيبوبة، من تهدئة روح الغامبا في المريض بأن يطلب من الروح الكشف عما حدث خلال الحرب. عندما تخفت روح الغامبا، يعود المعالج إلى حالته الطبيعية وتحدث عملية انتقال للأصوات والأدوار. يصبح التركيز الآن بشكل حصري على المريض المسكون بالروح. تبدأ الروح بالكشف عما حدث لها بحيث يستطيع كل مشارك أن يسمع.

إن الأداء من قبل معالج الغامبا والمشاركين الآخرين مهم للغاية، لأن الروح التي تصيب المريض ينبغي أن تكشف عن نفسها للجمهور من خلال جسد المريض. وهذا يتناقض تمامًا مع الإجراءات التي تتم ممارستها من قبل معالجي المادزوكا. كما ذكرنا أعلاه، يعتقد أن معالجي المادزوكا يتمتعون بقوى استثنائية، إلى حد أنهم خلال عملية التشخيص، لا يتوقع للمرضى أن يكون لهم صوت؛ بل إنه صوت روح السلف التي تكشف كل الحقيقة. أما أرواح الماغامبا فقد غيرت هذا المنطق بإعطاء الموقع المحوري لأجساد المرضى بدلًا من جسد المعالج. عندما تصبح روح الغامبا جاهزة لتوجيه الاتهامات، فإن دور معالج الغامبا يصبح التوسط وإدارة مداولات الجمهور من أجل التوصل إلى تسوية.

بهذه التوقعات، أي وجود مراسم علنية للكشف عن الحقيقة حول الماضي العنيف وتحديد المسؤوليات الفردية، ذهبت سينوريا ووالدها وزيكا وعائلته إلى أميترامو. معالجو الماغامبا الأعضاء في هذه المنظمة أدوا الكو سوسيرا، وتحدثت روح الغامبا من خلال جسد سينوريا. كان اسم الروح فيرناندو، وقال إنه كان جنديًا سابقًا في رينامو وإنه كان قد قتل في معركة. بعد موته، أخذ زيكا سرًا أجزاء من جسده لصنع تعويذة من أجل التأقلم مع المجاعة الفظيعة في ذلك الوقت، وذلك لزيادة إنتاجه الزراعي.

في البداية، أنكر زيكا هذا بشكل قاطع. وقال إنه كان رأى العديد من الجثث خلال الحرب، لكنه لم يكن قد لمس جثة جندي على الإطلاق. حدثت نقاشات حادة؛ وكان معالج الغامبا المسؤول يتوسط في النقاشات وكان الجمهور كله يستمع بعناية. ثم كشف الروح أنه بعد الحرب الأهلية، كان زيكا قد قرر أن “يطلقه” (كوتو سيرا) أو أن يأخذه إلى منزل شقيقه الأصغر كي يعيش في جسد سينوريا. حث معالجو الغامبا الآخرون الموجودون في الجلسة زيكا على الاعتراف بالحقيقة، فيما يتعلق بكل هذه المزاعم لتهدئة الروح. بعد العديد من الساعات التي انقضت بالمداولات، قال زيكا إن أحدهم كان قد نصحه خلال الحرب بأن يحصل على مثل تلك التعويذات من أجل التأقلم مع المجاعة. كما قال زيكا إنه بعد الحرب، وحيث إن شقيقه الأصغر لم يحاول الاجتماع به لعد قتلاهم وعبادتهم، فإنه قرر إطلاق تلك الروح للعيش في جسد سينوريا.

اعترف زيكا بالذنب وطلب معالجو الماغامبا من الروح تحديد كيفية التعويض. أمر الغامبا بأن يعيد زيكا الأجزاء المنثورة من جسده، وأن يبني له منزلًا في الغابة المجاورة قرب شجرة تسمى موسيكويسا (توجد كثيرًا في المقابر) حيث يريد أن يعيش. في المقابل، أمر المعالجون زيكا ووالد سينوريا بالبحث عن أجزاء الجسد في الغابة، وحاول المعالجون تحديد موقع لشجرة الموسيكويسا. بعد ذلك، بنى زيكا وشقيقه المنزل لروح الغامبا.

في اليوم التالي، وفي الصباح الباكر، ذهب معالجو الماغامبا مع سينوريا ووالديها وزيكا إلى الغابة لأداء عملية التعويض وإنهاء المراسم. غنّى العدد القليل من المشاركين أغنية الدعوة وخرجت روح الغامبا نفسها مرة أخرى من خلال جسد سينوريا. أظهر المعالجون المنزل للروح، وحثوا زيكا وشقيقه على التلفظ ببعض الكلمات التصالحية مع الروح. اعتذر زيكا بشكل خاص وباحترام بالغ للروح وطلب منه مغادرة جسد سينوريا. أمر روح الغامبا كل عائلة سينوريا بالتوقف عن الهمس سرًا (كو ندونغونها)، وإزالة جميع الأحقاد من قلوبهم والعيش في سلام (موتينديري) وتفاهم (كو فيرانا).

بينما كانوا معالجو الماغامبا يؤدون الكوسوسيرا لسينوريا، حدث شيء غريب لأميليا، التي كانت تساعد أيضًا في الغناء والتصفيق. بدأت فجأة بالارتجاف (كو تيكيموكا)، وهو مؤشر على وجود روح. لاحظ معالجو الماغامبا وكل الجمهور محنتها، وبالفعل أصبحت أميليا مسكونة. كان اسم هذه الروح ألبيرتو. كشف عن أن جد أميليا لوالدها كان قد قتله في بداية الحرب الأهلية، وأنه عرض أميليا على الروح كتعويض عن الضرر الذي لحق به. إلا أن الجد كان قد توفي. في مثل تلك الحالات، حيث يكون الشخص المدان قد توفي، فإن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقوم بالكوهيميريرا (فرد كبير في العائلة يتحمل المسؤولية عن مجموعته) هو والد أميليا. وبما أنه لم يكن موجودًا تلك الليلة، فإن معالجي الماغامبا أنهوا الجلسة. أمروا أميليا وزوجها بالطلب من والد أميليا أن يحضر إلى أميترامو لمعالجة خلافهما في الماضي.

كانت حالة أِميليا معقدة جدًا لأنه، كما ذكر أعلاه، فإن والدها كان مسيحيًا. في العادة، يرفض المسيحيون المؤمنون الاجتماع مع ما يسمونهم وانو وا دزيكو (الناس من هذا العالم)، أو الأشخاص الذين لا يتبعون أسلوب الحياة المفروض في القانون المسيحي. تحدثت أميليا وزوجها إلى والد أميليا حول الحاجة للمشاركة في جلسة العلاج في أميترامو، لكنه رفض. الأسوأ من ذلك، أنه قال إنه يفضل أن يموت على أن يدخل منزل معالج تقليدي. رغم العديد من المحاولات لإقناعه، فإنه لم يغير موقفه المتشدد، لكنه أوضح أن أي محاولة لإجباره على دخول منزل أحد المعالجين ستنتهي بمأساة لأنه سيقتل نفسه. في هذه الظروف، لم تتمكن أميليا ولا زوجها ولا معالجي الماغامبا من التقدم في هذه الحالة. لم يتم إجراء أية مراسم علنية، ولم تخرج أية أصوات ولم يتم اكتشاف أية حقائق عن الماضي يمكن أن تمهد الطريق لمعالجة وضع أميليا. سيترتب عليها أن تعيش مع روح شخص كان جدها قد قتله؛ والأسوأ من ذلك، أن هذه الروح كانت تعيق حياتها وحياة زوجها الإنجابية.

6. 4. فعالية تدخلات معالجي الغامبا

تمت متابعة حياة سينوريا وأمها لمدة ثلاث سنوات. بعد عام من التدخل، تمكنت سينوريا من الحمل والولادة. في السنة الثالثة، تمكنت مرة أخرى من الحمل والولادة. وحاليًا، تعيش حياة هادئة مع زوجها وثلاثة أطفال. كانت الآثار الجانبية للتدخل، أن والد سينوريا وزيكا استعادا حياتهما العائلية (سُجن زيكا لأنه اتهم بزراعة الحشيش في حقوله، لكن أطلق سراحه بعد بضعة أشهر بسبب غياب الأدلة الملموسة).

بالنسبة لأميليا، والدة سينوريا، فإن الوضع لم يتغير على الإطلاق. لم تتمكن من الحمل ومرت علاقتها بزوجها بصعوبات. كان مقتنعًا بأن عدم تمكنها من الحمل كان بسبب زوجته وأقاربها لوالدها. تدهورت العلاقة بين أميليا ووالدها لأنه يبدو أنه كان يمنع احتمال أن تنجب ابنته، وبالتالي أن تعيش حياة كريمة وسعيدة. بالمقابل، فإن والد أميليا لم يكن يعتقد بأنه يمنع أي شيء؛ وقال إنه كان يفضل أن تظل ابنته في الكنيسة وأن تسعى إلى حل من خلال الإله المسيحي. إلا أن مشكلة المجموعات الدينية المسيحية هي أنها لا تشجع الخطاب والممارسات التي تستعيد عنف الماضي، ولا تطالب بأي نوع من تحمل الأشخاص الضالعين في الصراع المرتبط بالحرب أية مسؤولية. تعتمد المجموعات الدينية المسيحية في غورونغوزا بشكل كامل على الصفح الأحادي، حيث إن الله هو القوة الأكثر أهمية في تسوية الصراعات. هذا لا يعني أن هذه إستراتيجية سيئة. المأزق هنا، هو أنه عندما يستمر الصراع ويعاني الناس من آلام عميقة ومحن خطيرة، فإن المقاربة المسيحية تكون ناقصة من حيث تقديم التدخلات الحساسة التي تستجيب للاحتياجات الحقيقة للناجين من الحرب. بالنسبة لأشخاص مثل أميليا، فإن المقاربة الدينية المسيحية تمثل تقييدًا جديًا، حيث إن مصدر حل مشاكلهم هو بالتحديد في قدرة الأحياء على الانخراط مع عنف الماضي. من خلال إعادة تمثيل الماضي العنيف من قبل روح الغامبا تتم معرفة أسباب المشاكل الراهنة، ويمكن الحصول على العلاج والعدالة والمصالحة واستعادة استقرار المجتمع.

7. تركة الحرب الأهلية، أرواح الماغامبا وممارسات العدالة التصالحية

حالات سينوريا وأمها أميليا ليستا فريدتين. إنهما تعكسان محنة العديد من الناجين في حقبة ما بعد الحرب الأهلية في غورونغوزا. رغم أن الحالتين الموصوفتين هنا تتعلقان بشكل رئيسي بالنساء، هناك أيضًا رجال أصبحوا مسكونين بأرواح الماغامبا ويخضعون لإجراءات تسوية مماثلة. تظهر الإجراءات المتبعة من قبل معالج الغامبا بقوة، أن العلاج والعدالة المرتبطة بالحرب لا يمكن تصورهما كظاهرتين منفصلتين. ممارسات العلاج التقليدية كلية، وأرواح الماغامبا تجسد هذه التقاليد. إنها تتعلق بالعلاج بقدر ما تتعلق بالعدالة التصالحية.

كما ذكر أعلاه، فإن الحرب الأهلية أضعفت بشدة عدة ملامح من رأس المال الاجتماعي الذي كان قد أسهم لعدد من السنوات ببناء علاقات الثقة بين أفراد الأسر وفي الاستقرار الاجتماعي في المجتمعات المحلية. انقسمت العديد من الأسر وأجبر بعض أفرادها على التجسس على بعضهم بعضًا، ما نتج عنه مقتل أقاربهم. عندما انتهت الحرب، قرر عدد قليل من العائلات لمّ الشمل لإحصاء قتلاها وعبادة أرواحهم الغاضبة. أراد أفراد الأسر أن ينسوا الرعب. حاولوا اللجوء إلى الصمت وتجنبوا الاجتماع كي ينظروا إلى الوراء بجدية ومن ثم يتحركوا إلى الأمام. إلا أن شعب غورونغوزا يعيش في وسط اجتماعي – ثقافي لا يتلاشى فيه تاريخ الانتهاكات، والإذلال وقتل الأبرياء (بشكل خاص). في الواقع، ما لم تتم معالجة جريمة بشكل مناسب، فإنها ستعود دائمًا لتسكن مرتكبيها، وأقاربهم ومجتمعهم بشكل عام.

إن روح الغامبا تجسد هذه القيمة، أي أن المعاناة الكبيرة وأعمال القتل العنيفة لن تنتهي ما لم تتم معالجتها بالشكل المناسب. وفي هذا السياق، فإن أرواح الماغامبا هدمت جدران الصمت التي كانت السلطات الرسمية للأمة الدولة قد بنتها لإنكار الماضي ونسيانه، والتي شارك في بنائها العديد من الناجين من الحرب. إن روح الغامبا، تتحدى سياسات الإنكار السائدة وتجبر الناجين من الحرب على معالجة بعض نزاعاتهم المرتبطة بالحرب والتي لم تتم معالجتها.

تظهر حالتا سينوريا وأمها أميليا، أن أرواح الماغامبا توفر فضاءً اجتماعيًا يمكن العمل على الماضي في إطاره. في هذه الفضاءات الاجتماعية لحقبة ما بعد الحرب، يتم التعامل مع روح الغامبا بجمع المدعي والمدعى عليهم وأسرهم. معظم هذه الأسر كانت قد تمزقت خلال الحرب الأهلية وظلت مقسمة في فترة ما بعد الحرب. تجبر أرواح الماغامبا هؤلاء على لم شملهم ومعالجة نواحٍ من ماضيهم المخزي وغير الأخلاقي. الأهم من كل ذلك، أنها تسمح للعديد من الناس بالشعور أنهم ضحايا وأن يقولوا بأنهم ظلموا خلال الحرب الأهلية. كما أنها توفر وسيلة للناجين من الحرب، تسمح لهم بمعالجة تركات الحرب الأهلية على مستوى الأسرة والعائلة والمجتمع المحلي.

في الماضي (قبل الحرب الأهلية)، كان معالجو المادزوكا أكثر الشخصيات أهمية في إجراءات العلاج ولم يكن للمرضى دور يذكر. أما أرواح الماغامبا، فقد أعادت تشكيل هذا المنطق. الآن، الناجي المظلوم هو الذي له صوت وعليه تحمل المسؤولية. يكتسب الصوت قوة مقنعة وسلطة من خلال وجود روح الغامبا. إنها هذه القوة وهذه السلطة، التي تسمح للناجين من الحرب بالتعامل مع حقائق معينة في ماضيهم العنيف.

رغم ذلك، يمكن طرح عدة أسئلة.

أولًا، حقيقة مَن هي تلك التي تستحضرها أرواح الماغامبا؟

إن أرواح الماغامبا لا تستحضر حقائق عن وقائع فردية. المهم في تلبّس الغامبا، هي الإفادات بالحقائق الجماعية لوجود الضحايا والمسؤولية والمساءلة في مرحلة ما بعد الحرب. وهكذا، طبقًا لهذا المنطق الأفريقي، فإن المسؤولية والذنب جماعيان. هذا لا يعني أن الإفادات التي تصور الحقائق عن وقائع ترتبط بأفراد لا يتم استحضارها خلال جلسات معالجة الغامبا؛ بل إن هذا يحدث. قد يكون من المناسب ذكر ما تكتبه أنيت ويفيوركا بما يتعلق بعمليات الإنتاج الثقافي والإفادات. تقول، إن “الإفادات خصوصًا عندما يتم تقييمها كجزء من حركة ثقافية أكبر، تعبر عن خطاب وخطابات تحظى بالقيمة في المجتمع في اللحظة التي يروي فيها الشهود حكاياتهم بنفس القدر الذي تعبر فيه عن التجربة الفردية”.

بهذا المعنى، يمكن شرح كيف أن وجود روح الغامبا في حالة سينوريا مهدت الطريق لسرد التاريخ المؤلم لأميليا. رغم أن الإفادة عن تاريخ حياتها لم يكن عاملًا رئيسيًا سمح بحدوث طقوس العلاج، كان هناك لحظات خلال المداولات عندما استحضرت أميليا نواحٍ من ماضيها للمجادلة بأن المعاناة التي كانوا يمرون بها ينبغي أن تتوقف. في واحدة من هذه اللحظات، قالت أميليا بطريقة تعبر عن زوال الأوهام: “لقد عانيت كثيرًا مع هذه الطفلة “سينوريا” (…) ولدت هذه الطفلة في الغابة وكنا كلينا على وشك الموت بسبب الحرب. الآن انتهت الحرب لكن المعاناة مستمرة، كيف يكون ذلك ممكنًا؟ كيف يمكن لإنسان أن يبني بيتًا “أسرة” بهذه الطريقة؟‹ حدق معالج الغامبا فيها ورد قائلًا: ›لهذا السبب نحن هنا الليلة؛ الروح شخص. إنه يرى أننا مهتمون جدًا بشكواه. عندما تلتزم عائلة زوجك بما تقوله الروح، عندما يدفعون ما تريده الروح، ستحل مشكلتك وستنتهي هذه القضية”.

أحد الأوجه المهمة جدًا في جواب معالج الغامبا هذا هو أنه ليس خالٍ من المعنى. إنه يحمل جوابًا عميقًا… يحمل الأمل، حيث إنه يعترف بمعاناة المريض ويعد باستعادة كرامته طالما لا يتم تجاهل التاريخ الجماعي العنيف، وطالما تمت الممارسات الخطابية المتمثلة في الاعتراف وتم التعويض. هذه الأنماط من السرد، التي تستحضر التجارب الشخصية المتمثلة في المعاناة، يتم الكشف عنها غالبًا في جلسات تشهد درجة عالية من الهياج خلال معالجة الغامبا. إلا أن حالات السرد الأكثر أهمية هي تلك التي تستحضر الحقائق الجماعية، ومن مسؤولية روح الغامبا التعبير عن هذه الحقيقة الجماعية.

جانب مهم آخر ينبغي النظر فيه فيما يتعلق بصوت الضحية الذي يتم سماعه من خلال وجود روح الغامبا هو الآتي: بشكل عام، فإن الغامبا هو روح جندي مقتول، أي مرتكب سابق. كيف يمكن لمرتكب سابق أن يعود إلى عالم الأحياء للقتال من أجل العدالة؟ من هي الضحية هنا وعن أي عدالة يتم البحث في حالات التلبس بروح الغامبا؟ قد يبدو من قبيل المفارقة أن المرتكب السابق لا يعود ليعتذر ويطلب الصفح والغفران، كما يمكن للممارسات الدينية المسيحية أن تتوقع. بدلًا من ذلك، فإن المرتكب السابق يعود كضحية. بالنظر إلى ديناميكيات الحرب الأهلية في موزمبيق. يمكن المجادلة بأن العديد من الشباب الذين شاركوا فعليًا في القتال يمكن أن يزعموا بأنهم ضحايا. أولئك الذين كانوا على جانب الرينامو كان يتم اختطافهم عادة، وأولئك على جانب جيش حكومة فريليمو شاركوا كجزء من خدمتهم العسكرية الإلزامية، التي يقرها القانون. ولذلك هل نناضل من أجل تحقيق العدالة لأولئك الذين كانوا مسؤولين بشكل مباشر عن عمليات الخطف والتجنيد العسكري الإلزامي؟

رغم أن من المعقول جدًا طرح مثل هذا السؤال، فإن هذه ليست القضية الرئيسية وسط أرواح الماغامبا والأشخاص الذين يؤمنون بالمنطق الداخلي للطريقة التي تعمل بها. يتمثل جوهر المسألة في أن أرواح الماغامبا تعكس تناقضات عميقة للنجاة من حرب أهلية في المركز الذي جرى فيه القتال في تلك الحرب. هذه التناقضات تؤكد على أن الأفعال التعويضية في مرحلة ما بعد الحرب لا يمكن أن تكون مدفوعة بتصنيفات ثابتة، ›مرتكبين‹، ›ضحية‹، ›غير مشارك‹، ›جبان‹ وما إلى ذلك. إن النجاة من حرب طويلة يجبر الناجين على الاعتراف بمرونة الهويات الشخصية في زمن الحرب، وما يترتب على ذلك من الاعتراف بالحاجة إلى المرونة في وضع المفاهيم والتصورات لمرحلة ما بعد الحرب. إنها هذه القدرة على تصور وقبول مرونة، وغموض الهويات والتصنيفات التي تسمح للناجين من الحرب في غورونغوزا بتسوية صراعاتهم المتعلقة بالحرب.

في هذا السياق من الإقرار بالمرونة والقابلية للتحول، أي من المنظور الاجتماعي – الثقافي لشعب غورونغوزا، فإن استحالة طلب الروح للصفح بحد ذاتها هي التي توفر الإمكانية بالنسبة للأحياء كي يحققوا المصالحة والشفاء من خلال آليات العدالة التصالحية. يعود مرتكبو الانتهاكات والجرائم الكبيرة خلال الحرب كأرواح الماغامبا وكضحايا. إن صراع الأرواح يولد الفضاءات الاجتماعية التي يجتمع فيها الناجون من الحرب الذين كانوا ضحايا الانتهاكات وأولئك الذين ارتكبوا الانتهاكات، إضافة إلى عائلاتهم ومجتمعهم برمته معًا. في الفضاءات الاجتماعية التي يتم خلقها، تتم إعادة تمثيل عنف الماضي: يمكن التعبير عن الضغائن، والمرارة والاستياء في قلوب الناجين دون المخاطرة بإطلاق حلقات جديدة من الانتهاكات والعنف.

بشكل عام، ومن منظور إثنوغرافي، فإن أرواح الماغامبا تمثل (أ) التاريخ العنيف للمنطقة ولمجموع الأموات والأحياء: غامبا تتعلق بالأفعال المانهادزو (المخزية) في الحرب السابقة؛ (ب) إمكانية وجود مشاعر سلبية وذكريات سيئة بين الناجين من الحرب يتم تمريرها بطريقة إيجابية: عندما تخرج أرواح الماغامبا فإنها تكشف ما حدث؛ (ج) فضاء آمن واجتماعي للحوار المجتمعي وتغيير تركات الحرب المجتمعية: أرواح الماغامبا تهين الناس لأنها منزعجة جدًا مما حدث؛ (د) العدالة التصالحية من خلال تعويض كرامة الناجين الأفراد من الحرب وعائلاتهم الذين كانوا يعيشون حتى تلك اللحظة مع انقسامات ومحن عميقة: “سيتم حل مشكلتك”.

يتم تعزيز فكرة وممارسة العدالة التصالحية حيث إنه، وخلال إجراءات التعامل مع أرواح الماغامبا، فإن الوقائع الإثنوغرافية تكشف أن معالجي الغامبا لا يستخدمون، على سبيل المثال، المفاهيم المجتمعية للعلاج أو المداواة. بدلًا من ذلك، فإنهم يستخدمون مفاهيم قانونية مثل الكو تونغوا (الحكم)، وكو فوندزيسانا لوندزيوا (التحقيق المتبادل)، وكو بويكا (الاعتراف)، وكو ليبا (الدفع)، وكو ليكيريرا (الصفح) وكو فيرانا (التفهم).

عندما يتم استكشاف الزخم المتولد بواسطة أرواح الماغامبا اجتماعيًا وثقافيًا، فإن الضحايا الأفراد وعائلاتهم يصبحون قادرين على تحقيق المصالحة والاستمرار في حياتهم بكرامة واستقرار اجتماعي. يتضح ذلك بشكل جيد في حالة سينوريا. من جهة أخرى، عندما يستمر الإنكار بين الناجين من الحرب، فإن النتيجة تكون الحزن والمعاناة المستمرة. يتضح ذلك في حالة أميليا.

أخيرًا، ورغم هذه الأوجه الإيجابية، علينا أيضًا أن نتخذ مقاربة انتقادية لمحتوى الغامبا. إنها تنطوي على حمل تحامل قائم على النوع الاجتماعي. النساء اللاتي قتلن خلال الحرب الأهلية في موزمبيق لا يستطعن العودة كأرواح إلى عالم الأحياء للمطالبة بالعدالة. وحدها أرواح الرجال تستطيع فعل ذلك. وبهذا المعنى، ورغم أن أرواح الماغامبا تنفصل عن الصمت الماضي؛ من الناحية البنيوية فإن العدالة التي تقدمها تساعد في تعزيز السلطة الذكورية في بلد يصارع من أجل المساواة بين الجنسين. في هذا السياق، ثمة حاجة لتأسيس أجندة سياسية قائمة على معرفة اجتماعية – ثقافية راسخة لمعالجة التحيز الجنسي المفروض من قبل أرواح الماغامبا. إن الناجيات من الحرب والنساء بشكل عام في غورونغوزا، بحاجة لتدخلات تكميلية (خارجية) يمكن أن تمنحهن صوتًا وأداة ليس فقط في مجال المعالجة والمداواة ومن خلال لغة الأرواح، بل أيضًا في مجالات التنظيم الاجتماعي والقانوني والاقتصادي لمجتمعاتهن، بحيث يتمكنّ من الخروج من مأزقهن الراهن.

8. الخلاصة

وضعت اتفاقية السلام في موزمبيق حدًا لعنف الحرب الأهلية، وحررت الموزمبيقيين من حالات الرعب والأشكال المريعة من المعاناة الإنسانية. لكن من منظور العدالة الانتقالية، فإن اتفاقية السلام تستند إلى أسس غير عادلة بالمرة. من خلال ثقافة الإنكار، استبعدت النخب السياسية في موزمبيق أي عملية قانونية أو سياسية لإجراء جردة حساب للانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان والجرائم التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية.

في أعقاب حرب أهلية طويلة، فإن إجراء مصالحة بين عائلات ومجتمعات محلية انقسمت بعمق يعد مهمة معقدة للغاية. ويصبح التحدي أكثر صعوبة وحدّة عندما يترك أولئك الذين يتحملون مسؤولية مباشرة عن العنف من الناجين )الضحايا والمرتكبين السابقين( لتسوية صراعاتهم العميقة المرتبطة بالحرب بأنفسهم. إلاّ أنه، ورغم هذا الإهمال الرسمي والخذلان المتعمد، فإن الناجين من الحرب الذين يعيشون في البؤر السابقة للحرب الأهلية في غورونغوزا لم يلجأوا إلى الانتقام العنيف كما يصف ريتشارد ويلسون. فيما يتعلق بالبلدات في جنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، ولا سايروا السلطات الرسمية التي حثت الناجين على “الصفح والنسيان”. بدلًا من ذلك، وبوحي من حكمتهم الثقافية، فإن الناجين في غورونغوزا تمكنوا من تطوير آليات اجتماعية – ثقافية خاصة بهم للعلاج وتحقيق العدالة والمصالحة في أعقاب الحرب الأهلية.

من خلال ظهور أرواح ماغامبا، تم خلق فضاءات اجتماعية أُنقذ الماضي الدموي من خلاله من الصمت؛ وأجبر الأفراد، والعائلات وأفراد المجتمعات المحلية على الاجتماع لمعالجة تركات العنف. تعالج هذه الممارسات القائمة على الأداء والإجراءات التي تنطوي عليها الجراح المتعلقة بالحرب وتخلق شكلًا محليًا من العدالة التصالحية، التي تمنح الكرامة للناجين. من منظور سياسي، فإن الغامبا لا تشكل ردًا على فشل مؤسسات الدولة في تقديم اجراءات المساءلة كجزء من عملية العدالة الانتقالية في أعقاب الحرب الأهلية. تعد الغامبا جزءًا من تطوير تقاليد محلية راسخة لتسوية الحسابات مع تاريخ العنف الفردي والجماعي. عندما يقتل شخص بريء بشكل غير عادل، بصرف النظر عما إذا تدخل نظام العدالة العلماني وكيف كان كذلك التدخل، فإن روح القتيل تعود إلى عالم الأحياء لتسكن المرتكبين وعائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية. ما لم يتم أداء الطقوس المناسبة، فإن المرتكبين والمجتمع المحيط بهم سيعانون. وفي هذا الصدد، فإن أرواح الماغامبا تستحضر الأشكال الاجتماعية – الثقافية للعدالة والمصالحة في أعقاب ماض مرعب بشكل يسمح للمجتمعات المحلية التي مزقتها الحرب باحتواء العنف، وإعادة تأسيس النظام الاجتماعي وتعزيز الإحساس بالاستمرارية والهوية المجتمعية.

خلال عملية تحديد الأثر العام لأرواح الماغامبا في موزمبيق، يتضح أن هذه الأرواح والممارسات التي تستحضرها تحقق مساهمة حاسمة في الأشكال اليومية من إعادة بناء مؤسسات الدولة في موزمبيق في مرحلة ما بعد الحرب، من خلال تقديم الرعاية الصحية والوصول إلى أنماط معينة من الحقيقة والعدالة. علاوة على ذلك، فإن معالجي أرواح الماغامبا يعززون فكرة التعددية في المؤسسات الأفريقية المعنية بالعدالة والمصالحة والعلاج.

تنتمي العمليات الاجتماعية–الثقافية، مثل تلك التي يتم أداؤها من قبل أرواح ومعالجي الماغامبا إلى ما نسميه حقائق متشابكة؛ بمعنى أن أرواح ومعالجي الماغامبا تسمح للناجين بالحصول على العدالة، وهذا بدوره يحقق الشفاء والمصالحة في وسط موزمبيق.

لكن عند دراسة هذه الإنجازات المحلية المهمة، ثمة مخاطرة في استخدام الماغامبا وغيرها من الظواهر المماثلة في مرحلة ما بعد الحرب بشكل خاطئ من قبل النخب السياسية الوطنية. على سبيل المثال، يمكن للنخب السياسية أن تستخدم نجاح أرواح ومعالجي الماغامبا كذرائع لتبرير خياراتها في منح العفو في مرحلة ما بعد الحرب، والإفلات من العقاب والصمت. وتدور الحجة في هذه الحالة حول فكرة أن “الموزمبيقيين لديهم طريقتهم الخاصة”، وبالتالي ليس من الضروري إطلاق عمليات عدالة رسمية لمعالجة الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية والدكتاتورية الماركسية–اللينينية.

ما يؤكد هذا الموقف هو ما قاله الرئيس السابق جواكيم تشيسانو للصحفيين بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لاتفاقية السلام العامة، في 4 تشرين الأول/أكتوبر 2004 . نقل عنه الصحفيون الموزمبيقون معارضته لإجراء أي تحقيق في الجرائم الماضية: “لسنا بحاجة لمعرفة من قتل أكثر بين شخص وآخر”. أشارت الجريدة إلى أن ›تشيسانو كرر أنه يعارض تأسيس لجنة حقيقة ومصالحة، كما حدث في جنوب أفريقيا في حقبة “ما بعد الفصل العنصري”، للتحقيق في أي شيء يتعلق بالصراع المسلح في موزمبيق (…) وقال تشيسانو إن المصالحة في موزمبيق تتحقق بالطريقة الموزمبيقية مع إجراءات يومية، وإن هذا يحظى بالإشادة في سائر أنحاء العال. تشيسانو محق في تأكيده، حيث إن الظواهر الاجتماعية – الاقتصادية مثل تلك التي تمثلها أرواح الماغامبا تشهد على تجارب العنف المفرط خلال الحرب وتعبر عن الأشكال اليومية للانخراط في عدالة ما بعد الحرب الأهلية، والمصالحة والعلاج. إلاّ أن تشيسانو مخطئ في أمرين: أولًا، أنه يخلط بين مسؤوليات المجتمعات المحلية ومسؤوليات الدولة؛ وثانيًا، يخفق في تطوير مقاربة نقدية لـ “الطريقة الموزمبيقية” وللأفعال التي قامت بها النخب السياسية الوطنية فيما يتعلق بالماضي.

في المحصلة، فإن حقيقة أن الناجين من الحرب ينخرطون في أشكال يومية لتحقيق العدالة والمصالحة والعلاج، لا ينبغي أن تستخدم كذريعة لعدم قيام الدولة بواجبها حيال الماضي العنيف. إن مسؤولية الأفراد والعائلات التي نجت من الحرب داخل مناطق الحرب السابقة أمر، ومساءلة أولئك الذين كانوا مسؤولين مباشرة عن العنف غير التمييزي الذي أودى بحياة آلاف الأشخاص ودمر أجزاء واسعة من البلاد على مدى 16 عامًا أمر آخر. فيما يتعلق بالمساءلة في حقبة ما بعد الحرب، فإن رجل الدولة السابق، تشيسانو، ظل صامتًا. حتى الآن، لم تظهر أية مجموعات منظمة في المجتمع الموزمبيقي لتذكير السلطات السياسية بشكل مستمر بضرورة التحقيق في الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية. والنتيجة هي أن السياسيين، سواء من فريليمو أو رينامو، يستخدمون ذكريات الحرب الأهلية كأسلحة لتحقيق المكاسب السياسية.

المراجع وقراءات إضافية

Abrahamsson, Hans and Nilsson, Anders, Moçambique em transição [Mozambique in transition], transl. Dulce Leiria (Gothenburg: PDRI and Maputo: CEEI-ISRI, 1994)

Amadiume, Ifi, ‘The Politics of Memory: Biafra and the Intellectual Responsibility’, in Ifi Amadiume and Abdullahi An-Na’im (eds), The Politics of Memory: Truth, Healing and Social Justice (London: Zed Books, 2001), pp. 38–55

Baptista-Lundin, Irae, ‘Uma leitura analítica sobre os espaços sociais que Moçambique abriu para colher e cultivar a paz’ [A reading of the social spaces that Mozambique opened to receive and cultivate the peace], in Brazão Mazula (ed.), Moçambique: 10 anos de paz [Mozambique: ten years of peace], Vol. I (Maputo: CEDE, 2002), pp. 96–139

Boletim da República, series I, no. 42, Quarta Feira, 14 October 1992. Supplement

Cohen, Stanley, States of Denial: Knowing about Atrocities and Suffering (Cambridge: Polity Press, 2001)

Coelho, João Paulo, ‘Da violência colonial ordenada à ordem pós-colonial violenta: Sobre um legado das guerras coloniais nas ex-colónias Portuguesas’ [From ordered colonial violence to the violent post-colonial order: a legacy of the colonial wars in the ex-Portuguese colonies], Lusotopie, 2003, pp. 175–93

Diário de Moçambique (Maputo), 5 October 2004

Dolan, Chris and Schafer, Jessica, The Reintegration of Ex-combattants in Mozambique: Manica and Zambezia Provinces, Final Report to USAID Mozambique (Oxford: Refugee Studies Programme, 1997)

Hanlon, Joseph, Who Calls the Shots? (Bloomington, Ind.: Indiana University Press, 1991)

Hayner, Priscilla, Unspeakable Truths: Confronting State Terror and Atrocity (New York: Routledge, 2001)

Honwana, Alcinda, ‘Spiritual Agency and Self-renewal in Southern Mozambique’, PhD thesis, School of Oriental and African Studies (SOAS), London University, 1996

Igreja, Victor, ‘Why Are There So Many Drums Playing until Dawn? Exploring the Role of Gamba Spirits and Healers in the Post-war Recovery Period in Gorongosa, Central Mozambique’, Transcultural Psychiatry, vol. 40, no. 4 (2003), pp. 459–87

Igreja, Victor and Dias-Lambranca, Beatrice, ‘The Social World of Dreams and

Nightmares in a Post-conflict Setting’, Intervention, vol. 4, no. 2 (2006), pp. 145–7

Igreja, Victor, Kleijn, Wim and Richters, Annemiek, ‘Women’s Posttraumatic Suffering after the War in Mozambique’, Journal of Nervous and Mental Disease, no. 194 (2006), pp. 502–9

Jacobson, Ruth, ‘Gender, War, and Peace in Mozambique and Angola: Advances and Absences’, in Dyan Mazurana, Angela Raven-Roberts and Jane Parpart (eds), Gender, Conflict, and Peacekeeping (Lanham, Md: Rowman & Littlefield, 2005), pp. 134–49

Machel, Samora (President), Inaugural speech for the Reunião dos Comprometidos, Maputo, 2 July 1982 (1982a) (author’s translation)

Concluding speech for the Reunião dos Comprometidos, Maputo, 7 July 1982

(1982b) (author’s translation)

Thomashausen, André, ‘Mozambique: A Case Study’, Paper presented at the Conference on Politics of Identity and Exclusion in Africa, University of Pretoria, 2001, available at <http://www.kas.de/db_files/dokumente/7_dokument_dok_ pdf_5094_2.pdf>

Wieviorka, Annette, The Era of the Witness, transl. Jared Stark (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 2006)

Wilson, Richard, The Politics of Truth and Reconciliation in South Africa (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).

الفصل الرابع

شمال أوغندا: الممارسات القائمة على أساس التقاليد في منطقة آشولي

جيمس أوجيرا لاتيكو*

تستند الأعراف والقيم الثقافية، التي تكون في كثير من الأحيان في جوهر التنمية البشرية والتعايش القائم على الوعي، وتترابط حول جملة محددة من المبادئ التي توجه السلوك الإنساني بطرق إيجابية. ولذلك، فإن اللجوء إلى الثقافة لا ينبغي أن ينظر إليه من خلال عدسة تصوّر السمات البدائية، بل بطريقة تمكن من تحديد القيم التي ستكون مفيدة للبشرية.

1. الصراع

1. 1. تسلسل زمني وصفي

منذ استقلالها عام 1962، شهدت أوغندا أعمال عنف ذات طبيعة عرقية تم استغلالها سياسيًا، ويشار إليها من قبل البعض على أنها “حلقات من العنف وانعدام الثقة”. لا تزال الانقسامات ذات الجذور العميقة والاستقطاب موجودين بين مختلف المجموعات العرقية، وقد تفاقمت بسبب الطريقة التي تطورت بها البلاد منذ الاستقلال. القيادة الحالية المتمثلة في حركة المقاومة الوطنية موجودة في السلطة منذ 21 عامًا، وبدأت مؤخرًا فقط بفتح الفضاء السياسي بعد 19 عامًا من الحكم الأحادي. أدت هيمنة حركة المقاومة الوطنية إلى ظهور مجموعات مقاتلة أو ميليشيات ذات أساس عرقي وتأسيس بعض الهيكليات العسكرية الفريدة ذات الطابع الشخصي وغير المؤسساتية. في الماضي القريب، دفعت كل هذه العوامل المسألة العرقية إلى المقدمة لتبرير الادعاء الأيديولوجي بامتلاكها قاعدة دعم شعبية. لقد كثرت الاتهامات بالتنازع على السلطة بين المجموعات العرقية والمناطقية وكذلك كثرت المواجهات الناجمة عن ذلك؛ وينعكس كل ذلك في صراعات مسلحة متتالية يدور أعنفها وأكثرها تدميرًا واستمرارية في شمال أوغندا.

من أجل وضع المشاكل التي تعاني منها البلاد وخصوصًا شمال أوغندا في سياقها الصحيح، علينا أولًا أن نبرز السياق التاريخي والسياسي.

(*) لمراجعة نسخة موسعة من هذا الفصل، انظر www.idea.int/rrn. لم يعد الرابط قائمًا في سنة ترجمة الكتاب – المترجم(.

1. 1. 1. الجذور التاريخية: المكانة العسكرية المتصوَّرة للشماليين

رأى المستعمرون البريطانيون في الجزء الشمالي من أوغندا كونها منطقة “مشاكل”. ووصفت حينذاك بأنها “منطقة مضطربة، وعدائية، كان فيها بعض القبائل القوية بما يكفي لاظهار مقاومة صلبة وطويلة” لاحتلالهم. عندما قرر البريطانيون السيطرة على الشمال، فعلوا ذلك بسبب مخاوفهم الأمنية، من أجل تأمين جنوب وغرب البلاد، وهي المنطقة التي كان البريطانيون قد احتلوها وأرادوا إقامة إدارة فيها. ولذلك، فحتى عام 1921، كانت المنطقة المسماة الشمال تحت الاحتلال العسكري للحامية العسكرية الشمالية، وتم فرض القوة والسلطة على المنطقة ›التي لم يكن للقبائل مكانة فيها”. بعد الحرب العالمية الأولى، استخدم الآشولي كجزء من السياسة البريطانية المتمثلة في “فرق تسد” عندما سعى البريطانيون “لتهدئة” الشمال بإحداث الفتنة بين النوبيين (وهم قبيلة عرقية تقطن جنوب السودان) واستخدمت لشن حملات عقابية ضد اللانغو، وهي مجموعة عرقية قريبة من الآشولي، والباغاندا (وهي مملكة قائمة في جنوب أوغندا) وضد البانيورو (وهي سلالة قوية من اللو ترتبط بالآشولي). تعود الأسطورة التي خلقها البريطانيون عن شعب الآشولي في الشمال على أنهم “قبيلة عسكرية” إلى ذلك الوقت. وتستند الأسطورة بشكل كامل إلى التحامل وإساءة عرض الوقائع، واستخدمت لأسباب سياسية. سابقًا، كان الآشوليون يعتبرون أعداء وليسوا “عسكريين” بما يكفي للمشاركة في حروب البريطانيين. أما الآن، فقد بدأ البريطانيون يجندونهم، وإن كان ذلك قد حدث عن طريق تقديم إغراءات للزعماء القبليين، الذين كان يدفع لهم ثلاث روبيات عن كل مجند آشولي في الحرب. وعندما تم تجنيدهم في الجيش بأعداد كبيرة، كان ذلك بسبب الظروف الاقتصادية في آشولي أكثر مما كان لأسباب ثقافية. تراجعت أعدادهم في الجيش بشكل ملحوظ في خمسينيات القرن العشرين، عندما أصبح هناك أعداد كبيرة من المجندين من اللانغو والايتيسو (وهي مجموعة عرقية نيلو-هرميتية في شرق أوغندا).

1. 1. 2. تجربة ما بعد الإستعمار

إن استمرار الأسطورة التي اخترعها البريطانيون حول الآشولي بوصفهم ›قبيلة عسكرية‹ وسياسة “فرق تسد” التي استخدمها المستعمرون البريطانيون، مسؤولة جزئيًا عن التمهيد للاضطرابات التي عصفت بالمنطقة لاحقًا. استغلت النخب السياسية في حقبة ما بعد الإستعمار الحجج المستخدمة لدعم هذه الأساطير والانقسامات العرقية التي تأسست عليها، وبدأت باستخدامها، دون وازع، كوسيلة للاستغلال السياسي لتحقيق مصالحها الخاصة. وكانت نتيجة هذه الخطة – اللعبة السياسية نشوء العديد من الصراعات المسلحة التي مرت بها البلاد.

منذ الاستقلال عام 1962 وحتى تاريخه، بعد 45 عامًا، تعاقب على حكم أوغندا تسعة رؤساء ولفترات مختلفة. الدكتور ملتون أوبوتي، الذي استلم مقاليد السلطة من البريطانيين عند الاستقلال، أصبح أول رئيس يتمتع بصلاحيات تنفيذية وأسس للنزعة التي استمرت في القيادات اللاحقة. أصبح، بشكل ما، الراعي للرؤساء الذين أتوا بعده، بمن فيهم عيدي أمين ويويري موسيفيني. أوبوتي وعيدي أمين وتيتو أوكيلو لوتوا، الذين تحدروا جميعًا من شمال أوغندا، كانوا رؤساء دولة لمدة 21 عامًا فيما بينهم، وهي فترة طويلة من الزمن تجاوزها فقط حكم موسيفيني، الذي لا يبدو أن هناك نهاية متوقعة لحكمه. حدثت نقطة تحول مهمة في تحول القيادة في أوغندا إلى قيادة استغلالية عام 1967، عندما ألغى أوبوتي دستور الاستقلال الذي مهد لظهور الدستور الجمهوري (الذي يشار إليه عادة بـ “دستور عش الحمام”) الذي منح الرئيس أدوات ممارسة صلاحياته التنفيذية طبقًا لنزواته. بات بإمكانه ترفيع ونقل وطرد ونشر ضباط/ قادة الجيش حسب مشيئته.

مهد ظهور السياسات الاستغلالية الطريق أمام تنامي العسكرة والصراعات المسلحة في البلاد. المربع 4 يعطينا التسلسل الزمني لأحداث مهمة منتقاة.

المربع 4: خلفية الصراعات في أوغندا منذ الاستقلال

1966: يحدث الصراع المسلح الداخلي الأول. قاد الجنرال عيدي أمين دادا، الذي كان قائدًا عسكريًا خلال أول فترة رئاسية لملتون أوبوتي، عملية عسكرية على قصر لوبيري، مقر مملكة بوغاندا، ما دفع الملك فريدريك إدوارد موتيزا الثاني إلى الهرب إلى المنفى. يؤدي هذا إلى انتهاك مملكة بوغاندا، وما تلا ذلك من تفكيك جميع المؤسسات الثقافية في البلاد.

1971: الجنرال عيدي أمين يقوم بانقلاب عسكري للإطاحة بحكومة المؤتمر الشعبي الأوغندي بقيادة ملتون أوبوتي، وبدأ بذلك تسع سنوات من الدكتاتورية العسكرية الوحشية، التي يقدر أن 500.000 شخص قتلوا خلالها، وبشكل أساسي من الآشولي.

1979: بعد قيام أمين بغزو إقليم كاجيرا في تنزانيا المجاورة عام 1978، قامت قوات الدفاع الشعبي التنزانية، مع الأوغنديين في المنفى (والعديد منهم من شمال أوغندا) بشن حرب تحرير أطاحت بالنظام العسكري للمارشال الدكتور عيدي أمين دادا، قاهر الإمبراطورية البريطانية، والرئيس مدى الحياة، وهي الألقاب التي أعطاها لنفسه.

1979-1980: تنشأ خلافات إدارية، وصراعات على السلطة وانتقال للسلطة بعد سقوط أمين، وبلغ ذلك أوجه في الانتخابات العامة في عام 1980، التي “فاز” بها حزب أوبوتي، المؤتمر الشعبي الأوغندي، وبالتالي بداية فترته الثانية كرئيس. يزعم بأن الحزب الديمقراطي هو الذي فاز، وسط مزاعم بتزوير الأصوات على نطاق واسع تدفع مجموعات أخرى، بقيادة يويري موسيفيني، لحمل السلاح في أدغال لويرو لشن حرب طويلة على حكومة المؤتمر الشعبي الأوغندي المنتخبة.

1980 – 1986: تندلع عدة انتفاضات (ليس على نطاق كبير) تشترك فيها مختلف المجموعات المسلحة، حتى عام 1985 عندما تمكن جنود متمردون في الجيش الوطني من الإطاحة بحكومة أوبوتي الثانية وشكلوا لجنة عسكرية، يرأسها الجنرال تيتو أوكيلو لوتوا (أيضًا من الشمال) لحكم البلاد. يشرع رئيس الدولة الجديد بحكم الأمر الواقع مباشرة في مفاوضات شاملة مع مختلف المجموعات المتصارعة فيما بات يعرف بمحادثات سلام نيروبي، وفي كانون الأول/ ديسمبر 1985 يتم التوصل إلى اتفاق توقعه جميع الأحزاب باستثناء جيش المقاومة الوطنية المتمرد بزعامة موسيفيني. يمزق هذا الجيش الاتفاق وينتهكه دون خشية من التبعات. في كانون الثاني/يناير 1986 يطيح جيش المقاومة الوطنية بالحكومة بقوة السلاح، وينصب حركة المقاومة الوطنية في السلطة، والتي لا تزال فيها حتى اليوم. تطرح المؤسسة الجديدة أيديولوجية يشار إليها بشكل دوغمائي على أنها برنامج النقاط العشرة، ظاهريًا لإحداث “تغيير جوهري” في حكم البلاد. ويبدو أن حقبة جديدة تنفتح أمام الشعب الأوغندي، إلا أن التفاؤل الظاهري يخفي قدرًا متزايدًا من الاستبداد من قبل قيادة حركة المقاومة الوطنية. الوضع لا يزال بعيدًا عن المثالية اليوم. منذ عام 1987 وحتى الآن، حدثت سلسلة من حركات التمرد والانتفاضات (بلغ عددها 22) ضد حكومة حركة المقاومة الوطنية قام بها مختلف اللاعبين.

منذ بدايته عام 1986، مر الصراع في شمال أوغندا بمراحل وتحولات مختلفة، حيث تشكلت عدة مجموعات لقتال حكومة الجنرال يويري كاغوتا موسيفيني. وقد ضمت هذه المجموعات جنود جيش التحرير الوطني الأوغندي (الجيش الذي تشكل للإطاحة بنظام عيدي أمين)؛ والجيش الشعبي الديمقراطي الأوغندي الذي يقوده العميد أودونغ لاتيك؛ وقوات الروح القدس المتحركة، بقيادة ›نبية‹ وهي أليس أوما لاكوينا (التي توفيت في شباط/ فبراير 2007 في مخيم للاجئين في كينيا)؛ حركة الروح القدس الثانية بقيادة والد أليس، سيفيرنو لوكويا؛ والجيش الديمقراطي المسيحي الأوغندي، بقيادة جوزيف كوني، الذي غير اسمه عام 1991 إلى جيش الرب للمقاومة الذي لا يزال نشطًا، مع تبعات مدمرة، بما في ذلك عبر الحدود الوطنية أيضًا.

منذ توقيع الاتفاقية بين الجيش الشعبي الديمقراطي الأوغندي وحكومة الجيش الوطني للمقاومة في ملعب بيسي الرياضي عام 1988، حدثت تحولات متتابعة في الصراع، من تمرد جيش التحرير الوطني الأوغندي/الجيش الشعبي الديمقراطي الأوغندي إلى حالات التمرد التي تلت. ليس من “العلمي” ولا من المتسق بالمعنى “السياسي” التعميم بالقول، إن الحرب في آشولي لاند نشأت من بقايا نظامي أمين وأوبوتي، كما فعل عدد كبير من المؤلفين. بصرف النظر عن حالات عدم الدقة في الوقائع، فإن مثل تلك التعميمات لا تأخذ بالاعتبار التحولات السياسية والروحية العديدة التي طرأت على الصراع. هذا الافتقار لفهم تعقيدات الصراع في شمال أوغندا هو الذي يفسر جزئيًا استمراره وطول أمده. لقد كانت هناك ثلاث مراحل رئيسية في الصراع: أولًا، الحرب التي شنها جنرالات جيش التحرير الوطني الأوغندي/ الجيش الشعبي الديمقراطي الأوغندي في الفترة 1986 – 1988؛ ثانيًا، تمرد فلاحي بوحي روحي بقيادة أليس أوما؛ وثالثًا، تحول حركة الروح القدس المتحركة والجيش الديمقراطي المسيحي الأوغندي إلى جيش الرب للمقاومة بقيادة كوني. لكل من هذه المراحل فحواها وأثرها، ورغم أنه كان هناك بعض الاستمرار في هذه الصراعات، فقد كان هناك انقطاعات أيضًا، ينبغي دراستها تحليليًا. تلقي العوامل الداخلية والإحباط العميق الناجم عن ديناميكيات الصراع الضوء على عدد من التطورات في أوغندا. تم التخلي عن حالات التمرد المعزولة المبكرة التي كانت رد فعل على أعمال المضايقة والقتل التي قام بها الجيش الوطني للمقاومة، أو سحقت أو تحولت إلى قوة جديدة. هذه التحولات تلقي الضوء على الأسباب الداخلية للصراع.

2. 1. أسباب الصراع

ليس هناك أي إجماع على أي رواية نظرية أو وقائعية لأسباب الصراع في شمال أوغندا، والذي لا يزال إلى حد بعيد دون حل. لقد أدى طول فترة الصراع وديناميكياته إلى توليد عوامل تدخل أدت إلى الطغيان على الأسباب الرئيسية وإدامة الصراع. وبالتالي، لم يكن هناك اتفاق عام حول ما إذا كان ينبغي تسوية الصراع عسكريًا أو من خلال الحوار. إذا أردنا التوصل إلى إستراتيجية ودية ووفاقية لتسويته، علينا تحديد وفهم الأسباب البنيوية للصراع، وأسبابه المباشرة والعوامل التي أدامته.

بشكل عام، يمكن الافتراض بأن أسباب الصراع الأهلي في أوغندا، وخصوصًا في شمال أوغندا، تشمل تفاعلًا لعوامل رئيسية بضمنها الهيمنة العرقية (أو الاستقطاب)، التي تؤدي إلى التنميط والكراهية وتشكيل الصور المعادية؛ التفاوتات الاقتصادية (التهميش) و/أو ضعف التنمية، التي تفاقم حدة الفقر؛ الأنظمة المتذبذبة، والديمقراطية الزائفة والاستبدادية؛ وغيرها من العوامل التي تضيف التعقيد على طبيعة الصراع. نقدم فيما يلي لمحة موجزة عن هذه العوامل. غير أن المصدر الرئيسي للشرور في أوغندا كان (ولا يزال) السلطة المطلقة غير الخاضعة لأية قيود.

1. 2. 1. العرقية والنمطية والكراهية وصور العدو

لقد سعى معظم المعلقين إلى تصوير الصراع على أنه يعكس الانقسام بين الشمال والجنوب، ويشرحون ذلك من حيث السياسة الاستعمارية سيئة السمعة المتمثلة في “فرق تسد”، والتي نفذت باقتدار ودون عقاب، سواء من قبل القوى الاستعمارية أو من قبل الأنظمة ما بعد الاستعمارية. تشكل الكيان الاستعماري الذي يسمى أوغندا من قوميات ومجموعات عرقية متنوعة. ولإدارة هذا التنوع بطريقة تتلاءم مع المصالح الإمبريالية، وضعت آليات لقيادة المجموعات العرقية والقوميات المختلفة لترى بعضها على أنها متمايزة بوضوح، وفي بعض الأحيان معادية لبعضها البعض. لقد كان جزء من الأسباب البنيوية للصراع في أوغندا يفسر على أنه متجذر في “تنوع المجموعات العرقية التي كانت على مستويات مختلفة من التنمية الاجتماعية – الاقتصادية والتنظيم السياسي”.

غذت السياسة الاستعمارية المعروفة بـ “فرق تسد” التحاملات النمطية وإساءة تقديم الوقائع على أنها أسباب سياسية. وقد كان هذا السبب الرئيسي لقيام الكيانات السياسية منذ الاستقلال بتسييس العرقية، كأداة تستطيع بوساطتها الاحتفاظ بالسلطة السياسية في البلاد. تنشأ التصنيفات النمطية مثل “التخلف”، و”البدائية” و”الجهل” وصور العدو ووصمه التي تطبق، في كثير من الأحيان، على الشماليين من القبلية السياسية غير المبدئية التي تتنافس معها المجموعات على الموارد العامة. حتى المسؤولين الحكوميين نزعوا إلى تشريع القمع بعبارات عرقية. طبقًا للصحافة المحلية، فإن الرئيس موسيفيني نفسه تحدث عن الآشولي على أنهم جنادب في قنينة ›سيأكلون بعضهم بعضًا قبل أن يعثروا على مخرج‹. هذه الملاحظة البائسة ولّدت قدرًا كبيرًا من المشاعر في أوساط شعب الآشولي، وأضافت إلى الشعور بأن الحرب في شمال أوغندا كانت مصممة كأداة للحكم الانتقامي.

لقد زرع التصوير العدائي درجة عالية من انعدام الحساسية، إلى حد أن الأشخاص الذين يصورون على أنهم أعداء يمكن أن يفكر بهم المرء ويتجاهلهم على أن وجودهم لا يهم على الإطلاق. نقلت الصحافة عن وزير سابق، كان شخصية رئيسية في فريق السلام الرئاسي الذي شكل عام 2002، في خطاب له أمام الزعماء المحليين في لانغو حول الأعمال الوحشية التي ارتكبت من قبل جيش المقاومة الوطنية في المقاطعات الشمالية غولو وكيتغوم وليرا وأباك وتيسو، أنه حذرهم من أنهم “ليس لهم أي قيمة طالما ظل الجنوب مستقرًا”. لقد ولد شعور الشماليين بالخذلان قدرًا هائلًا من انعدام الثقة بأية مبادرات تقدمها الحكومة للمتمردين.

تعزو بعض الحجج استخدام هذه الإستراتيجية من قبل حركة المقاومة الوطنية/جيش المقاومة الوطنية إلى “مثلث لويرو” في وسط أوغندا، الذي كان مسرحًا لحرب المتمردين من عام 1980 إلى مطلع عام 1986، من أجل حشد الدعم الشعبي. في الواقع، فإن الدافع الكامن وراءها كان بشكل أساسي “الجشع الذي لا حدود له على السلطة السياسية” وفي ازدراء كامل للوسائل الديمقراطية.

1. 2. 2. التفاوتات الاقتصادية والتهميش والفقر وانعدام التنمية

رغم أن القيادات العليا في أوغندا بين عامي 1962 و1985 كانت من شمال أوغندا، فإن المنطقة ظلت مهمشة اقتصاديًا. وينعكس هذا بقدر كبير من انعدام التوازن بين مستوى التنمية والاستثمار في شرق وشمال أوغندا ومثيله في وسط وغرب أوغندا، التي يعتقد أنها أرض الحليب والعسل. لقد نجم عن هذا التهميش، المتعمد أو غير المتعمد، درجة أكبر من الفقر في الشمال.

رغم أن الفقر يعامل بعض الأحيان على أنه عامل تصعيد يؤدي إلى الاستياء في المجتمع، فإن دوره في الصراع في شمال أوغندا يعد جزءًا لا يتجزأ من العوامل البنيوية الكامنة للصراع. يشير تقرير حالة الفقر، 2003  إلى أن “ثلث الفقراء المزمنين (30.1 بالمئة) ونسبة غير متناسبة “من أولئك” الذين ينتقلون إلى خانة الفقر هم من شمال أوغندا”. ويمثل هذا 7 بالمئة من إجمالي عدد سكان البلاد.

في أوساط الشباب، تدفعهم البطالة وحدها إلى العنف لتحقيق المكاسب الاقتصادية. ينبغي أن يوجه أي تدخل تنموي في الشمال إلى تقديم وسائل بديلة لكسب الرزق من أجل زيادة كلفة اللجوء إلى العنف، لأن الناس سيصبح لديهم عمل يكسبهم الرزق بشكل يعزز رهانهم على مجتمع مستقر.

1. 2. 3. دولة تزداد ضعفًا؟

تعد الطبيعة الضعيفة وغير المستقرة للدولة عاملًا رئيسيًا ومصدرًا للمظالم في شمال أوغندا. حدثت الانتفاضات المتزامنة في منطقة كيسو في شرق أوغندا ومنطقة آشولي عام 1987 في وقت كانت الظروف السياسية والاقتصادية ›ضعيفة على الأرض‹. وقد فاقم من ذلك الأعمال الوحشية التي ارتكبت ضد السكان من قبل جيش المقاومة الوطنية. كانت شرعية حكومة حركة المقاومة الوطنية/جيش المقاومة

الوطنية مثلومة، لأنها فشلت في تحمل مسؤوليتها في حماية السكان. وطرحت قضية الشرعية السياسية في تقرير برلماني عام 1997: “السؤال، الذي يقلق الكثيرين، هو ما إذا كان هناك سلطة شرعية مهمتها حماية حياة وممتلكات مواطنيها. كما يتساءل المرء عما إذا كانت القوات الحكومية تعرف ما تفعله في قمعها لحالات التمرد بالنظر إلى سجلها السيء في انتهاكات حقوق الإنسان”.

أوجد فشل الحكومة في تحمل مسؤوليتها في “حماية” مواطنيها فراغًا يمكن استغلاله من قبل لاعبين مختلفين، قد يكونون انتهازيين سياسيين أو عصابات إجرامية، أو مسلحين يسعون للحصول على السلطة السياسية أو فرص للنهب.

برز جوزيف كوني وجيش الرب للمقاومة بعد اتفاقية أديس أبابا لعام 1988 بين حكومة موسيفيني والجناح السياسي للجيش الشعبي الديمقراطي الأوغندي واتفاق ملعب بيسي الذي تلاه، أيضًا عام 1988، ما مكن معظم المقاتلين من الاندماج في جيش المقاومة الوطنية. شكل بروز هؤلاء تجليًا لفقدان الحكومة للشرعية التي كانت قد فشلت في حماية مواطنيها من الأعمال الوحشية التي ترتكب من قبل المتمردين والقوات الحكومية؛ وبدأ جيش الرب للمقاومة بتحدي تلك السلطة الغامضة والطعن فيها. عندما استغلت المؤسسة في السودان جيش الرب للمقاومة وبدأت بمنحه الدعم عام 1994، كانت سلطة الحكومة قد ضعفت أكثر، ما أدى إلى كابوس في الحكم في مناطق الصراع.

1. 2. 4. عوامل تسهم في التعقيد وملاحظات ختامية حول الأسباب

في أعقاب هذه التطورات، دخلت عوامل أخرى أضافت إلى التعقيد في الحرب في آشولي لاند تمثلت في اللجوء إلى القوى الروحية غير المرئية لتطهير الشرور. أصبح هذا “امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى”، حيث إن السياسة “العادية” لم توفر مجالًا أو آلية للتعامل مع المشاكل التي تزداد تعقيدًا في آشولي لاند خصوصًا وفي أوغندا عمومًا. أُشرك اللاعبين الروحيين من خلال الوسائل الميتافيزيقية لتفسير الأحداث وتوفير أساس أخلاقي لأشكال جديدة من العمل، من أجل إحداث شيء يقترب من النظام الأخلاقي.

كما أن الأفعال الاستبدادية للقيادة السياسية في أوغندا، وفرت الظروف المسبقة لانعدام الثقة والشك بين المجتمعات المحلية المختلفة في البلاد. وفر انعدام الثقة (ولا زال يوفر) الأساس لمتلازمة الانتقام في نفسية العديد من الأشخاص في أوغندا. تجادل الدراسات الاجتماعية – النفسية للسلوك الجماعي، وبقوة، بأن مشاعر الحرمان والإحباط يمكن أن تطفو وتضخم المسار العنيف للأحداث، خصوصًا عندما تكون الأسلحة الصغيرة والخفيفة متوافرة بسهولة.

سعت الحكومة الأوغندية إلى تجاهل الصراع في الشمال بوصفه مشكلة ثانوية تتعلق بانعدام الأمن الذي يسببه مجرمون وإرهابيون، وبدعم من انتهازييين في البلدان المجاورة. باتت الدعاية الحكومية تشكل ذخيرة لإفشال التفاهمات والشروحات المقدمة لوجهات نظر المتمردين، وأجندتهم وبرامجهم السياسية.

لقد نشر جيش الرب للمقاومة على الأقل ثلاثة بيانات بتاريخ 4 نيسان/أبريل 1996، و1998 و1999. بنى البيان الأخير على البيانين السابقين لكنه أضاف عددًا من القضايا. احتوى بيان عام 1996 على عشرة أهداف: استعادة السياسة متعددة الأحزاب؛ تأسيس فيدرالية دستورية؛ تعزيز حقوق الإنسان؛ التوازن الاقتصادي في سائر أنحاء البلاد؛ ترسيخ السلام والأمن في سائر أنحاء البلاد؛ وضع حد للفساد؛ الانتخابات الحرة والنزيهة؛ العلاقات الطيبة مع البلدان المجاورة؛ فصل الفرع العسكري عن الفروع القضائية والتنفيذية للحكومة؛ وإصلاح البرلمان لتمكينه من التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية الحرجة في البلاد. في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2003 ، قال العميد سام كولو، المفوض السياسي لحركة الرب للمقاومة، في مقابلة مع محطة إذاعية محلية اسمها إذاعة رينو في بلدة ليرا في شمال أوغندا، في إشارة منه إلى حقيقة أن حركة الرب للمقاومة/جيش الرب للمقاومة يرى في الصراع في شمال أوغندا جزءًا من “حرب شعبية” طويلة لإزاحة “الحكومة الدكتاتورية للجنرال موسيفيني من السلطة” و”استعادة سيادة القانون”. وأشار إلى أن “جيش الرب للمقاومة ليس منظمة إرهابية. إنه حركة تحرر”. واستخدمت كلمة إرهابي لأن أي شخص يعارض حكومة الجنرال موسيفيني يعتبر إرهابيًا. هذه دعاية جيش المقاومة الوطنية التي يريد بعض أصدقاء موسيفيني في المجتمع الدولي تصديقها.

تعد القضايا/ الحجج المقدمة من قبل جيش الرب للمقاومة، والتي اعتقد أنه تم استيعابها بمرور الوقت، انعكاسًا مهمًا للتاريخ السياسي المضطرب الذي شهدته أوغندا على مدى الجزء الأكبر من فترة ما بعد الاستقلال. نظرًا لأن جيش الرب للمقاومة هو أحد منتجات هذا التاريخ المضطرب، لم يكن بوسعه أن يتصور هذه المظالم في البداية. لكن، وكونه ظل قوة معارضة بارزة على الحكومة أن تتعامل معها، فإنه من الطبيعي أنه أصبح حامل لواء جميع القضايا الإشكالية والمظالم التي ترفعها مجموعات “المعارضة” السياسية في حكم البلاد.

كانت الحكومة الأوغندية من جهتها مبادِرة ونشطة في نشر وجهة النظر القائلة بأن المتمردين كانوا عبارة عن عصابات إجرامية، واعتبرت خيار استخدام القوة العسكرية لسحقهم متاحًا، أو في أفضل الأحوال، بسبب مطالب الزعماء المحليين، “العفو” عنهم. بعد ضغوط كبيرة من قوى أخرى فقط (خصوصًا حكومة جنوب السودان، التي عرضت وساطتها)، وافقت الحكومة على مضض على المشاركة في جولة جديدة من محادثات السلام. وهكذا ظهرت مطالب جديدة للمتمردين وسُمعت مع بداية محادثات السلام في جوبا، التي بدأت في تموز/يوليو 2006.

هكذا، ومن حيث فهم أو توقع أو حتى السيطرة على عوامل المخاطرة المسؤولة عن التسبب بتغيير شكل الصراع وإدامته، فإن المجتمع الدولي خرج بمنظور دعائي أحادي، يركز على دور الدولة والاعتبارات القانونية والعسكرية. انعكس هذا بوضوح في بيان للإدارة الأميركية، نص على أن “الصراع المسلح مدعوم من أقلية صغيرة جدًا من السكان ولا يشكل تهديدًا للحكومة الحالية، لكنه يقوض الأمن وسيادة القانون والنمو الاقتصادي”. تم تحضير المشهد للحكومة الأوغندية وبعض حلفائها الدوليين للدفع بحل عسكري، لأن كوني، قائد جيش الرب للمقاومة، ليس لديه على ما يفترض تبرير للذهاب إلى الحرب، حيث يعتقد أن دوافعه لا تتعدى الاستمرار في النهب والعمليات الوحشية التي يقوم بها المتطرفون. لكن في تلك الحالة، دخل الجميع في مأزق عسكري، مع تبعات خطيرة وآثار مدمرة على السكان الفقراء.

إن الخيار الذي يتم اتباعه في تسوية هذا الصراع، إما أن ينقذ حياة الناس وينهي معاناتهم الطويلة أو أنه سيطيل اضطهادهم الصامت وحسب.

1. 3. درجة تدويل الصراع

لقد أثبت الصراع في شمال أوغندا أنه جزء من ›ممر الصراع‹ المزمن الذي يشمل القرن الأفريقي ومنطقة البحيرات العظمى في أفريقيا، ويشكل تجليًا لـ “الحروب الجديدة” التي جلبت العذاب لأفريقيا جنوب الصحراء. (لقد تولد عن أبحاث الصراعات مفهوم “الحروب الجديدة”، استنادًا إلى دراسة لنمط الحروب، وأهداف وموارد الصراعات التي جرت في أنغولا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ليبيريا، سيراليون، الصومال، السودان، أوغندا، وأماكن أخرى. يعتقد أن أفريقيا تشهد حروبًا تتغذى على الهويات الاجتماعية – العرقية البدائية وأنظمة الاعتقاد في ما وراء الطبيعة، والافتقار ضمنًا إلى أجندات أيديولوجية واضحة. يتم تشخيص أهداف هذه الحروب على أنها غريبة وغير عقلانية، بل مجنونة. وفي كثير من الأحيان يستخدم نفس التشخيص لوصف القادة أنفسهم).

أصبح العنصر الخارجي في الصراع في شمال أوغندا ذا صلة مباشرة اعتبارًا من آب/أغسطس 1986، عندما انسحب الضباط السابقون في جيش التحرير الوطني الأوغندي الذين فقدوا السلطة في كمبالا إلى جنوب السودان وسعوا للحصول على ملاذ آمن هناك. نقل الهجوم على مخيم اللاجئين من قبل قوات حركة التحرير الشعبية السودانية/جيش التحرير الشعبي الصراع خارج الحدود الوطنية، إضافة إلى التمرد الداخلي. دفع هذا ضباط جيش التحرير الوطني الأوغندي إلى طلب الدعم من السودان لإطلاق أول عملية مقاومة لهم ضد حكومة حركة المقاومة الوطنية. في وقت لاحق، تلقى جيش الرب للمقاومة دعمًا سياسيًا وعسكريًا من الحكومة السودانية، التي زعم أنها دعمته انتقامًا من الدعم السياسي والعسكري الذي تقدمه الحكومة الأوغندية للحركة الشعبية لتحرير السودان/الجيش الشعبي لتحرير السودان. وقد شمل ذلك نشر قوات الدفاع الشعبية الأوغندية داخل السودان. قدمت حكومة الخرطوم لجيش الرب للمقاومة دعمًا عسكريًا كبيرًا، وبطرق عدة، حيث كان لها مصلحة باستخدام جيش الرب للمقاومة لإضعاف الأنشطة العسكرية للجيش الشعبي لتحرير السودان ودعم الحكومة الأوغندية له.

أدى سيناريو الدعم الثنائي هذا إلى أن يصبح الصراعين، في جنوب السودان وشمال أوغندا، مترابطان بشكل متزايد في صراع معقد واحد عبر الحدود الدولية.

في محاولة يائسة للتوصل إلى تسوية، ضغطت الإدارة الأميركية على الخرطوم للسماح للجيش الأوغندي بدخول السودان لـ “إخراج” جيش الرب للمقاومة في عملية سميت عملية القبضة الحديدية. فشلت هذه المحاولة في وضع حد للتمرد، وسمحت بدلًا من ذلك لجيش الرب للمقاومة بالعبور إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث واجه وقتل ثمانية من أفراد قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والمنتشرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

1. 4. تركة الحرب في شمال أوغندا

في الصراع الدائر في شمال أوغندا، قدّر تحالف منظمات المجتمع المدني من أجل السلام في شمال أوغندا الكلفة الصافية للصراع (بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2002) بـ “ما لايقل عن 1.33 مليار دولار على مدى 16 عامًا، ما يمثل 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي أو 100 مليون دولار سنويًا”). يعود معظم هذه التكاليف إلى الإنفاق العسكري (29 بالمئة)، وخسارة المواشي والمحاصيل (24 بالمئة) وكلفة المرض والوفاة (21 بالمئة).

أُجبر أكثر من 1.6 مليون شخص، ما يمثل 90 بالمئة من السكان المتأثرين في آشولي لاند، على التخلي عن منازلهم وأراضيهم التي كانوا يعيشون فيها في حالة اكتفاء ذاتي والانتقال إلى حياة محصورة في مخيمات الإقامة الجبرية المزرية والمعروفة بمخيمات المهجرين داخليًا، حيث يعتمدون على المساعدات الغذائية، في وضع وصفه وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيغلاند، في خطاب أمام الأمم المتحدة اقتبس على نطاق واسع، بأنه “الأزمة الإنسانية المنسية”. تقرير مسحي نشره تحالف منظمات المجتمع المدني للسلام في شمال أوغندا نشر في تموز/يوليو 2003 كشف أن ما لا يقل عن 1.000 شخص، من الأطفال بشكل خاص، يموتون في المخيمات كل أسبوع.

ظلت الحماية التي يتلقاها المهجرون داخليًا ضعيفة وغير مستقرة، وأصبحت حياتهم صراعًا يوميًا من أجل البقاء. وتشير التقارير إلى وضع مزمن من مستويات كبيرة من العنف الجنسي والقائم على الجنس بالنسبة للنساء والفتيات، اللاتي لا زلن يتعرضن لمخاطر كبيرة. يقدر بأن 30.000 طفل، بشكل أساسي من منطقة آشولي، اختطفوا وجندوا كجنود أطفال و ›زوجات‹ للمتمردين. وقد عانى كثير منهم انتهاكات خطيرة لحقوقهن كبشر، حيث اختطفوا وضربوا وشوهوا وعذبوا واغتصبوا وقتلوا بشكل يومي. أجبر حوالي 40.000 طفل بأن ينتقلوا ليليًا ليقضوا الليل على الشرفات في مراكز المدن أو الكنائس أو المستشفيات كي يتجنبوا الخطف.

المرتكبون في الصراع في شمال أوغندا هم في كثير من الأحيان ضحايا الاختطاف في المقام الأول، وأجبروا على التحول إلى مرتكبين كوسيلة لفرض الولاء لصفوف المتمردين. علاوة على ذلك، فإن قوات الدفاع الشعبي الأوغندية، التي كان يفترض أن تقدم الحماية للشعب، أخفقت في تقديم الحماية للسكان، بل كانت في كثير من الأحيان متورطة في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وهذا، يعقد أية محاولات لتطبيق أي نظام عادل للمساءلة بالنسبة لأولئك المسؤولين عن ارتكاب الأعمال الوحشية. أما السؤال المتعلق فيما إذا كان ينبغي أن تمنح الأولوية للعدالة على السلام في مثل تلك الظروف، فإنه يفضي إلى تعقيد الأمور.

1. 5. المحاولات السابقة لإنهاء الصراع وفشلها

منذ عام 1986، أطلقت الحكومة الأوغندية وأفراد وحكومات أجنبية ومنظمات غير حكومية والمتمردون أنفسهم، العديد من العمليات في محاولة لإنهاء الصراع في شمال أوغندا.

1. 5. 1. سياسة الحكومة في استخدام العصا والجزرة

في البداية، قاربت الحكومة الأوغندية مبادرة السلام التي أطلقتها من خلال سياسة العصا والجزرة، ليتم تحقيقها، بمزيج من الوسائل العسكرية، في الضغط على المتمردين وإنفاذ القانون وإصدار قانون عفو والحملات الدعائية. لكن، وجزئيًا بسبب هذه المقاربة، والى حد ما بسبب عوامل أخرى ساهمت في التعقيد، فقد ازداد لهيب الصراع واتسع انتشاره ليصبح مدمرًا إلى درجة أن أصواتًا بدأت بالتشكيك بقدرة الحكومة على الانتصار في الحرب وتحقيق السلام بمفردها. بدا أن الحكومة حشرت نفسها في زاوية، بسبب الإعلانات المتكررة للرئيس موسيفيني بأنه سيتم إلحاق الهزيمة العسكرية بكوني. بات من المستحيل على موسيفيني الاعتراف بأنه لم يستطع فعل ذلك. في هذه الأثناء، لم يكن تحقيق الانتصار العسكري سهلًا، لأن الجيش كان يعاني من مشاكل في السيطرة والقيادة والفساد وانعدام الكفاءة. فقدَ الجيش دوافعه، ونتيجة لإخفاقاته بات غير قادر على كسب قلوب وعقول السكان المحليين.

باتت التحركات الفاشلة للحكومة بادية للعيان. في آب/أغسطس 1986 ، ذهب موسيفيني إلى غولو لمخاطبة الناس في آشولي لاند حول الحرب مع المتمردين، وأدان الجنود السابقين في جيش التحرير الوطني الأوغندي متعهدًا بأن يقضي عليهم بالبنادق. وأقسم بأنه لن يتحدث عن السلام مع “مجرمين ليست لديهم قضية يحاربون من أجلها”، رافضًا بشكل قاطع الاستماع إلى شكاوى زعماء الآشولي المحليين حول تكتيكات القبضة الحديدية التي يستعملها جنوده. وجرت عدة محاولات منهجية لتنفيذ هذا التعهد عن طريق مناورات عسكرية مختلفة، لم تنجح أي منها.

بعد الأحداث العسكرية غير الناجحة، بدأ زعماء الآشولي المحليون بالضغط على الحكومة لإصدار قانون عفو. جرى الدفاع عن العفو لسببين حقيقيين يتمثلان في الاتجاه الذي كان يأخذه الصراع، دون وجود نهاية محتملة قابلة للحياة، والواجب الأخلاقي المتمثل في توفير مخرج للضحايا الذين اختطفوا ضد إرادتهم. ثم أصدر البرلمان قانون العفو لعام 2000، وأسس هيئة العفو لتيسير عودة وإعادة إدماج المقاتلين السابقين في الجيش أو في الحياة المدنية. كان المبرر المنطقي لذلك إزالة الخوف واسع الانتشار من الاضطهاد، والاستعانة بالمقاربات التقليدية بشكل أساسي التي تؤكد على “الصفح”. حتى الآن، استفاد 23.000 شخص من العفو، من بينهم 2000 كانوا من القوات الديمقراطية المتحالفة، وهي إحدى مجموعات المتمردين، إلا أن الأغلبية كانوا قد انخرطوا في أنشطة تتعلق بجيش الرب للمقاومة.

المربع 5: قانون العفو العام في أوغندا، دخل حيز التنفيذ في 21 كانون الثاني/يناير 2000

قانون لمنح العفو للأوغنديين الضالعين في أفعال ذات طبيعة حربية في مختلف أنحاء البلاد ولغايات أخرى ذات صلة.

إعلان العفو.

(1) يتم إعلان العفو فيما يتعلق بأي أوغندي انخرط في أي وقت منذ 26 كانون الثاني/يناير 1986 في الحرب أو في تمرد مسلح ضد حكومة جمهورية أوغندا من خلال:

(أ) المشاركة المشاركة الفعلية في القتال.

(ب) التعاون مع الضالعين في الحرب أو في تمرد مسلح.

(ج) ارتكاب أي جريمة أخرى تساعد في أعمال الحرب أو التمرد المسلح.

(د) المساعدة في قيام الحرب أو التمرد المسلح. (2) لا يتعرض أي شخص أشير إليه في الفقرة (1) للملاحقة القضائية، ولا يخضع لأي شكل من أشكال العقوبة بسبب المشاركة في الحرب أو التمرد أو أي جريمة ارتكبت خلال الحرب أو التمرد المسلح.

يبدو أيضًا أن الحكومة وجدت فرصة لاستخدام عملية العفو يمكن أن تستغلها لمصلحتها. لقد تم التشكيك في تنفيذ العملية لأن الإجراءات لا تمضي إلى الحد الكافي لتطمين المتمردين؛ حيث إن عددًا من العائدين تم اعتقالهم لاحقًا من قبل الحكومة واتهموا بالخيانة. علاوة على ذلك، فإن معظم أولئك الناس من شمال أوغندا الذين كان يتوقع أن يستفيدوا من العفو كانوا ضحايا الاختطاف. وبالتالي، فإن منحهم العفو بالمعنى القانوني يعني تجريمهم بشكل غير منصف. وهذا ببساطة يضيف إلى المرارة التي كانوا يعانون من الكثير منها أصلًا بسبب تجربتهم في الخطف.

ينظر إلى العفو في كثير من الأحيان على أنه يكون لصالح الطرف المنتصر في صراع ما، بصرف النظر عما إذا كان محقًا أو مخطئًا وما إذا كان للطرف الخاسر شكاوى مشروعة. وبالتالي، فإن السلام المتحقق عن طريق العفو ليس سلامًا قائمًا على المبادئ. إنه سلام يلتف على الحقيقة. مهما كانت الحقيقة مؤلمة، فإنها ينبغي أن تظهر وأن يتم تحميل المسؤوليات والقبول بهذه المسؤوليات.

كما أن العفو يستند إلى افتراض أن المتمردين مذنبون، وأن الحكومة كلية الرحمة وأن الطرفين سيلتزمان بروح الإعلان ويقبلان العفو. إن أيًا من هذه الافتراضات ليس صحيحًا. ما من شك في أن المتمردين ارتكبوا الكثير من الأعمال الوحشية، لكن الحكومة ارتكبت أعمالًا وحشية أيضًا. وما من سبب للاعتقاد بأنه إذا قبل المتمردون بالعفو فإنهم سيكونون آمنين، حيث إن الرئيس يستمر بالتهديد بقتل قادة التمرد. كما أنه ليس هناك دليل حتى الآن على أن أيًا من طرفي الصراع يمتلك آلية لضمان أن يتم إنفاذ الشروط التي يمنح العفو على أساسها. إن منح العفو أو قبوله دون التفاوض بجدية ونزاهة على هذه الشروط هو بمثابة وضع العربة أمام الحصان.

وكجزء من مقاربة العصا والجزرة، فإن برنامج العفو هذا كان مصممًا لعزل قيادة المتمردين وذلك بتشجيع الانشقاقات من قبل مقاتليهم. كما تبين، فإن أولئك الذين انشقوا أصيبوا بخيبة أمل لأنهم هربوا من وضع صعب ليتم تجنيدهم في قوات الدفاع الشعبية الأوغندية وإرسالهم لمقاتلة المتمردين الذين هربوا للتو منهم أو ليتم نشرهم في جمهورية الكونغو الديمقراطية أو تجنيدهم في وحدات الدفاع المحلية.

لكن في حين أن العفو فشل في تلبية توقعات الناس بتحقيق السلام، فإنه كان أداة دعاية إعلامية مفيدة للنظام كبديل لأي جهد حقيقي للانخراط في تسوية سلمية للحرب. في هذه الأثناء، تم عرض المختطفين السابقين الذين لم يكونوا بحاجة للعفو في المقام الأول بوصفهم أمثلة للنجاح الباهر للعفو.

ينبغي أن يتم تعديل قانون العفو بشكل مستمر لتوسيعه، وكذلك منح وزراء الحكومة الحق في إعلان بعض الأفراد غير مؤهلين للعفو.

المربع 6: قانون العفو العام في أوغندا (التعديل)، 2006

قانون لتعديل قانون العفو، 294

3. إدخال القسم 2 أ.

يعدل قانون العفو بالإضافة بعد الفقرة 2، الفقرة الجديدة الآتية:

“2أ. الأشخاص غير المشمولين بالعفو

رغم أحكام الفقرة 2 من القانون الأصلي، لا يكون الشخص مؤهلًا لمنح العفو إذا أعلن غير مؤهل لذلك من قبل الوزير عن طريق صك قانوني يتم إصداره بموافقة البرلمان .»

4. إضافة الفقرة 16

يعدل القانون الرئيسي باستبدال الفقرة 16 بما يلي:

“16.  المدة

(1) يبقى يبقى القانون الرئيسي نافذًا لمدة سنتين من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ.

(2) يبقى يمكن للوزير من خلال نص تشريعي تمديد الفترة المشار إليها في الفقرة الفرعية (1). (3) يمكن للوزير بواسطة نص تشريعي إعلان انتهاء مفعول عمل الجزء 2 من القانون الأصلي”.

1. 5. 2. تدخلات المجتمع المدني

بين عامي 1994 و1996، عندما أصبح باديًا على نحو متزايد أنه ليس هناك احتمال في الأفق لنهاية الصراع، بدأ العديد من الأشخاص المحبين للسلام في المجتمع المحلي وبعض الآشولي في الشتات باستكشاف وسائل وطرق ممكنة لإنهاء الصراع سلميًا. ظهرت منظمات مثل كاكوكي ماديت (أي “الاجتماع الكبير” بلغة الآشولي). وشملت مبادرات أخرى ما يسمى بمنتديات السلام.

مبادرة السلام التي أطلقها الزعماء/الحكماء التقليديون ورجال الدين في الآشولي

أصبح الزعماء والحكماء التقليديون، انسجامًا مع أدوارهم الثقافية في تقديم التوجيه لمجتمعاتهم المحلية، لاعبين مهمين في السعي لتحقيق السلام في شمال أوغندا. وتعززت جهودهم بدعم مهم من قبل رجال الدين الذين ارتبطوا على نحو وثيق بعملية الحوار منذ بداية الصراع. في عام 1997، جعل رجال الدين الكاثوليك والأنغليكانيين والمسلمين، وفي وقت لاحق الأرثوذكس في شعب الآشولي، تعاونهم حول قضايا السلام أكثر رسمية، وذلك بإطلاق مبادرة سلام رجال الدين الآشوليين. نظرًا لإطلاق المبادرة، عندما كانت آفاق تحقيق تسوية تفاوضية قاتمة بالفعل، فإن المبادرة وضعت لنفسها مهمة السعي لتحقيق نهاية سلمية تفاوضية للصراع وميزت نفسها بصفتها واحدة من أكثر القوى مصداقية في مسعاها من أجل الحوار. تتمثل قوة المبادرة في مصداقيتها وصلاتها الوثيقة بالمجتمع المحلي والشبكات العالمية. على سبيل المثال، استكشفت علاقاتها في سائر أنحاء السودان الذي لديه قنوات تواصل مع جوزيف كوني ورفاقه، الذين وجدوا المبادرة مقبولة أكثر لإجراء نقاشات معها أو الاتصال بها هاتفيًا مما هو الحال مع الحكومة. قاد الأسقف أوداما، رئيس المبادرة، وفدًا من ستة أشخاص إلى الأمم المتحدة، والولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لحشد الدعم والتأييد لإنهاء الحرب عبر الحوار.

منتديات السلام

المناطق الثلاث التي تشكل إقليم آشولي شكلت منتديات سلام في مناطقها، كوسيلة للتعبير عن رسائل بناء السلام والمخاوف والتداول بشأنها. في كيتغوم، تأسس منتدى كيتغوم المشترك من أجل السلام، وفي بادر، منتدى سلام بادر، وفي غولو فريق المصالحة والسلام في المنطقة. جمعت هذه المنتديات طيفًا واسعًا من أفراد المجتمع المحلي، من قيادات المنطقة نزولًا إلى القواعد، وشملت ممثلين عن المجتمع المدني، الزعماء التقليديين والدينيين، الحكومة المحلية، والنساء والشباب. اندمجت المنتديات الثلاثة لاحقًا لتشكل منتدى سلام آشولي.

كانت هذه المنتديات مدفوعة بالأصل بالهدف المحوري المتمثل في دعم قانون العفو والحوار بشكل عام. وتجتمع هذه المنتديات بشكل منتظم لتبادل التجارب وتنسيق الأنشطة على مستوى الإقليم. لقد ترجمت ووزعت نسخ غولو من قانون العفو وعقدت اجتماعات منتظمة بين فرق السلام لاستشكاف البدائل من أجل دفع عملية العفو والحوار قُدمًا، وأسهمت جهودها في تأسيس هيئة العفو. ولعبت أيضًا دورًا محوريًا في عمليات المصالحة التقليدية في آشولي وفي تحضير المجتمع المحلي لاستقبال المقاتلين السابقين.

بمساعدة من مبادرة السلام في شمال أوغندا، الممولة من قبل الوكالة الأميركية للتعاون الدولي، تم إنشاء هيكليات مماثلة لاحقًا مع إضافة أهداف أكثر اتساعًا لتغطية 24 منطقة في شمال أوغندا. وكانت جميعها موحدة تحت مظلة المنظمة المسماة منتدى السلام في شمال أوغندا الذي يحتفظ بمقر دائم في غولو.

1. 6. الوضع الراهن للصراع ومناظرة العدالة مقابل السلام

في تشرين الثاني/نوفمبر 2003، قدمت الحكومة الأوغندية إحالة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. بدأت المحكمة الجنائية الدولية فورًا بإجراء التحقيقات، وفي آب/أغسطس 2005 أصدرت أول أوامر اعتقال، لأكبر خمسة من قادة جيش الرب للمقاومة، وهم جوزيف كوني (قائد الجيش)، فينسنت أوتي، أوكوت أوديامبو، دومينيك أونغوين، وراسكا لوكويا (الذي توفي مؤخرًا).

في 14 تموز/يوليو 2006، بدأ الحوار في مدينة جوبا في جنوب السودان بين الطرفين المتحاربين بهدف التوصل إلى اتفاقية سلام شامل. وأجريت المفاوضات بوساطة من الدكتور ريك مارشار، نائب رئيس الحكومة المؤقتة في جنوب السودان. ولا بد لاتفاق السلام النهائي أن يمر بالضرورة من خلال أجندات تفاوضية طويلة وحافلة بالعقبات المعقدة. أراد جيش الرب للمقاومة أن تناقش الحكومة الأوغندية وتعالج الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجوهرية للصراع، وعبر عن هذا بوضوح منذ البداية. من جهة أخرى، فإن الطرف الحكومي رفض الدخول في نقاشات سياسية حول ما كان يفضل أن يرى فيه مشكلة عسكرية بشكل أساسي ويأمل بالتفاوض على حل سماه “هبوط آمن” لجيش الرب للمقاومة. تم جسر هذه الفجوة، بالتوصل إلى أجندة من خمس نقاط للمحادثات التي شملت القضايا العسكرية والبنيوية على حد سواء. وهكذا، تم الاتفاق على الأجندة التفاوضية لمحادثات جوبا لتشمل وقف الأعمال العدائية، وإيجاد حلول شاملة للصراع، والمصالحة والمساءلة، والتوصل إلى وقف إطلاق نار رسمي، ونزع السلاح، وتفكيك المجموعات المسلحة وإعادة إدماجها.

في 26 آب/أغسطس 2006، وبعد العديد من الساعات الطويلة من المساومات الصعبة، تم توقيع اتفاقية لوقف الأعمال العدائية. غطت الاتفاقية 13 نقطة عمل تلامس إعلان وقف الأعمال العدائية؛ الحملات الدعائية العدائية؛ “ظهور” قوات جيش الرب للمقاومة (أي خروجهم إلى العلن والى نقاط التجمع)، قيام عملية تجميع لقوات الجيش في السودان، منحها المرور، مراقبتها وحمايتها في مناطق التجمع، تعميم إعلان وقف الأعمال العدائية، إكمال تحرك قوات جيش الرب إلى مناطق التجمع، الإشراف/المراقبة على التنفيذ، تقديم الخدمات الأساسية، تجديد بنود الاتفاقية، بداية العمل بها، وتسوية النزاعات.

في هذه الأثناء، أصبحت إدانات المحكمة الجنائية الدولية واحدة من النقاط العالقة الرئيسية وهددت بتقويض العملية السلمية بالكامل. وفي حين يريد جيش الرب من المحكمة الجنائية الدولية سحب إداناتها من أجل الاستمرار في محادثات السلام بشكل سلس، فإن الحكومة تصر على ألا تقف المحكمة في طريق التوصل إلى اتفاقية شاملة، وعلى أن عملية السلام الناجحة المصحوبة بآلية عمل لممارسات الآشولي التقليدية في المصالحة ستكون كافية لإقناع المحكمة بالتراجع. لم تظهر المحكمة حتى الآن نية بإلغاء هذه الإدانة.

مع استمرار هذا المأزق دون تسوية، تقدم جيش الرب بمطالب جديدة، لتغيير مكان انعقاد المفاوضات وتغيير الوسيط، حيث فقد الثقة بحيادية المؤسسة السودانية. أدى هذا إلى تعطل استئناف محادثات السلام في كانون الثاني/يناير 2007. بعد شهرين من انعدام اليقين، وافق الطرفان، الحكومة الأوغندية وجيش الرب للمقاومة، من حيث المبدأ على الاجتماع واستئناف المفاوضات. حدث هذا بعد مشاورات واسعة وتدخلات شملت مبعوث الأمم المتحدة جواكيم تشيسانو، الرئيس السابق لموزمبيق، وزعماء من شمال أوغندا. في التسوية التي تم التوصل إليها، وافقت خمس دول (جمهورية الكونغو الديمقراطية، كينيا، موزمبيق، جنوب أفريقيا وتنزانيا) على إرسال مراقبين رفيعي المستوى إلى العملية التي أطلقتها حكومة جنوب السودان.

يبدو أن اتفاقية شاملة ممكنة فقط بعد أن تتم معالجة ثلاث قضايا إشكالية تتمثل في الثقة والشفافية والعدالة الانتقالية. فيما يتعلق بمسألة العدالة الانتقالية، كررت الحكومة الأوغندية موقفها واعدةً بالسعي لإلغاء إدانات المحكمة الدولية لقادة جيش الرب، لكن فقط بعد أن يتم التوصل إلى اتفاقية شاملة. لا يزال جيش الرب يطالب بتطمينات أقوى حول أمن أفراده. كما أن إيجاد آلية بديلة للمساءلة، مثل طقوس العدالة التقليدية، أمر جوهري من أجل توفير ›طريق ثالث‹ قابل للحياة بين القطبين المتعارضين المتمثلين في المحكمة الجنائية الدولية والإفلات من العقاب. ينبغي إقناع المحكمة الجنائية الدولية بالحاجة لدرجة أكبر من الحساسية والمرونة اتجاه الاحتياجات المحلية.

يشمل الوجه الآخر للعدالة الإقصاء السياسي القديم لضحايا الحرب، وهم بشكل رئيسي من شمال أوغندا. لا تستطيع الحكومة الأوغندية ولا جيش الرب للمقاومة الادعاء بصدق تمثيل مصالح هؤلاء. في المحصلة، سيتطلب السلام العادل عمليات تمكّن الشماليين من التعبير عن مظالمهم والتغلب عليها. يمكن أن تكون البداية، منح الفرصة للسكان الأصليين لإعادة إحياء معتقداتهم الثقافية وقيمهم وأعرافهم وممارساتهم وإدخالها في عملية السلام. من شأن مثل هذا التحرك، أن يشكل التذكير الأكثر أهمية للأطراف بأن المفاوضات لا تتعلق فقط بالسياسة بل أيضًا بحياة الناس.

استؤنفت محادثات السلام في 26 نيسان/أبريل 2007، بتطمينات من نائب قائد جيش الرب للمقاومة، فينسنت أوتي، بأن الجيش سيوقع اتفاقية شاملة لكنه لن يترك مواقعه ويرسل قواته إلى مناطق التجمع إلى أن تسحب المحكمة الجنائية الدولية إداناتها. إذا لم تفعل ذلك، فإن الاستمرار في الحرب يبقى خيارًا مطروحًا.

وزير الداخلية الأوغندي، روهاكانا روغوندا الذي يترأس الفريق الحكومي المفاوض في محادثات جوبا، وعند مغادرته للشروع في النقاشات حول البند 3 من الأجندة، حول المصالحة والمساءلة، دافع عن نظام العدالة التقليدية المسمى ماتو أوبوت، كبديل لمحاكمات المحكمة الجنائية الدولية: “إن الأساليب التقليدية رمزية وحقيقية في الآن ذاته، وقد نجحت. بدلًا من الاندفاع نحو الحلول الغربية، فإن من الجيد إحياء هذه الآليات”. وأضاف أنه سيتم تحديث النظام ليتناسب مع المعايير الدولية.

حتى لو كانت أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية تشكل واحدة بين قضايا أخرى عديدة ينبغي تسويتها، فإنها أثارت رغم ذلك الكثير من النقاش حول ثنائية السلام والعدالة. ما الذي ينبغي أن يتحقق أولًا؟ لقد تحول هذا إلى مواجهة بين نظام العدالة التقليدي ونظام العدالة الدولي.

في محاولة لتقييم دور المحكمة الجنائية الدولية في الصراع الحالي في شمال أوغندا والتعامل مع الادعاءات المتعلقة بالمفهوم التقليدي للآشولي للعدالة والمصالحة، من الضروري أولًا تحديد وتحليل القضايا ذات الصلة.

تتمثل أولى هذه القضايا في الفهم الراهن للقانون الدولي فيما يتعلق بقضايا الصراعات داخل الدول، وضمن هذا الإطار، دور المحكمة الجنائية الدولية في صراعات من هذا النوع. سأقدم المقترح الاستفزازي، القائل بأن النظام الحالي للعلاقات الدولية الذي يستند إليه القانون الدولي الحالي لا يمكن الدفاع عنه والمحافظة عليه. إن مؤسسات مثل المحكمة الجنائية الدولية تلقي أعباء إضافية على دول قومية في حالة انهيار ولا تستطيع حتى تنفيذ القوانين التي تسنها. في مثل هذه الظروف، من الخطأ أخلاقيًا وسياسيًا إنشاء مؤسسات جديدة تحمل معها مظالم الماضي وتفرضها على مجتمعات محلية مهمشة مثل الآشولي، في تجاهل تام لأعرافها ومؤسساتها التي تستند على مبادئ أخلاقية أكثر صوابًا من تلك التي يتبناها نظام وضعي علماني.

القضية الأخرى الأوسع هي دور الدولة ما بعد الاستعمارية في أفريقيا، والطريقة التي يرتبط بها هذا الدور بالتفاهمات التقليدية لوظيفتها كمطبق للحق في احتكار استخدام القوة. وهنا تصبح القضية قضية شرعية بالنظر إلى الانخراط المزعوم للحكومة الأوغندية، من خلال عملائها، في جرائم ضد الإنسانية يزعم أنها ارتكبت من قبل لاعبين من غير الدولة مثل جيش الرب للمقاومة. الوجه الآخر لنفس العملة، يتمثل في السؤال حول ما إذا كان ما تدعيه من حق في احتكار الاستخدام المشروع للأسلحة والعنف يخولها بادعاء السلطة على الأفراد الذين لا تستطيع حمايتهم. وهكذا، ما هي طبيعة الدول الأفريقية في ما بعد الاستعمار، وما مدى شرعيتها في عيون الناس في مجتمعاتها؟

في تطور مثير للاهتمام للأحداث، من المهم ملاحظة أنه في مباحثات السلام الجارية في جوبا، في 29 حزيران/ يونيو 2007، وقع جيش الرب للمقاومة والحكومة الأوغندية اتفاقًا شاملًا حول المساءلة والمصالحة، وهي قضية شائكة على الأجندة، واقتربا بذلك من التوصل إلى اتفاقية سلام نهائية. يوصي الاتفاق باستخدام العدالة التقليدية البديلة: “1.3. آليات العدالة التقليدية، مثل كولو كوور، ماتو أوبوت، كايو كوك، آيلوك، وتونوك سي كوكا وغيرها، كما تتم ممارستها في المجتمعات المحلية المتأثرة بالصراع، سيتم دعمها وترويجها، مع إجراء التعديلات الضرورية عليها، بوصفها الجزء المحوري لإطار المساءلة والمصالحة” (الاتفاقية حول المساءلة والمصالحة بين حكومة جمهورية أوغندا وجيش الرب للمقاومة/حركة الرب للمقاومة، جوبا، السودان، 29 حزيران/يونيو 2007). كما تنص أيضًا: “تنفذ آليات المساءلة من خلال إطار قانوني معدل في أوغندا” (المادة 4.4)، و”تنص التشريعات على عقوبات بديلة ينبغي تطبيقها، تستبدل العقوبات الموجودة، فيما يتعلق بالجرائم الخطيرة وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل اللاعبين من غير الدولة خلال الصراع” (المادة 3.6). وتستبعد العدالة المزدوجة لنفس الجرائم. “عندما يكون شخص قد أخضع لإجراءات أو أعفي من المسؤولية عن أية جريمة أو أفعال مدنية أو عدم القيام بمثل تلك الأفعال، أو أخضع لإجراءات المساءلة والمصالحة فيما يتعلق بأي سلوك خلال الصراع، فإن ذلك الشخص لا يخضع لأية اجراءات أخرى فيما يتعلق بذلك السلوك” (المادة 10.3).

التزم الطرفان باحترام معاناة الضحايا وذلك بتعزيز السلام والعدالة الدائمين، ومنع الإفلات من العقاب ودعم عمليات التعويض طبقًا للدستور والالتزامات الدولية، خصوصًا متطلبات نظام روما الأساسي الذي أسس المحكمة الجنائية الدولية. يشمل التعويض إعادة التأهيل، التعويض المادي، ضمانات بعدم تكرار أعمال العنف، وغيرها من الإجراءات الرمزية مثل الاعتذار وإقامة النصب التذكارية والاحتفال بذكرى الأحداث. كما التزمت الحكومة برفع جيش الرب للمقاومة عن قائمتها للمنظمات الإرهابية، حالما يتخلى المتمردون عن تمردهم ويوقعون اتفاقية السلام الشامل، ويقدمون أفرادهم لعملية نزع السلاح وتفكيك المجموعات وإعادة إدماجها.

بتوقيع الاتفاقية المكونة من 11 صفحة، أنهى الوفدان شهرًا من المفاوضات الطويلة حول هذه النقطة الإشكالية على أجندة المباحثات، والتي كانت قد أشير إليها على أنها نقطة الارتكاز التي تستند إليها العملية برمتها. إلا أن الاتفاقية تعرض ببساطة المبادئ العامة، فيما لا تزال المشاورات مستمرة للعمل على التفاصيل الأدق.

2. آليات العدالة والمصالحة التقليدية عند الآشولي بشكلها “الأصلي”

2. 1. الخلفية والوصف

من أجل فهم آليات عمل تقاليد الآشولي فيما يتصل بإدارة الصراع، من المهم إلقاء الضوء على نظام الحكم عند السكان الأصليين الذي تعمل هذه التقاليد في سياقه. في حقبة ما قبل الاستعمار، وقبل أن يقسم سكان الآشولي لاند بالقوة وينقلون من منازلهم، كانت جميع الصراعات في آشولي لاند تتم تسويتها وديًا من خلال آلية متطورة للتسوية الفورية للصراعات حالما تظهر. قبل تشكيل دولة أوغندا التي حلت محل الإدارة الاستعمارية البريطانية، كان لشعب الآشولي حكومة تقليدية متجذرة بقوة في معتقداتهم الدينية وأعرافهم وعاداتهم، التي تتطلب السلام والاستقرار في آشولي لاند في جميع الأوقات، استنادًا إلى فلسفتهم في الحياة. وكانت تتم المحافظة على هذه الهيكلية من قبل زعماء شعب الآشولي الحقيقيين، المعروفين بـ روودي مو.

في هذا المجتمع، كان الدين التقليدي هو مصدر مبادئ الحكم. كان يعتقد أن الرودي، أو الزعماء، الذين كانوا يرأسون حكومة الآشولي التقليدية، مختارون من قبل القوى فوق الطبيعية، وكانوا يوضعون على عروشهم ويدهنون بدهن مستخرج من أجساد الأسود في مراسم دينية مهيبة. بعد هذه المراسم، كان يعتقد أنهم يدخلون في علاقة سرية مع عالم الآلهة غير المرئيين وأرواح الأسلاف. وهكذا كانوا يحظون بتقدير كبير، ويحترمون ويبجلون من قبل شعبهم.

جدير بالذكر أن هؤلاء الزعماء التقليديين لم يكونوا يتمتعون بأية سلطات تنفيذية لحكم الشعب بمفردهم، وبالتالي لم تكن الدكتاتورية ممكنة. كانوا يحكمون حصريًا من خلال تدخل “مسؤولي المراسم” أو مساعدين معروفين باسم لوتيد – جوك وتحت إشراف مجلس حكماء العشيرة الذي يتمتع بالقوة الأكبر، والذي يُسمى لوديتو كاكا. كان يتم اختيار أعضاء هذا المجلس ديمقراطيًا من قبل العشيرة المعنية ليكونوا أعضاء في المجلس الأعظم المعروف بغور ماديت. وبوصفهم أوصياء على المجتمع، فإن الحكماء، الذين يجلسون معًا في المجلس الأعظم، كانوا يحددون المشاكل والاحتياجات العاجلة لشعبهم ويفكرون ويخرجون بالحلول المناسبة لمشاكل المجتمع وكيفية تلبية احتياجاته العاجلة. وكان هدفهم الأول هو إزالة الأسباب الاجتماعية الكبيرة والمعقدة لعدم السعادة في آشولي لاند. كان المجلس الأعظم يقوم أيضًا بدور “المحكمة

العليا” لمحاكمة قضايا القتل الجماعي والنزاع على الأراضي بين مختلف العشائر، وبشكل أساسي معالجة جميع القضايا ذات الطبيعة الجنائية والمدنية. كان المجلس يصدر القوانين ويتخذ القرارات على شكل أوامر دينية ينبغي اتباعها وتنفيذها من قبل أفراد مجتمع الآشولي لمصلحتهم؛ وبالتالي كان دورهم كدور الجهاز القضائي والبرلمان والسلطة التنفيذية في أنظمة الحكم “الحديثة”.

بالنظر إلى نظام الحكم القائم على أساس ديني، لم يكن بوسع أي مواطن غير مؤمن أن يصبح زعيمًا سياسيًا، وكانت جميع الشخصيات العامة تتمتع بالتقى وتحكم مجتمعها بشكل حصري طبقًا لمعتقداتها وأعرافها وعاداتها. وشكّل ذلك ضمانة بأنه لا يمكن لشخص أن يرتكب جريمة دون أن يعاقب، رغم أنه لم يكن هناك مؤسسات إنفاذ قوانين رسمية مثل الشرطة والسجون. وكونه الهيئة الحاكمة، فإن مجلس الحكماء، وعلى جميع المستويات، كان يتعامل بحزم مع الأشخاص والمجموعات المتمردة ويضمن الالتزام الصارم من قبل الجميع بالنظرة الآشولية للعالم.

للأسف، فإن المستعمرين البريطانيين جردوا الزعماء من سلطتهم السياسية، واستبدلوهم بالإداريين الاستعماريين. ولم يكن يُعترف بالزعماء الثقافيين بشكل كاف حتى الإصلاح دستوري الذي جرى عام 1995. وحتى حينذاك، فإن إعادة ظهور كير كوارو آشولي، المؤسسة الثقافية للآشولي والتي يرأسها زعيم

أكبر، كان يستند إلى مخطط الهيكلية الإدارية الاستعمارية الموروثة دون الأساس الضروري في المعتقدات التقليدية العميقة، والثقافة والعادات التي كانت تمارس حتى ذلك الحين. وهكذا، فإن مكانة المؤسسة الثقافية وسلطتها الشعبية، التي كانت في الماضي تعتبر مرشدة لشعبها، تم إضعافها بشكل كبير.

2. 2. طقس المصالحة المسمى “ماتو أوبوت”

وافقت الوفود المتفاوضة في محادثات السلام في جوبا من حيث المبدأ على أن استخدام هذا الطقس التقليدي، بين طقوس أخرى، يعد إحدى الآليات المناسبة لمعالجة قضايا المساءلة والمصالحة.

كان مجتمع الآشولي يعتقد بقوة أن الإنسان كائن مقدس لا يجوز سفك دمه دون مبرر. إن دينهم يحظر بشكل مطلق قتل الكائنات البشرية. وقد أمر المجتمع بالالتزام بهذا بصرامة بعبادة نفس الإله الأعلى، نياروبانغا، من خلال إله وسيط، يعرف جوك – كير، الذي يعني ›الإله الحاكم‹. في مثل هذا المجتمع، إذا حدث وقام شخص بقتل شخص أو أشخاصًا آخرين من نفس العشيرة أو من عشيرة أخرى، فإن القتل سيثير غضب الآلهة وأرواح أسلاف الضحايا. كان ولا يزال يُعتقد أن الآلهة وأرواح الأسلاف الغاضبة ستسمح، أو حتى ستدعو، الأرواح الشريرة لغزو المنازل وإلحاق الأذى بساكنيها. علاوة على ذلك، فإن عمليات القتل ستخلق بشكل تلقائي حاجزًا فوق طبيعي بين قبيلة القاتل وقبيلة الشخص أو الأشخاص الذين قتلوا. حالما يحدث القتل، فإن أفراد القبيلتين يتوقفون فورًا عن الأكل والشرب من نفس الإناء، ويتوقفون عن الانخراط في أي تفاعل اجتماعي من أي شكل كان. يبقى هذا الحاجز فوق الطبيعي نافذًا إلى أن يتم التكفير عن الجريمة ويتم إجراء طقس مصالحة، لتطهير الوصمة.

في هذه الأثناء، يقاطع القاتل ويعامل كشخص منبوذ أو غير نظيف. وصمة القتل التي تجعل القاتل رجلًا شريرًا تسمى أوجابو. ولذلك يحظر على القاتل دخول أي منزل غير منزله خشية أن يكون مصحوبًا بالأرواح الشريرة التي تتكون منها الأوجابو، ولأنه سيلوث تربة المنزل بالأرواح الشريرة. يمكن للأوجابو أن تخلق أو تستحضر في حالتي القتل المتعمد والعرضي.

في جميع حالات القتل المتعمد والعرضي، يتحتم على قبيلة القاتل دفع دية لقبيلة الشخص المقتول. يعين مجلس الحكماء زعيمًا من قبيلة أخرى للتوسط بين القبيلتين. ينسق الوسيط، الذي يتوقع أن يكون حياديًا تمامًا، ترتيبات دفع الدية. ومن غير المقبول نهائيًا أن يكون الدفع على شكل قتل القاتل (ليس هناك عقوبة إعدام)، حيث يعتقد أن ذلك سيعني فقط خسارة جزء من القوة البشرية للمجتمع، دون أن يكون ذلك مفيدًا لأي من الطرفين. يفضل دفع الدية لأن المال الذي يدفع للأسرة الثكلى يمكن أن يستخدم للزواج من امرأة أخرى ستنجب أطفالًا يحلّوا محل الشخص القتيل، وهو شكل من أشكال التعويض.

بعد دفع المال (التعويض)، يرتب الحكماء لإجراء طقس المصالحة من أجل مصالحة القبيلتين المتخاصمتين لاستئناف علاقة العمل الطبيعية. تجرى طقوس المصالحة دائمًا في حقل غير مزروع ويكون عادة بين القرى أو أماكن سكن القبيلتين، وبعيدًا عن أي ممر أو مكان يستعمل بشكل مشترك ومتكرر من قبل الأطفال والنساء.

ولإجراء طقوس المصالحة، يقدم القاتل كبشًا أو ثورًا (ديانغ مي دوغ بير)، بينما يقدم أقارب القتيل عنزة. وتستخدم أوانٍ غير مستخدمة من قبل ويتم صنع كمية كبيرة من شراب كحولي لهذه المناسبة. في اليوم المحدد، يجتمع مسؤولو الطقوس والوسطاء والحكماء من كلا القبيلتين في الموقع المختار ويقفون في مواجهة الغرب في صمت رصين. ثم يتم أداء التضرع والابتهال الذي يختصر مجمل روح نية المصالحة. ويكون هذا دائمًا على الشكل الموضح في المربع رقم 7.

المربع رقم 7: “طقس المصالحة ماتو أوبوت” في شمال أوغندا

مسؤول المراسم

“أنتم يا أسلافنا وأبناء الإله الأعظم! أتوسل إليكم الآن وأطلب منكم أن تدركوا أن الإثم جزء من حياة الإنسان. لقد بدأ بارتكاب ذلك الإثم الذين عاشوا من قبلنا. هذا الرجل الذي أحضرَنا إثمه إلى هنا اليوم كرر نفس الإثم السرمدي الذي فشل الإنسان منذ الأزل حتى الآن في التخلص منه. لقد قتل أخاه. لكنه منذ ذلك الحين تاب عن هذا الفعل الشرير. لقد دفع الدية التي يمكن أن تستخدم للزواج من امرأة ستنجب أطفالًا للمحافظة على اسم أخيه القتيل من أجل ذريتنا. إننا نتوسل إليكم الآن، أنتم أسلافنا أن تسمحوا للعائلتين باستئناف علاقتهما الأخوية…”.

ينضم جميع الحكماء المجتمعين وينشدون معًا:

“ليكن الرجل الذي يعطى الديّة ذكيًا وليختر زوجة نشيطة…عذراء تنجب العديد من الأطفال الأصحاء الذين يكبرون ويشغلون المنزل الفارغ”.

يجيب مسؤول المراسم من قبيلة الشخص القتيل على هذا التضرع الرصين على الشكل الآتي:

لسنا أول قبيلة تتعرض للموت السابق لأوانه من هذا النوع. لقد تاب القاتل عن فعلته. وقد دفع مقابلها. نحن الآن نتضرع إليكم يا أسلافنا كي تباركوا الدية المعطاة للعائلة للزواج من امرأة تنجب بديلًا من أخينا القتيل…”.

ينضم جميع الحكماء المجتمعون إلى عملية التضرع وينشدون معًا: “دعونا نقبل الديّة ونغسل قلوبنا حتى تنظف، ولنبدأ الحياة والعمل معًا كما كنا نفعل في الماضي … أعداؤنا الذين سمعوا بهذه المصالحة ليسوا سعداء بأنها ستجلب السلام والرخاء لقبيلتنا… لتحمل الشمس إرادتهم السيئة بعيدًا إلى الغرب، ولتغرقها عميقًا عميقًا…”.

يقوم مسؤولو المراسم بمزج المستخلص المدقوق من جذور شجرة الأوبوت مع مشروب كحولي في وعاء جديد، ومن ثم يركع القاتل وأقرب أقرباء القتيل ويبدآن بالشرب من نفس الوعاء في الوقت نفسه، بينما تصرخ نساء القبيلتين ويصحن صيحات حرب القبيلتين. ينضم أفراد العائلتين إلى عملية الشرب من نفس الإناء للمرة الأولى. في هذه الأثناء، يقوم مسؤول المراسم بقطع رأس الكبش الذي أحضره القاتل ورأس العنزة الذي أحضرها قريب القتيل. يسلم رأس الكبش بشكل طقسي لقريب القتيل ورأس العنزة لقريب القاتل. يُطعن الثور بالرماح حتى الموت ويتم سلقه ويطبخ لحمه ويؤكل من قبل المجتمعين. ويتم تقديم طعام مطبوخ آخر من كلا الجانبين للحكماء، الذين يسمح لهم بالاختلاط بحرية. من الآن فصاعدًا، يستأنف أفراد القبيلتين علاقاتهم الاجتماعية العادية. وبهذه الطريقة، يصلح شعب الآشولي الضرر الذي تسببت به إراقة الدماء المقدسة للكائنات البشرية.

مبادرة السلام في شمال أوغندا الممولة من الوكالة الأميركية للمساعدات الدولية، ومن خلال كير كوارو آشولي، دعمت 54 من هذه الطقوس بين عامي 2004 و2006.

2. 3. طقس “الدوس على البيض” (نيونو تونغ كوينو)

استنادًا إلى الاعتقاد الراسخ حول المحافظة على قدسية منازلهم والاستقرار الاجتماعي، تحافظ طقوس التطهير الآشولية على هذا المثل الأعلى. أكثر الطقوس انتشارًا وشهرة هو نيونو تونغ كوينو (المشي على بيض الدجاج)، الذي يهدف بشكل أساسي إلى الترحيب بأفراد العائلة الذين يقضون فترة طويلة من الوقت بعيدين عن منازلهم ثم يعودون. وهذا يرتبط بالاعتقاد بأن الناس عندما يكونون بعيدين عن منازلهم يلتقطون أرواحًا، إذا لم يتم تطهيرهم منها، فإنها ستلوثهم و/أو ستجلب الشؤم وسوء الطالع للمجتمع المحلي بأكمله. يساعد هذا الطقس على استعادة الثقة بالمقاربات التقليدية للعدالة، ويشكل تمهيدًا لطقس ماتو أوبوت عندما يتطلب الأمر إجراءه في النهاية. إلا أن الممارسة تمضي إلى أبعد من مجرد كونها طقسًا تطهيريًا، وتتسع لتغطي حتى أولئك الذين قد يكونون غادروا القبيلة بعد عراك أو خلاف لم تتم تسويته مع الناس في الوطن، وفي بعض الأحيان يحلفون بأنهم لن يعودوا. وهكذا، يتم أداء ال نيونو تونغ كوينو كعلامة على الترحيب بهم والتعبير عن الالتزام من قبل المجتمع ومن قبل العائد، على حد سواء، ببدء حياتهم معًا بانسجام مرة أخرى.

يتم أداء طقس “المشي على بيض الدجاج” مثاليًا على مستوى العائلة أو القبيلة، لكن تم تنظيمه أحيانًا على مستوى أكبر، حيث يقوم عدد من العائدين وبشكل جماعي بالدوس على البيض في طقس واحد. لقد أدينت هذه الممارسة بشكل حاسم من قبل الحكماء الأكثر معرفة، الذين يجادلون بأن هذا الطقس يمكن أن يكون مهمًا وذا معنى فقط عندما يطبق على أساس فردي وعلى مستوى العائلة/القبيلة.

جميع العائدين من جيش الرب للمقاومة (تقدر أعدادهم بأكثر من 12.000) خضعوا لهذا الطقس، بما في ذلك الضحايا من قبائل غير الآشولي في طقوس تم إجرائها جماعيًا من قبل كير كوارو آشولي والعائلات المعنية، وبعض هذه الطقوس كان مدعومًا من قبل مبادرة السلام في شمال أوغندا/الوكالة الأميركية للمساعدات الدولية.

2. 4. طقوس أخرى

يعد طقس “تطهير الجسد” (مويو كوم) طقسًا أكثر تعقيدًا ويؤديه الأشخاص العائدون من الأسر. وهذا يتطلب اجتماع الحكماء لمباركة الشخص العائد وغسل أفعالهم السيئة وطرد الأرواح الشريرة، ومناشدة الأسلاف لمنح بركاتهم. تتفاوت الممارسة من قبيلة إلى قبيلة، وتنطوي في بعض الحالات على فعل بسيط يتمثل في طعن عنزة برمح وجرها في تجمع معين لتخليص القبيلة من سن )الروح الشريرة الخاطفة(، وفي بعض الحالات يمكن لهذا الطقس أن يستمر عدة أيام يكرر فيها الشخص العائد الحياة التي فقدت بإعادة تمثيل جزء من تلك الحياة. لهذا الطقس سوابق لممارسات أخرى للمصالحة بعد الصراع، على سبيل المثال، في أنغولا وموزمبيق وسيراليون.

يعد “تطهير منطقة” (مويو بايني) طقسًا آخر ينطوي في سياق الصراع على التضحية بالماعز لتهدئة الأسلاف وتطهير منطقة من الأرواح الشريرة التي يعتقد بأنها تعيش في الأماكن التي حدثت فيها مجازر لها علاقة بالحرب، مثل مواقع الكمائن الدموية، جرائم القتل الجماعي في الحقول أو المناطق السكنية، وميادين المعارك. العديد من السكان الأصليين يترددون بالعودة إلى منازلهم الأصلية التي حدثت فيها مثل أعمال القتل هذه إلى أن يتم إجراء هذا الطقس، خوفًا من الأرواح المتجولة الغازية.

يعد “لوي الرمح” (غومو تونغ) عهدًا بين طرفين متصارعين لإنهاء الأعمال العدائية. ويعد فعلًا مقدسًا للغاية، يستحضر الأسلاف، وبالتالي فإنه حالما يكتمل لا ينبغي إراقة المزيد من الدماء. في عام 1985، استخدم غومو تونغ في محاولة بارزة لتسوية توترات خطيرة بين الآشولي من جهة، والذين قتلوا على نطاق واسع من قبل عيدي أمين ورجاله خلال حكم نظامه الدكتاتوري، ومن جهة أخرى شعب غرب النيل (وهو المكان الذي تحدر منه أمين)، الذي تعرض لأعمال انتقامية خطيرة عام 1980 بعد سقوط أمين. جدير بالملاحظة أنه في وقت لاحق، رفضت جبهة ضفة النيل الغربي 1 و 2، والتي تتكون بشكل أساسي من أفراد من غرب النيل والذين كانوا قد انضموا إلى جيش موسيفيني، أن تشارك في القتال ضد جيش الرب للمقاومة، في إشارة إلى طقس غومو تونغ الذي جرى عام 1985 بين المجموعتين، والذي يظل ملزمًا إلى الأبد. (كان طقس ›لوي الرمح‹ طقسًا مناسبًا لمعالجة التوترات التي يعتقد بأنها تسود بين الآشولي والمجتمعات المجاورة لهم مثل لانغو وتيسو ومادي وجنوب السودان، والتي تسببت بها توغلات جيش الرب للمقاومة في تلك المناطق، إذا كان جيش الرب للمقاومة يعمل نيابة عن الآشولي، ومن الواضح أن الأمر ليس كذلك).

تشمل طقوس أخرى تمارسها مجموعات عرقية مجاورة تستند إلى مبادئ واستخدامات مباشرة، كما يرد في اتفاقية جوبا حول مبادئ المساءلة والمصالحة، كايو كوك (العض على الجمر)، وهو طقس تقليدي يتم إجراؤه من قبل لانغو، وهي مجموعة عرقية مجاورة للآشولي، لمصالحة الأطراف التي كانت في حالة صراع، بعد إجراء مساءلة كاملة؛ تونو سي كوكا، وهي الطقوس التقليدية التي يؤديها شعب المادي لإجراء المصالحة بين طرفين كانا في حالة صراع، أيضًا بعد تحقيق المساءلة بشكل كامل؛ وآيلوك، وهي الطقوس التقليدية التي يؤديها شعب الإيتيسو لمصالحة طرفين كانا في حالة صراع، مرة أخرى بعد أن تتحقق المساءلة بشكل كامل.

2. 5. جوهر آليات العدالة التقليدية

من هذه الروايات، نستطيع عزل بعض المبادئ الجوهرية للكيان السياسي الآشولي التي تجلت في سلوك وممارسة هذا الشعب وحكامه في الأجيال الماضية. لا يشكل هذا بالطبع نهاية القصة. لا يزال هناك حاجة للاستمرار في تتبع العمليات التي أدت إلى تطور بعض الممارسات التقليدية الأصلية المتطورة، وتلاشي أخرى وظهور ممارسات جديدة، مثل الأشكال المختلفة للمعالجة النفسية في آشولي لاند وأماكن أخرى من أفريقيا.

يتمثل مبدأ تسوية الصراع بين الآشولي في تحقيق مصالحة تجمع الطرفين المتخاصمين معًا من خلال تدخل الحكماء، ما يؤدي إلى القبول بالمسؤولية والتعبير عن الندم. من ثم يتم تحديد التعويض. الشرط اللازم لعمليات التعافي المجتمعي هذه، يتمثل في الاعتراف الذي يهدف إلى فعل وعملية الصفح من خلال إعادة تشكيل علاقات الثقة واستعادة التلاحم الاجتماعي.

يستند الماتو أوبوت إلى القبول الكامل بمسؤولية الشخص عن الجريمة التي ارتكبت أو عن انتهاك أحد المحظورات. من الناحية العملية، فإن الخلاص ممكن، لكن فقط من خلال الاعتراف الطوعي بالخطأ وقبول المسؤولية، والسعي للحصول على الصفح الذي يفتح المجال للمعالجة.

التسامح والغفران مفهومان راسخان في مبادئ الماتو أوبوت والطقوس الأخرى المرتبطة به. يحيط هذا الطقس بالذنب الجماعي إضافة إلى الذنب الفردي. إنها عملية، يقرر من خلالها أطراف الصراع التعامل مع تبعاته وتداعياته على المستقبل بطريقة جماعية ومقبولة ديمقراطيًا وبشكل متبادل. تعترف العملية بالقيمة الأخلاقية والكرامة لكل الأطراف المعنيين والضحايا والمرتكبين والمجتمع بشكل عام، وتسعى لإنقاذ وتأكيد هذه القيم في محاولة لترسيخ مجتمع لائق، مع التركيز بشكل رئيسي على التعايش واستعادة العلاقات بين الأعداء السابقين كأساس لمنع تكرار الجرائم المروعة. إن قطع العلاقات بين المجتمعات المتصارعة إلى أن يتم أداء طقس التطهير ما هو إلا إدانة للشر. إنه يسمح للضحايا، طوال الفترة التي يدومها هذا الانقطاع، بكبت الاستياء والكراهية التي نمت كوسيلة للانتقال إلى توقع بداية علاقة جديدة. فعل ذبح العنزة والكبش وتبادل الرؤوس، يذكر المرتكبين وأولئك الذين يشهدون الطقس بأن هناك ثمنًا ينبغي دفعه عند انتهاك القواعد المتفق عليها للتعايش. يجسد ماتو أوبوت مبدأ أن المجتمع والمرتكب يسهمون، إلى الحد الممكن، بالاستعادة العاطفية وإصلاح الرفاه الجسدي والمادي للضحية. إن المبادئ الكامنة في جوهر هذا الطقس، والذي استخدمه الآشولي بنجاح في إدارة الصراعات منذ أجيال، هي في الواقع نفس مبادئ آليات العدالة الانتقالية التي يتم استعراضها حاليًا في الدراسات الحديثة بوصفها ›نماذج‹، تحيط بنفس مبادئ الحقيقة والمساءلة والتعويض واستعادة العلاقات.

لقد كشف الصراع في شمال أوغندا عن أن ثمة كمًا غنيًا من الأنظمة التقليدية للقانون والعدالة تعكس مبادئ إدارة الصراع وتوفر عناصر جزائية وتصالحية، حيث إن الهدف يكون إعادة إدماج المرتكبين في مجتمعاتهم ويصالحهم مع الضحايا، من خلال معرفة الحقيقة والاعتراف والتعويض والندم والصفح. يستند هذا الجسد من الممارسات التقليدية إلى نظرية سليمة. إنه يمثل التناقض الواضح مع المقاربة الجزائية الخصامية، التي تصر على العدالة قبل السلام. والاختلافات ليست مفاهمية وحسب، بل تتعلق بالنظام العام الكوني والمعرفي، كما يظهر وصف العملية أعلاه. ينبغي أن يكون هناك الآن محاولة لتحقيق المصالحة بين هذين النظامين الفكريين، العدالة الجزائية والعدالة التصالحية، وعلى ذلك الأساس وضع تصوّر لمقاربة مركّبة شاملة للحرب والسلام على أساس عالمي.

3. الآليات التقليدية للعدالة التصالحية اليوم

3. 1. أثر الصراع والاحتمالات الكامنة للآليات التقليدية للعدالة التصالحية

لقد أدى الصراع في شمال أوغندا إلى القضاء على جزء كبير من النسيج الاجتماعي للآشولي الذي كان متماسكًا حتى بداية الصراع. كان ذلك النسيج الاجتماعي، هو الأساس الذي نمت فيه الأشكال التقليدية وأنظمة المعتقدات والممارسات وتم تنظيمها بشكل فعال ومثمر. لا تزال بعض الممارسات والمعتقدات منتشرة على نطاق واسع في بعض مناطق آشولي لاند، لكنها باتت أقل شيوعًا في مناطق أخرى. علاوة على ذلك، فإن بعض الطقوس لم تؤدَّ ربما منذ وقت طويل في منطقة معينة بسبب انعدام الأمن خلال فترة الحرب، وما نتج عن ذلك من فقر مدقع جعل من المستحيل جمع كل المكونات الضرورية؛ ربما لا يزال من الممكن تطبيقها والسعي إلى ذلك من قبل المجتمع نفسه. لقد أدت الديناميكية الكامنة في هذا الصراع، دون شك، إلى تغيير شكل الهوية الثقافية للآشولي، الذين باتوا يتأثرون الآن ليس فقط بتقاليدهم بل أيضًا بالدينين المسيحي والإسلامي، إضافة إلى تأثرهم ب ›الحداثة‹. رغم ذلك، فإن دعامات الهوية الآشولية الحالية تتعلق بمعتقدات، ومواقف وممارسات معينة على الأرض، ويتم التعبير عنها من خلال الطقوس والصلوات وجلسات الاستماع في المحاكم. هذا المزيج الديناميكي من الهويات والمعتقدات ينبغي أن يبقى دائمًا في الأذهان.

حتى لو كانت المقاربات ›التقليدية‹ لا تزال مهمة وذات معنى في آشولي لاند، فإنها باتت أقل أهمية لبعض أفراد هذا الشعب. وهذا ينطبق بوجه خاص على الشباب الذين كبروا خلال فترة الحرب، وكانت فرصهم محدودة جدًا في التعرف على مثل تلك الممارسات والمشاركة فيها. بعض المسيحيين المؤمنين يرفضون الممارسات التقليدية بشكل كامل بوصفها ›شيطانية‹. رغم ذلك، ففي العقل الأفريقي لا تستطيع، لا المسيحية ولا أي دين آخر “مستورد”، أن يحل محل معتقداتهم الأخلاقية والروحية الراسخة. يمكن لهذه المعتقدات فقط أن تشكل “إضافة” لنظام معتقداتهم الأصلي الذي كان يمارس قبل “قدوم” الأديان الأجنبية. وعلى نحو مماثل، فإن جيش الرب للمقاومة، ورغم ادعائه بأنه يعتنق المبادئ المسيحية، فإنه لا يفصل نفسه عن القيم الراسخة في الممارسات التقليدية. كما أن هذه الممارسات قد تكون أكثر صلة بوضع جيش الرب للمقاومة، لأن خوفهم الحقيقي (في رأيي الشخصي) ليس الإدانة من قبل المحكمة الجنائية الدولية بل الخوف من مواجهة المجتمعات التي ارتكبوا بحقها مختلف أشكال الأعمال الوحشية، والتمكن من العيش مع هذه المجتمعات عندما ينهي تمرده.

خلال العقدين الذين سبقا الحرب الحالية، تراجعت العديد من المعتقدات والممارسات التقليدية، في حين  تم تعديل الممارسات الأخرى التي ظلت مهمة للناس لتتوافق مع الظروف الراهنة. لقد ظهرت معتقدات وممارسات جديدة تنزع إلى الامتزاج مع الممارسات الدينية المسيحية. سيكون من الجوهري بالنسبة لمجتمع الآشولي الانخراط في نقاش شامل ومفتوح للوسائل التي يمكن من خلالها استخدام الطقوس والمعتقدات التقليدية، لتعزيز عمليات العلاج والمصالحة في آشولي لاند التي مزقتها الحرب، على أي مستوى ممكن بين القطاعات المختلفة للمجتمع.

3. 2. العلاقة مع السياسات والأدوات الأخرى للعدالة الانتقالية

في الفقه الآشولي، ليس هناك تناقض بين المساءلة والمصالحة، وفي الواقع فإن العنصرين مترابطان. الأهم من ذلك، أن الإفلات من العقاب أمر غير مقبول. يعد نظام العدالة التقليدية والمصالحة لدى الآشولي انعكاسًا عمليًا لتطبيق المفهوم الحديث للعدالة الانتقالية، بمعنى دراسة وقائع الماضي والحاضر بما يعيد صياغة المستقبل. يمكن لعملية التحقيق والتقصي هذه، أن رُختج إلى السطح خيارات لعملية تنفيذ هذا المفهوم ترتكز على الضحية. من الممكن من خلال عملية التحقيق أو التقصي هذه، التعرف على العوامل المسببة وتبعات انتهاكات حقوق الإنسان. بالمقابل، فإن هذا سيشكل المسار نحو المستقبل، وتحديد الوسائل التي يمكن من خلالها معالجة تلك الانتهاكات لحقوق الإنسان في فترة ما بعد الصراع. كما يمكن لهذا النوع من التحقيق وسبر الخذلان الذي حدث في الماضي أن يفضي، من خلال عملية تشاورية متضافرة، إلى تنفيذ خطة وطنية.

لقد مضت أوغندا أبعد من أي بلد آخر في إدماج مبادئ معينة للعدالة التصالحية التقليدية في قانون عفوٍ، بات الآن نافذًا. تتمثل إحدى العقبات الماثلة أمام تحقيق التقدم في مباحثات السلام في جوبا في قضية إدانات المحكمة الجنائية الدولية. ومن أجل التغلب على هذا المأزق، فإن كل المؤشرات تشير إلى الآليات التقليدية كمخرج من هذا الوضع: وقد حقق العمل، الذي يهدف إلى إعادة صياغة العملية بشكل يجعلها تنسجم مع المعايير “الغربية”، مرحلة متقدمة.

في السيناريو الأوغندي، ينبغي أن تفضي عملية بناء السلام في المحصلة إلى برنامج وطني. إلا أن الأعمال الوحشية المرتكبة تركزت في المنطقة الشمالية. وهكذا، وحدهم الناس الذين تعنيهم “الحقيقة” ينبغي أن يشاركوا في عملية التصالح مع الماضي. في الواقع، فإن هذا سيشكل عملية صمت أو “نسيان اجتماعي”، حيث يتشاطر الأشخاص المعارف الحميمة المشتركة، التي يتم الاحتفاظ بها داخل حدود المجموعات الاجتماعية الموثوق بها. وتشكل الثقة إحدى لبنات البناء لأي تنمية اجتماعية؛ كما يمكن لربط مثل هذه الثقة الشخصية مع تعزيز المؤسسات المدنية وإعادة تأسيس العلاقات الاجتماعية أن يكون لها مضامين مهمة بالنسبة لخروج المجتمع من حالات الانقسام والعطالة. هذه الثقة التي فشلت السياسة في رعايتها، يمكن تحقيقها فقط عندما تستند إلى الثقافات التقليدية المهمة بالنسبة للناس الذين تأثروا بالصراع، والتي يؤمنون بها. تعد إعادة الإدماج الناجحة للمقاتلين السابقين مكونًا مهمًا في دفع العملية السياسية؛ ويمكن القيام بذلك بنجاح في سياق التقاليد المعاشة التي توفر “البديل الواضح للحياة في الأدغال”.

ببساطة أكثر، فإن سعينا للمصالحة الوطنية اليوم ينبغي أن يشمل تأسيس نظام تقليدي أفريقي فعال ومناسب للعدالة التصالحية كخيار بديل لنظام العدالة الغربي.

3. 3. اللاعبون الرئيسيون والشركاء المعنيون ودرجة الشمولية

إن المنهج الكلي في التعامل مع التحديات الحساسة التي عرضت أعلاه صعب للغاية لكنه ضروري جدًا. وهذا يدعو لجهود متضافرة من قبل لاعبين وشركاء معنيين مختلفين، ينبغي أن يلعبوا جميعهم دورًا فيه.

ينبغي إعادة إحياء طريقة عمل النظام التقليدي للآشولي خلال الصراع، استنادًا إلى المشاورات الدائمة، والتفاوض على حلول للمشاكل، وبناء الإجماع والاحترام لسلطة الزعماء/الحكماء. على القادة والحكماء التقليديين أن يلعبوا أدوارهم الخاصة كوسطاء لكسر انعدام الثقة المتجذر بين أطراف الصراع وجسر الفجوة )كرُسل للسلام(، وبناء الثقة، وذلك بتشجيع المحادثات وإقناع الناس بوقف الأعمال العدائية، والشروع في اتصالات مباشرة مع الأطراف المتحاربة، وإدماج اللاعبين من خلال طقوس التطهير التقليدية، والتوسط في منع القتال بين الأفراد والعائلات نتيجة للصراع. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن يضطلعوا بأدوار التعبئة وحشد الدعم والمناصرة من خلال التشبيك مع مختلف الأفراد والمجموعات، على المستوى المحلي والوطني والدولي.

للمجتمع المدني، وهو الفضاء المنظم للحياة الاجتماعية، الطوعي، الموّلد والداعم لذاته، المستقل عن الدولة، والمحكوم بنظام قانوني أو مجموعة من القواعد المشتركة، دور يلعبه في جهود السلام والمصالحة من خلال التواصل، والمؤسسات والشبكات الاجتماعية الواقعة خارج الدولة والاقتصاد. يمكن تصنيف اللاعبين في المجتمع المدني، بشكل عام، على أنهم يشملون المنظمات الاقتصادية، الهيئات الثقافية، المؤسسات التنموية، المنظمات المدنية، منظمات المصالح، المنظمات التي تركز على القضايا، و”السوق الأيديولوجي” الذي يكون على شكل وسائل ومؤسسات الإعلام المستقلة في المجال الواسع للأنشطة الثقافية والفكرية. وهذه ذات طبيعة خاصة لكنها ذات توجهات عامة، بمعنى أنها تتطلع إلى الخارج لمصلحة المجتمع بأكمله وترتبط بالدولة، لكنها تحتفظ بمسافة أمان عن السلطة الرسمية في ظل الدولة، بينما تعمل في الوقت نفسه للحصول على تنازلات ومزايا، وتغيير في السياسات والإغاثة والتعويض والمساءلة.

ينبغي أن يشمل مجال تدخل المجتمع المدني القضايا العديدة التي تؤثر بالتمتع بحقوق الإنسان، الذي يشكل السلام نقطة ارتكاز فيها. وينبغي أن تشمل هذه، أدوار التيسير والتحكيم والتفاوض والوساطة والمصالحة.

يمكن تصنيف اللاعبين الآخرين على أنهم القيادة العليا، التي تشمل القادة العسكريين والسياسيين والدينيين، مثل مبادرة سلام رجال الدين في الآشولي التي يلعب القادة المشاركون فيها أدوارًا بارزة؛ القيادات المتوسطة، اللاعبين الذين يحظون بالاحترام في قطاعاتهم، القادة العرقيين/الدينيين، الأكاديميين، المفكرين ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام؛ وقيادات القواعد الشعبية، وإشراك القادة المحليين وقادة المنظمات غير الحكومية لدى السكان الأصليين، ومطوري المجتمعات ومسؤولي الصحة المحليين أو المعالجين التقليديين وقادة مخيمات المهجرين داخليًا.

في جميع هذه الأمثلة، تشارك النساء والشباب بطريقة مكملة لأدوار نظرائهم من الذكور الكبار دون تمييز.

4. تحليل نقاط القوة والضعف، والفرص والتهديدات

لقد قدمت المبادرات المختلف التي أطلقت بحثًا عن حل للصراع في شمال أوغندا دروسًا مفيدة بالنسبة للجهود المبذولة لتحقيق السلام والمصالحة. مؤخرًا، تركز الاهتمام والأمل على الأنظمة التقليدية في إدارة الصراع للمساعدة في الخروج من المأزق الذي يبدو أن عملية السلام عالقة فيه.

يتناول هذا القسم وجهات نظر المؤلف حول نقاط القوة والضعف، والفرص والتهديدات التي تميز نظام العدالة التقليدي لدى الآشولي فيما يتعلق بقابليته للتطبيق على تسوية الصراع الذي مضى على نشوئه عقدين من الزمن في المنطقة، وإمكانية تعديله ليتلاءم مع سيناريوهات الصراع في مناطق أخرى من العالم.

4. 1. نقاط القوة

1. يعزز نظام العدالة التقليدي ثقافة الحوار والشمولية المترسخة في طبيعة هذه العمليات. في أي حالة صراع، يلعب الحوار دورًا مهمًا بوصفه الخطوة الأولى نحو التوصل إلى حل سلمي.

2. يتسم هذا النظام بخصوصية ثقافية، كما يتصف بالاتساق، ويشمل طرائق تم اختبارها وتجربتها وأدت إلى استعادة العلاقات في الماضي. وهذا ما يصعّب محاولة “المفسدين” الموجودين دائمًا لاستغلال العملية لأغراضهم السياسية الخاصة.

3. إن الطبيعة المنفتحة للعملية المطبقة، تشكل بحد ذاتها رادعًا للكثيرين الذين يمكن أن يكونوا قد فكروا في ارتكاب جرائم مماثلة.

4. يعزز نظام العدالة التقليدي إحساسًا أكبر بالوحدة، وذلك بالسماح للعديد من أفراد المجتمع المحلي بأن يكونوا شهودًا على العملية أو أن يشاركوا فيها، وكذلك التعامل مع أية شكوك فيما يتعلق بما إذا كان قد تم تحقيق العدالة والإنصاف.

5. تولد عملية العدالة الانتقالية في كثير من الأحيان، حصائل تتركز على المجتمع المحلي وتحدث أثرًا إيجابيًا على المجتمع بأسره.

6. تحظى الاتفاقيات التي يتم التوصل إليها بمصادقة المجتمع المحلي وقواه البشرية. وفي العادة، تكون الاتفاقية التي يتم التوصل إليها عصية على الاختراق وينبغي تنفيذها بشكل يرضي المجتمع بأسره. ويتم تحقيق “الالتزام” بدرجة عالية جدًا.

7. احتمال قيام المرتكبين برفض أو تجنب العملية محدود، حيث إن العملية تتم بدرجة كبيرة داخل المجتمع نفسه.

تمثل نقاط القوة هذه في عمليات العدالة الانتقالية خيارات ملائمة، وقابلة للحياة لتحقيق سلام ومصالحة حقيقيين. بعد سنوات من النشاط العسكري المكلف، لم يتطور الصراع في شمال أوغندا إلى حالة يمكن القول معها إن أي مقاربة بعينها يمكن أن تحمل مفتاح تسويته.

4. 2. نقاط الضعف

1. نظام العدالة التقليدي يتسم بالخصوصية الثقافية وعدم المرونة. من الصعب، في كثير من الأحيان، على الأشخاص الذين لا ينتمون إلى ثقافة معينة أن يتفاعلوا بإيجابية مع عمليات العدالة التقليدية. ليس هناك هامش أو احتمال يذكر لتغيير أو تعديل القواعد الموضوعة لتتناسب مع ظروف معينة.

2. يعتمد النظام بشكل كبير على المساهمة المتمثلة في معارف وخبرات الحكماء في ظروف مختلفة، وليس على جهود الوسطاء المحترفين. في الوقت الراهن، حيث لا يتوفر الحكماء دائمًا، يمكن أن يلجأ المجتمع المحلي إلى تأجيل عملية العدالة التقليدية.

3. يمكن لغياب إطار مكتوب وواضح لتنسيق جميع العمليات أن يعقدها أو يجعلها عبثية بالكامل.

4. ينبغي أن يتم تنفيذ عملية العدالة التقليدية في وقت مناسب وباتباع صيغة متفق عليها، ومن شأن ذلك أن يؤخر إحقاق العدالة.

5. تكون الاتفاقيات التي يتم التوصل إليها شفهية، ويعتمد تنفيذها على الالتزام والإرادة الطيبة وشخصية الضالعين في العملية.

6. قد لا تكون الممارسة مقبولة بسهولة من قبل المجتمعات المحلية المجاورة، مما يحد من إمكانية تطبيقها.

7. قد لا تكون الممارسات متسقة وموحدة تمامًا بين مختلف المجتمعات المحلية المكوّنة لشعب الآشولي.

8. نظرًا إلى أنها تشكل معالجة قبلية، فإن نظام العدالة التقليدي لدى الآشولي يعتبر دائمًا مناسبًا لمصالحة جنود جيش الرب للمقاومة الآشوليين مع مجتمعاتهم المحلية، حيث أجبروا على ارتكاب جرائم شنيعة ضد الإنسانية. إلا أن النظام في شكله الأصلي لم يوضع له إطار مفاهيمي كطريقة للتحكيم أو للتقاضي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لأن مثل هذه الجرائم لم تحدث مطلقًا في آشولي لاند في المرحلة ما قبل الاستعمارية. ومن هنا، فإنه لا يصلح للتطبيق كإجراء مصالحة وحيد لمرتكبي الأعمال الإرهابية الذي ينتمون إلى جيش الرب للمقاومة. علاوة على ذلك، في القانون الأوغندي، لا يسمح للسلطات والقوانين العرفية بمقاطعة أية قضية جنائية، ناهيك عن الجرائم الأكثر خطورة ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

9. تتمثل إحدى نقاط الضعف الجوهرية التي تعتري تطبيق ال ›ماتو أوبوت‹ كمعالجة، في أنها تظهر مفاهيميًا تمرد جيش الرب للمقاومة بوصفها مسألة آشولية محلية. في الواقع، فإن هذه الحرب ذات أبعاد وطنية ودولية بطبيعتها.

10. ترتبط الوظائف القضائية للآليات التقليدية عند الآشولي بالتعليم الإجتماعي الواسع النطاق الذي يتم تلقيه في المنزل وفي المجتمع المحلي من، وقد تدنس هذا الفضاء الاجتماعي والنسيج الاجتماعي بالصراع الطويل وإدخال مجموعات محلية بأكملها في المخيمات، وبالتالي لا يمكن أن يحظى تطبيق الأنظمة التقليدية بالتقدير المناسب، خصوصًا من قبل الجيل الشاب. إن إعادة إحياء هذه الخصائص الجوهرية في مجتمع الآشولي على نطاق واسع يشكل أولوية هائلة ومهمة إستراتيجية مع استعداد السكان للعودة إلى منازلهم الأصلية.

4. 3. الفرص

1. يوفر نظام العدالة التقليدي فرص تعلم تجريبية، خصوصًا بالنسبة لأفراد المجتمعات المحلية أنفسهم. إن الغاية الحقيقية لما يمثله الطقس، تتبدى فقط بعد أن يكون المرء قد خضع له. إنه ينطوي على إمكانية حقيقية لا ينتبه إليها في استعادة المجتمع صحته العقلية.

2. أفراد المجتمع المحلي يكونون شهودًا على القرارات المتخذة. إن الوعد الذي يقطعه المشاركون وفحواه “كلمتي هي شرفي” يشهده الجميع، وسيشكل معيارًا تتم مراقبته في سلوك المرتكب بعد ذلك. المجتمع المحلي نفسه يلعب دور الخدمات الإصلاحية، بينما يسمح للمرتكبين بمتابعة أنشطتهم الإنتاجية المعتادة والإسهام في رفاه الأسرة والمجتمع. النظام الغربي “الحديث” للعدالة سيحكم على المرتكب بالسجن ليقضي حكمًا محددًا، وبالتالي يعزله عن المجتمع إلى أن ينتهي حكمه.

3. يمنح اللاعبون المشاركون في نظام العدالة التقليدي الفرصة لإظهار أنهم تعلموا دروس الشمول والمرونة، وأن يستجيبوا طبقًا لذلك. يؤدي هذا، إلى خلق شعور وروح المسؤولية الجماعية في المجتمع المحلي.

4. العملية مفتوحة للجميع، حيث يتم إجراء الجلسات في ظل الشجر وعلى أرض مفتوحة. وهذا يسمح للجميع بالتأكد من حقيقة أنه تم إحقاق العدل، وأن يستجيبوا طبقًا لذلك بتبادل الصفح.

5. يعالج نظام العدالة التقليدي استعادة الأعراف الإجتماعية، والقيم وأنظمة المعتقد التي توفر فرصًا لتصحيح الأمراض الاجتماعية في المجتمع المحلي.

6. عمليات العدالة التقليدية تكون إلى حد كبير مجانية وتطوعية، ومن هنا فإن الوسطاء لا يتقاضون أجورًا؛ على النقيض من الرسوم القانونية الباهظة والأجور التي تدفع للمحامين والقضاة الرسميين وغير الرسميين في النظام الغربي للعدالة. ولذلك فإن تطبيقه لا يعد مكلفًا.

7. تمنح الممارسات الثقافية للمجتمعات المحلية شعورًا بالهوية، يمكن البناء عليه لتحقيق أهداف اجتماعية وتنموية إيجابية جماعية.

يمكن الاستفادة من هذه الفرص لتزويد المجتمعات المحلية، وبالتالي البلاد بأكملها، بمعيار مثالي لإعادة دراسة تاريخها المضطرب وتصميم حلول محلية لمشاكلها. في كثير من الأحيان، دفعنا فشلنا في تقدير أننا نمتلك كأفارقة فهمنا الخاص بنا للحياة إلى القبول بكل شيء أوروبي، دون تحليل نقدي لتلك الطرق الغريبة عنا. تتمتع كل ثقافة في المجتمعات الأفريقية بقيمة بالنسبة للناس المعنيين؛ وهذا يفسر سبب المحافظة على الثقافات ونقلها من جيل إلى جيل. يتمثل التحدي، في تحسين الطرق والمنهجيات من أجل الحد من آلام ومخاطر الأمراض الاجتماعية التي يمكن أن تصيب مجتمعاتنا.

4. 4. التهديدات

1. تؤثر مهارات ومرونة ونشاط الوسطاء في النتيجة التي يتم التوصل إليها. إذا تم اختيار وسيط ضعيف أو غير كفؤ، فإن النتيجة المتوخاة قد لا تتحقق بسرعة، أو يتم تمييع معنى وجسامة العملية برمتها.

2. يمكن للتنسيق السيء للعمليات أن يعرض النتيجة النهائية المتوخاة للخطر.

3. يتمثل الافتراض الكامن في عملية العدالة التقليدية في أن الطرف أو الأطراف والمجتمعات المحلية المظلومة ستكون مستعدة للصفح. لكن الصفح مسألة حساسة وشخصية للغاية، ويمكن أن تتأثر دون أن تنفَّذ.

إذا كان للصفح أن يوفر وسيلة لتحقيق التلاحم الاجتماعي والتعافي، ينبغي أن يكون الناس مستعدين وقادرين على الصفح عن بعضهم بعضًا، وهذا بحد ذاته يشكل عملية تخطي مواقف الاستياء والغضب التي يمكن أن تستمر عندما يكون الشخص قد تعرض للأذى. إن عمليات الاعتراف والصفح هي عمليات متطلبة بحد ذاتها، ويستحسن تقديمها على المستويات الشخصية. إن الصفح، والشفاء والمصالحة هي عمليات شخصية بعمق، وقد تكون احتياجات وردود فعل كل شخص حيال عملية صنع السلام وقول الحقيقة مختلفة. وبالفعل، لا يمكننا أن نعرف فعليًا ما إذا كان الصفح الحقيقي قد حدث. إن مجرد التلفظ بعبارة “أنا أسامحك أو أصفح عنك” لا ينبغي أن تتبع بالضرورة بفعل لاحق ما، كما يحدث في حالة “الوعد”. إنه ليس حدثًا بل عملية، وهي تتطلب أن يتم العمل عليها وإصلاحها والتغلب على المواقف.

وهذا ما يترجم بشكل جوهري إلى امتلاك تسوية الصراع بالتغاضي عن جميع جهود صنع السلام الأخرى، مثل محادثات السلام وقضية المحكمة الجنائية الدولية.

السؤال، هو ما إذا كانت “عتبة العدالة” فيما يتعلق بجرائم الماضي متدنية أكثر مما ينبغي من خلال تطبيق مبدأ الصفح والغفران. من منظور نظام العدالة الجزائية أو الجنائية، فإن ممارسة العفو والغفران الشاملين قد تعتبر تحديًا للعدالة بحد ذاتها، وتتسم بنقاط ضعف خطيرة نتيجة لذلك فيما يتعلق بالمساءلة. لكن مرة أخرى، مَن المسؤول عما حدث؟ هل تم أيضًا ارتكاب جرائم من قبل أشخاص غير أفراد جيش الرب للمقاومة، باسم جيش الرب أو من قبل القوات المسلحة الوطنية؟ إذا كان ينبغي الإجابة على هذه الأسئلة في محكمة رسمية، فإن الافتراض الرئيسي ينبغي أن يكون أن الوصول إلى العدالة موجود عند الحاجة. من المستبعد أن يكون هذا هو الحال في شمال أوغندا. بدلًا من ذلك، فإن الممارسات المحلية لآليات العدالة التصالحية تسعى لتطبيق أشكال بديلة من العدالة، تمامًا كما فعلت الحكومة الأوغندية، عندما تم إصدار قانون عفو في عام 2000، كوسيلة لتقديم حوافز للمتمردين للتخلي عن الصراع. إلاّ أن قيام الحكومة بإحالة جيش الرب للمقاومة إلى المحكمة الجنائية الدولية وما تلا ذلك من إدانات تتعارض مع منطق ومبرر العفو والصفح على حد سواء. تكمن التعقيدات في العمل المتوازي للنظامين معًا، حيث يستهدف أحدهما فرض العقوبة على قيادة جيش الرب للمقاومة، بينما يقدم للمقاتلين العاديين عفو عام من قبل الحكومة، لكن في الوقت نفسه يُترك الأمر لأنظمة العدالة التصالحية المحلية.

5. الاستنتاجات والتوصيات

5. 1. ملخص النتائج

منذ استقلالها عام 1962، شهدت أوغندا حلقة لا تنقطع من انتهاكات حقوق الإنسان، على مستوى ما، أو صراعًا مباشرًا، من الاقتتال على السلطة والهيمنة، إلى هجوم عيدي أمين على السكان، والأعمال الوحشية التي ارتكبت بحق سكان آشولي من قبل القوات الغامضة لجيش الرب للمقاومة. في كثير من الأحيان وخلال هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبيًا، كان الشمال أو الشماليون في مركز الأحداث، سواء بوصفهم لاعبين مهيمنين أو كضحايا للصراعات. في السنوات الأولى العنيفة بعد الاستقلال، تمكنت الحكومات من عسكرة الفضاء العام، بتحويل الجيش إلى ضامن للهيمنة السياسية للأطراف الموجودة في السلطة. لكن كأداة سياسية، فإن الجيش نفسه كان ضحية للتنافس على أساس عرقي.

لا يمكن تحديد سبب واحد واضح لتفسير ابتلاء هذا البلد بهذه الحلقة من الصراعات، لكن فهم أسباب ودوافع الصراعات أمر جوهري إذا كان لأوغندا أن تتمكن من وقف أو منع العنف أو الحرب. المسألة لا تقتصر على أن الطبيعة المعقدة للأسباب تجعل من الصعوبة حتى الاتفاق على أصول الصراع، بل إن أبعادًا وعوامل جديدة من المحتمل أن تنشأ مع تطور الصراعات الأطول ونضوجها.

أحد الأمثلة على ذلك، يتمثل في حقيقة أن صراع جيش الرب للمقاومة يبدو أنه استمر وتغذى على مستويات متزايدة من الدعم السوداني، ما أعطى للصراع في شمال أوغندا بعدًا دوليًا.

في مواجهة الآثار الإنسانية الخطيرة للصراع الذي دام عقدين من الزمن، فإن المتفاوضين في أوغندا ينزعون إلى التغاضي عن تاريخ الصراع سعيًا لوضع حد فوري للمعاناة.

تشير نتائج دراستنا الحالية، إلى أن الناس في آشولي لاند يحتفظون بمعتقداتهم الثقافية المرهفة حول عالم الأرواح ونظامهم الاجتماعي الذي يشكل، إلى حد ما، تصوراتهم عن الحقيقة والعدالة والصفح والمصالحة التي يريدون استحضارها وتطبيقها.

تتمثل الأهمية الفريدة للنظام التقليدي لدى الآشولي، في أن مرتكبي الأعمال الوحشية سيظلون في المجتمع حتى بعد التوصل إلى اتفاق سلام. على عكس عملية محكمة نورمبيرغ، حيث يمكن للمنتصر أن يمضي حرًا طليقًا بعد أن تكون الحسابات قد سويت بطريقة ›قضائية‹، فإن تسوية صراع جيش الرب للمقاومة سيتطلب مستقبلًا اجتماعيًا يعيش فيه المرتكبون والضحايا وعائلاتهم معًا.

لقد تم تعطيل التعاليم الاجتماعية المتعلقة بهذه المفاهيم ونقلها من جيل إلى جيل وبحدة، وذلك من خلال اقتلاع حوالي 1.8 مليون شخص من منازلهم ومناطقهم ونقلهم إلى مخيمات الإقامة الجبرية. وقد كان واضحًا إضعاف سلطة الحكماء والزعماء التقليديين وأدوارهم الجوهرية في إنفاذ التفاهمات والالتزام بالمعايير المحلية. على هذه الخلفية، يدعو سكان هذه المخيمات في كثير من الأحيان إلى إعادة إحياء وتمكين الهيكليات والممارسات التقليدية لمجتمعاتهم بوصفها المخرج الوحيد من وضعهم المزري، وليس من خلال نظام عدالة مجرد وغريب.

إن الثقافة والمجتمع في آشولي معقدان جدًا ويخضعان لعملية تغيير مستمر، وقد اتضح ذلك وتشكل في اتجاهات معينة بسبب الرعب والتهجير على مدى أكثر من 20 عامًا من الحرب. وفي هذا السياق، فإن الإفراط في التبسيط ليس مفيدًا. كما أنه ليس من المفيد تمجيد المقاربات التقليدية بوصفها العلاج الوحيد ولا اعتبارها ممارسات شيطانية بالنسبة للناس الذين يبحثون عن المساعدة للخروج من معاناتهم. إن من الحكمة الاعتراف بالإمكانيات الكامنة الإيجابية للطقوس والمعتقدات التقليدية، ليس على أنها تتعارض أو تتنافس مع مقاربات أخرى بل بوصفها تكمل هذه المقاربات. إن تجاهل الوسائل التقليدية التي ثبت أنها كانت فعالة في الماضي ليس منطقيًا. من ناحية أخرى، فإن هذه الأساليب والممارسات لا توفر علاجًا لكل الشرور.

يتمثل الوجه المهم الذي ينبغي الاعتراف به وتشجيعه، في الدور المحوري للزعماء التقليديين والدينيين في الآشولي. في هذا الصراع الأخوي الطويل، فإن دور الزعماء التقليديين والطقوس المجتمعية التي تحقق المصالحة وغيرها من الطقوس التي يتوسطون فيها تمثل آليات لا غنى عنها لبناء الثقة وتعزيز المصالحة الحقيقية. ينبغي أن تنبع وسيلة الإقناع الأكثر فعالية من خارج عملية الحوار الرسمي، وأن تشمل أفراد المجتمعات المتأثرة وعائلاتهم، إضافة إلى الزعماء الدينيين والتقليديين الذين يشكلون جميعهم حلفاء مهمين في عملية البحث عن خيارات عملية وأكثر واقعية لتسوية الصراع. لقد قبلت الوفود المتفاوضة والأطراف المتقاتلة بهذا عندما وقعت البند الثالث الإشكالي من أجندة محادثات السلام في جوبا، والذي نص على تطبيق عملية نظام العدالة التقليدي، ولو جزئيًا، والتوصل إلى طريقة للخروج من المأزق.

يمثل سوء التنسيق الذي تميزت به مختلف المبادرات والمحاولات درسًا مهمًا آخر. إن غياب هيكلية أو إطار واضح لتنسيق جميع هذه المحاولات يمكن أن يعقدها في أفضل الحالات، إذا لم يجعلها عبثية بشكل مطلق.

يتمثل التحدي في فهم واستخدام مختلف المقاربات وبطرق تجعلها مكملة لبعضها بعضًا وبشكل منسق، بدلًا من أن تعمل ضد بعضها بعضًا. وهكذا، فإن الوسائل التقليدية لتعزيز المصالحة والتعافي يمكن الاعتماد عليها إضافة إلى مساهمات الجهود المسيحية وغيرها من المعتقدات الدينية وطرائق العلاج النفسي الغربية والمحاكم الحديثة، فضلًا عن آليات وأدوات أخرى عديدة يمكن أن تلعب دورًا، مثل لجان الحقيقة والمصالحة، التعويضات، طقوس التطهير، بناء النصب التذكارية، وما إلى ذلك. وهذا مهم في سياق الصراع الدائر حاليًا واستمرار عمليات التهجير، ويصبح أكثر أهمية في سيناريو ما بعد الصراع عندما تصبح قضايا إعادة التوطين، وإعادة الإدماج واستعادة وسائل كسب الرزق المستدامة ذات أهمية قصوى.

5. 2. التوصيات

يمكن للمرء التوقع أن يكون من الصعوبة البالغة التوصل إلى ›الحقيقة‹ فيما يتعلق بصراع مستمر منذ أكثر من عقدين من الزمن. إن تعقيد الصراع، بحد ذاته، ينطوي على خلافات جدية تعكس الاختلافات الجوهرية في المجتمع. كما أن لتشخيص طبيعة هذا الصراع، الذي يعتمد على أن من تتحدث إليه، له مشاكله الخاصة من حيث تحديد طرائق تسوية المشكلة. لقد ثبت أن الجهود غير المنسقة كانت وستظل دون جدوى.

سيتم تحقيق السلام والعدالة في شمال أوغندا فقط من خلال عملية شاملة تشرك طيفًا واسعًا من اللاعبين، يشمل الضحايا وغير المشاركين والمرتكبين وجميع الشركاء المعنيين الأخرين. من المهم القيام بحملة واسعة من التحسيس والتوعية حول إمكانية تطبيق نظام العدالة التقليدية، وفي الوقت نفسه إعطاء صوت للأفراد والمجتمعات الأكثر تأثرًا بالعنف في العملية، وذلك بمنحهم الفرصة لاستخدام عملياتهم التقليدية الفريدة.

ولذلك من المفضل اتباع مقاربة سياسية متعددة الأشكال، كونها الطريقة الوحيدة القادرة على معالجة القضايا السياسية التي كانت مسؤولة عن اندلاع الصراع. ينبغي لمثل هذه المقاربة السياسية أن تشمل جميع اللاعبين والأعداء السابقين، وينبغي أن تتجنب الوصول إلى النتيجة بحيث ›المنتصر يأخذ كل شيء‹. سيكون من الحيوي تسوية الصراع على أساس أن يكسب الجميع. وهذا سيساعد في بناء الثقة، وفي عملية المصالحة التي تحتاجها أوغندا أكثر من مراكمة الضغائن استنادًا إلى نظام عدالة مجرد. في حين أن من المفهوم أنه لا ينبغي إتاحة إمكانية الإفلات من العقاب، فإن هدف تحقيق العدالة ينبغي النظر إليه بالتوازي مع اعتبارات توفير التعافي للمجتمعات المتأثرة.

كبار السن الذين سيكونون آخر من يتذكر تقاليد شعبهم، قد يموتون قبل أن يتمكنوا من نقل معارفهم وكتابتها والاحتفاظ بها. إذا حدث ذلك، فإن جزءًا من المساهمة الفريدة التي قدمها عدد كبير من الناس للثقافة الإنسانية الكلية ستتم خسارته إلى الأبد، وسيشكل هذا إفقارًا لمعارفنا وثقافتنا. من المهم التفكير فيما تمثله هذه التقاليد في حياة شعب الآشولي وأفريقيا والعالم، بشكل عام. ربما لم تحظ هذه التقاليد بعد بالاعتراف بقيمتها الحقيقية. من الواضح أن هناك ثروة كبيرة من المعارف الكامنة في الممارسات التقليدية وفي ثقافة شعب الآشولي وغيره من الشعوب الأفريقية، ما يقدم مبادئ ذات مصداقية لإدارة الصراع وتحقيق العيش المتجانس والمنسجم في المجتمع العالمي الأوسع. كما يؤكد البروفسور كويسي كوا براه، “بمعنىً ما، فإن أهمية أفريقيا للمعرفة أمر يمكن الدفاع عنه؛ وليس فقط الدفاع عنه بل يمكن استدامته. ويتمثل هذا في الاعتراف، بأن هناك تقاليدًا وتاريخًا وتسلسلًا زمنيًا للأحداث تشكل نهجًا متميزًا لإنتاج المعرفة والتعبير عنها ومصدرًا معرفيًا في إطار زمني محدد”.

المراجع وقراءات إضافية

Allen, Tim, Trial Justice: The International Criminal Court and the Lord’s Resistance Army (London: Zed Books, 2006)

Baines, Erin et al., ‘Roco Wat I Acholi. Restoring Relationships in Acholi-land: Traditional Approaches to Justice and Reconciliation’, Vancouver and Gulu: Liu Institute for Global Issues, Gulu District NGO Forum and Ker Kwaro Acholi, September 2005, available on the Liu Institute for Global Issues website, <http://www.ligi.ubc.ca>

Barber, J., Imperial Frontiers (Nairobi: East African Publishing House, 1968)

Caritas Gulu Archdiocese, ‘Traditional Ways of Coping in Acholi’, Report written by Thomas Harlacher, Francis Xavier Okot, Caroline Aloyo Obonyo, Mychelle Balthaard and Ronald Atkinson, 2006. Copies may be obtained from <caritasgulu@iwayafrica.com>

Civil Society Organizations for Peace in Northern Uganda (CSOPNU), ‘The Net Economic Cost of the Conflict on the Acholiland Sub-region of Uganda’, Kampala, 2002

Executive Summary of the Proposed USAID/Uganda Integrated Strategic Plan 2002–2007’ [consultants’ report]

Latigo, James, ‘The Acholi Traditional Conflict Resolution in Light of Current Circumstances: National Conference on Reconciliation, Hotel Africana, Kampala’, Law Reform Journal (Uganda Law Reform Commission), 4 (September 2006)

New Vision (newspaper) 1 June 2007

Odongo, Onyango, ‘Causes of Armed Conflicts in Uganda’, Historical Memory Synthetic Paper, Centre for Basic Research (CBR) Conference, Hotel Africana, 2003 (Historical Memory Project Synthetic writings)

Prah, Kwesi Kwaa, ‘African Knowledge Production, Language and Identity’, Keynote address at the inauguration of the Marcus Garvey Pan-African Institute (MPAI), Mbale, Uganda, 9 July 2005

Ugandan Amnesty Commission, Amnesty Commission Report 2004/2005, Kampala, <http://www.amnestycom.go.ug>

Ugandan Ministry of Finance, Planning and Economic Development, Poverty Status Report, 2003

Ugandan Parliamentary Committee on Defence and Internal Affairs, Report on the War in Northern Uganda, 1997.

الفصل الخامس

المصالحة والعدالة التقليدية:

ممارسات الـ “كبا مندي” القائمة على التقاليد في سيراليون

جو آ. د. آلي

1. الصراع

1. 1. تسلسل زمني وصفي

في آذار 1991، انزلقت سيراليون إلى الفوضى عندما قامت قوة من المتمردين أسمت نفسها «الجبهة الثورية الموحدة» بغزو البلاد من ثلاثة اتجاهات على الحدود مع ليبيريا. دخلت المجموعة الأولى منطقة بومارو (في مقاطعة كايلاهون) في 23 آذار/مارس بقيادة فوداي سنكوح، وهو ضابط مفصول من جيش سيراليون. ودخلت المجموعة الثانية نفس المقاطعة من كويندو بعد أربعة أيام. ودخلت مجموعة ثالثة من الجنوب الشرقي واحتلت زيمي في 28 آذار/مارس، وهي مدينة إستراتيجية في مقاطعة بوجيهون. سرعان ما احتلت قوات المتمردين مقاطعة كايلاهون، حيث احتفظت بقاعدة قوية طوال فترة الصراع. لم يكن هناك وجود يذكر للحكومة في هذه المناطق، بعد سنوات من الإدارة غير الكفؤة والمفرطة في المركزية لمؤتمر عموم الشعب. كانت منطقتا كايلاهون وبوجيهون مرتعًا للمعارضة لحكم مؤتمر عموم الشعب.

كان المتمردون يتكونون من ثلاث مجموعات متمايزة من المقاتلين: أولئك الذين كانوا قد تلقوا تدريبًا عسكريًا في ليبيا؛ والمعارضون السيراليونيون الذين اتخذوا من ليبيريا مقرًا لهم؛ ومجموعة مقاتلي الجبهة الوطنية القومية الليبيرية التي كانت تشمل مرتزقة من ليبيريا وبوركينا فاسو. بلغ عدد القوة الغازية حوالي 100  مقاتل. وكان هدفهم الإطاحة بحكومة الحزب الواحد التي يقودها الرئيس جوزيف سيدو موموه، التي وصفتها قيادة المتمردين بأنها فاسدة وقبلية وتفتقر إلى التفويض الشعبي. وأشاروا إلى أن هدفهم هو تأسيس دكتاتورية البروليتاريا، حيث يشارك المواطنون العاديون بفعالية في جميع عمليات صنع القرار. علاوة على ذلك، فإن الجبهة الثورية الموحدة كانت ستدعم التنمية الاجتماعية – الاقتصادية، بما في ذلك إعادة إحياء المناطق الريفية. في البداية، انجذب بعض الشباب المهمشين والفقراء في الريف، بما في ذلك المدرسين، إلى خطاب الجبهة الثورية الموحدة وانضموا إلى الحركة.

فاجأ غزو الجبهة الثورية الموحدة الحكومة والجيش على حد سواء، رغم أن قائد الجبهة الوطنية القومية الليبيرية، تشارلز تايلور، كان قد أشار قبل أشهر بأنه سيهاجم سيراليون، حيث كانت قوة حفظ السلام التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، مجموعة مراقبة إيكواس (إيكوموغ) التي نشرت في ليبيريا، قد أسست قاعدة هناك. وكانت الطائرات الحربية لإيكوموغ تشن هجمات من سيراليون على قواعد المتمردين في ليبيريا. لم يكن جيش سيراليون مستعدًا للمعركة وكانت معنوياته منهارة، لكن توجب عليه أن ينخرط في مقاتلة المتمردين. حاول الضباط التعويض عن المعنويات المتردية لدى القوات وسوء التدريب والمعدات، بتجنيد عدد كبير من الرجال ودون تمييز. وكانت النتيجة تدفقًا للمجندين الذين كانوا يفتقرون إلى المؤهلات والانضباط اللازمين، وكان بعضهم من مدمني المخدرات والمجرمين المحكوم عليهم، والساعين لكسب بعض المال والمتسربين من المدارس. باتت هذه المجموعة من شذاذ الآفاق والعناصر الإجرامية تهيمن على الجيش، ما كان له تبعات كارثية.

في حين كانت حكومة مؤتمر عموم الشعب تحاول احتواء هجوم المتمردين وفي الوقت نفسه البحث عن وسائل مشبوهة للبقاء بالسلطة إلى ما لا نهاية، هاجمت مجموعة من الضباط الشباب في الجيش السيراليوني من الجبهة في المنطقة الشرقية مدينة فريتاون، العاصمة، في الساعات الأولى من صباح 29 نيسان/أبريل 1992، احتجاجًا على الظروف السيئة في ميدان المعركة. وعند منتصف النهار، ما كان قد بدأ كتمرد في صفوف الجيش تطور إلى انقلاب كامل. جرى نقل الرئيس موموه بالطائرة إلى كوناكري في غينيا، من قبل جنود إيكوموغ. ثم أنشأ ضباط الجيش مجلس الحكم الوطني المؤقت الذي اختار النقيب فالانتين ستراسر رئيسًا له. تعهد المجلس بإنهاء الحرب بسرعة وإعادة البلاد إلى الحكم الدستوري. في البداية، حظي المجلس بشعبية كبيرة، خصوصًا بين الشباب.

خلال عامي 1992 و1993 تذبذبت حظوظ الجبهة الثورية الموحدة صعودًا وهبوطًا. طلب النظام العسكري الجديد في فريتاون من الصيادين التقليديين، الذين كان بعضهم قد شكل وحدات دفاع مدني في بداية الحرب، المساعدة في ملاحقة المتمردين، حيث إن هؤلاء الصيادين كانوا يعرفون المنطقة جيدًا. إلا أن التعاون بين جنود الحكومة ووحدات الدفاع المدني لم تعمر طويلًا، حيث بدأت الوحدات برؤية تحالف غير مقدس بين بعض جنود الجيش والمتمردين. كان المدنيون يصفون الجنود الذين تحولوا إلى متمردين بـ “الجنود المتمردين”. بحلول عام 1994، كانت الجبهة الثورية الموحدة قد احتلت مناطق رئيسية فيها مناجم الماس وباتت العائدات المتأتية من بيع الماس تستخدم في تغذية الصراع.

كما أن الأوضاع في الجيش باتت حرجة، مع انشقاق العديد من الجنود. أما أولئك الذين ظلوا في قوات الجيش فإنهم فعلوا ذلك لتحقيق المكاسب الشخصية. أجبر النقيب ستراسر على طلب المساعدة من الأمم المتحدة. في نيسان/أبريل 1995، بات متمردو الجبهة الثورية الموحدة على بعد أميال فقط من فريتاون. وقد قدر البعض عدد مقاتلي الجبهة الثورية الموحدة بحوالي 3.000 – 4.000، مع وجود 600-500 مقاتل جيدي التدريب والعتاد.

أجريت انتخابات ديمقراطية في سيراليون في شباط/فبراير وآذار/مارس 1996. وشهدت نتائجها عودة حزب الشعب السيراليوني، الذي كان قد حكم بين عامي 1961 و1967 لكن هزم من قبل حزب مؤتمر عموم الشعب المعارض عام 1967، الذي عاد إلى السلطة. عقد الرئيس الحاج أحمد المصالحة والعدالة التقليدية: ممارسات ال ›كبا مندي‹ القائمة على التقاليد في سيراليون تيجان كباح زعيم حزب الشعب السيراليوني محادثات سلام مع المتمردين وتوصل إلى اتفاقية سلام أبيدجان، التي وقعت في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1996. لكن هذه الاتفاقية لم تعمر طويلًا.

انقلاب عسكري آخر في 25 أيار/مايو 1997 عطل العملية الديمقراطية لفترة وجيزة، مجبرة حكومة الرئيس كباح وعدة هيئات على الهرب إلى غينيا. المجلس العسكري، الذي سمى نفسه المجلس الثوري للقوات المسلحة بقيادة الرائد جوني بول كوروما (الذي كان ينتظر المحاكمة بسبب محاولة انقلاب مزعومة)، دعا متمردي الجبهة الثورية الموحدة للمساعدة في إدارة البلاد. اتسمت فترة حكم المجلس الثوري للقوات المسلحة (25 آذار/مارس 1997 – شباط/فبراير 1998) بانعدام القانون وانتشار الفوضى. كما شهدت عصيانًا مدنيًا غير مسبوق ضد النظام.

نجحت قوات الإيكوموغ، بالتعاون مع قوات الدفاع المدني والجنود وعناصر الشرطة الموالين في إخراج المجلس العسكري من فريتاون في شباط/فبراير 1998 ، وعادت حكومة الرئيس كباح إلى العاصمة بعد شهر من ذلك، في وقت تراجع فيه المتمردون إلى الريف حيث استمروا بنشر الفوضى.

عادت الجبهة الثورية الموحدة وحلفاؤها إلى الظهور مرة أخرى على أبواب فريتاون في 6 كانون الثاني/يناير 1999، وأخذوا الحكومة وقوات الإيكوموغ على حين غرة. استخدم مقاتلو الجبهة الثورية الموحدة والمجلس الثوري للقوات المسلحة النساء والأطفال كدروع بشرية، وتمكنوا بذلك من تجاوز قوات إيكوموغ والانضمام إلى رفاقهم الذين كانوا قد تسربوا إلى المدينة. ويقدر عدد من قتلوا في المعارك التي اندلعت بعد ذلك ب 5.000 شخص، بما في ذلك وزراء في الحكومة وصحفيين ومحامين كانوا قد استهدفوا بشكل خاص. قبل طرد المتمردين من فريتاون، أحرقت أجزاء كبيرة من المدينة واختطف حوالي 3.000 طفل مع تراجع وانسحاب المتمردين.

رغم هذه الأعمال الوحشية الأخيرة، وربما بسببها، فإن الحكومة بالتنسيق مع مجموعات المجتمع المدني والمجتمع الدولي، عقدت محادثات سلام مع المتمردين، وفي 7 تموز/يوليو 1999 تم توقيع اتفاقية سلام لومي. بعد التوقيع على الاتفاقية، استبدلت قوات الإيكوموغ تدريجيًا بقوات تابعة للأمم المتحدة ساعدت في حفظ السلام. في 18 كانون الثاني/يناير 2002 أعلن الرئيس كباح انتهاء الصراع المدني.

1. 2. أسباب الصراع

شهدت سيراليون، البلد الصغير الواقع على الساحل الغربي لأفريقيا والبالغة مساحته 27.000 ميل مربع وعدد سكانه خمسة ملايين نسمة، تاريخًا متقلبًا منذ حصوله على الاستقلال من بريطانيا عام 1961. عند الاستقلال، بدت البلاد واعدة بشكل جيد؛ حيث كانت المؤسسات التعليمية والسياسية والإدارية والقضائية وغيرها في الدولة تعمل بشكل جيد نسبيًا. وكان هناك درجة عالية من التسامح العرقي والسياسي والديني، وكان البلد في وضع تحسده عليه البلدان الأخرى في أفريقيا جنوب الصحراء. لكن، وكما في العديد من البلدان المستقلة الأخرى في أفريقيا، فإن النشوة التي قوبلت بها الدولة الجديدة، وما صاحبها من آمال وتوقعات كبيرة، سرعان ما تحولت إلى اليأس والقنوط بشكل أساسي نتيجة أفعال (أو الافتقار إلى أفعال) القيادة السياسية. سبق هجوم الجبهة الثورية الموحدة فترة طويلة من التراجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى تاريخ طويل من انعدام العدالة الاجتماعية. ولذلك، فإن أسباب تدهور البلاد إلى حالة من الفوضى كانت متعددة ومتنوعة.

تمثل السبب الأول في سوء الإدارة. في ظل قيادة مؤتمر عموم الشعب (1968 – 1992)، تلاشت مكاسب السنوات الأولى من الاستقلال بشكل منهجي بسبب سوء الحكم والإدارة الاقتصادية المتهورة التي تميزت بالنهب الممنهج لموارد البلاد لتغذية العلاقات الزبائنية. هذا إضافة إلى أن قيادة مؤتمر عموم الشعب، طورت نزعات استبدادية واستخدمت لغة العنف بشكل كبير كأداة في المنافسة السياسية.

كما اتسمت أجهزة الدولة بالمركزية المفرطة. بدأ هذا عام 1971 ووصل إلى أوجه عام 1978 مع إعلان نظام حكم الحزب الواحد. أدت المركزية المفرطة إلى التدهور المنتظم لنسيج الدولة، ما نتج عنه شبه انهيار للدولة، وهو ما تجلى في فقدان السيطرة على الفضاء السياسي والاقتصادي. ساعد إضعاف الدولة بسبب المركزية المفرطة في إفساح المجال لبعض البلدان الأجنبية، بما فيها بوركينا فاسو وساحل العاج وليبيريا وليبيا، للتعدي على سيادة سيراليون، وذلك بإقحام أنفسها في السياسة مباشرة وباستضافة المجموعات المعارضة التي مارست السياسة من ملاذاتها الآمنة في بلدان الجوار. إضافة إلى ذلك، فإن تركيز السلطة في العاصمة، فريتاون، أدى إلى إهمال أو وقف التنمية في المناطق الريفية وتهيئة الظروف لتهميش السكان الريفيين بشكل خاص. فاقم النظام من الفساد والمحسوبية وغيرها من الأمراض القاتلة بالنسبة لرفاه الدولة. كان هناك غياب كامل للشفافية والمساءلة في نظام الإدارة العامة. كما اخترق الفساد الجهاز القضائي. نظام الحزب الواحد المفلس، وغير الفعال والمفرط في المركزية، كان يكافئ المتملقين ويعاقب من يعملون بشكل جاد ومخلص والذين لديهم مشاعر وطنية وفكر مستقل، وكانت نتائج ذلك كارثية.

أما السبب الثاني فتمثل في السياسات الاقتصادية السيئة وتدهور الاقتصاد. فشلت الحكومة في ترجمة ما تتمتع به من موارد معدنية وبحرية إضافة إلى أراضيها الزراعية الواسعة، إلى تحسين رفاه غالبية السكان. تميزت سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين بالقيود المالية وتراجع الإنتاج. ارتفع المعدل السنوي للتضخم من حوالي 5 بالمئة عام 1970 إلى 13 بالمئة عام 1980 والى أكثر 85 بالمئة عام 1985. كما كان هناك حالات نقص شديدة ومتكررة في السلع المستوردة المطلوبة بشدة، مثل النفط والأرز. تضافرت هذه المشاكل مع الصدمات النفطية في السبعينيات والثمانينيات، والتي كان لها أثر واضح على الاقتصاد. بحلول أواخر الثمانينيات، وصلت مؤشرات التنمية البشرية والاجتماعية، بما في ذلك متوسط العمر المتوقع، ومحو الأمية والالتحاق بالمدارس الابتدائية ومعدلات وفيات الأطفال ووفيات الأمهات، إلى حالة هي من بين الأسوأ في العالم. لم يكن من المفاجئ أن سيراليون حصلت على المرتبة 126 من بين 130 بلدًا في عام 1990 على مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، قبل سنة من بداية الصراع الأهلي.

تمثل العامل الثالث في ضعف الوصول إلى العدالة. أدت حالة الفساد والاستقطاب في مؤسسات الدولة المهمة، مثل الجهاز القضائي ونظام المحاكم التقليدية إلى إساءة استخدام السلطة من قبل القضاة والمحامين ومسؤولي المحاكم المحلية. في الأقاليم بوجه خاص، عانى الشباب على يد السلطات الفاسدة والقمعية. كان بعض الشباب، الذين عانوا من المظالم، يعودون إلى مجتمعاتهم المحلية لاحقًا خلال الصراع الأهلي للانتقام من مضطهديهم السابقين.

رابعًا، معاناة الشباب من التهميش. على مدى سنوات، ساعدت المنشآت التعليمية السيئة، والبرامج والمناهج غير الكافية وغير المناسبة، والافتقار إلى فرص توظيف الشباب على تهميشهم وتحويلهم إلى مجموعة متمردة. انخرط العديد منهم في مناخ العنف والمخدرات والإجرام؛ وفي هذه المجموعة الجاهزة من الشباب المهمشين وجد قادة المتمردين أول العناصر التي جندوها. بات الشباب في مركز الأزمة في سيراليون، لأنهم هم الذين قدموا المقاتلين لمجموعات المتمردين وللحكومة ولقوات الميليشيات المدنية على حد سواء.

أخيرًا، كان هناك ضعف في أمن الدولة. منذ سبعينيات القرن العشرين، حدث تراجع مستمر ودراماتيكي في الأمن القومي نتج عن تسييس الجيش والشرطة، وتأسيس منظمات أمنية ذات ولاء سياسي وشخصي وتعاني من الفساد المنهجي. أدت هذه الأسباب إلى تقويض جهاز الأمن القومي بشكل كبير.

يتبين مما سبق، أنه كان هناك العديد من أشكال العنف المنهجي وغيره في سيراليون قبل بداية الصراع الأهلي. استغل قادة المتمردين معاناة الناس لتقديم أنفسهم كمحررين لهؤلاء الناس.

3. 1. درجة التدويل

خضعت الأزمة الأهلية لدرجة كبيرة من التدويل بسبب مشاركة ›الدول المارقة‹ في الجوار، والتي كانت مصالح العديد منها اقتصادية، أي الوصول إلى موارد سيراليون، وخصوصًا الماس. لقد قيل، وليس دون مبرر، إنه دون دعم الدول الأجنبية، فإن الحرب ربما ما كانت لتطول وتصبح بهذه الدموية. اكتسبت بوركينا فاسو وساحل العاج وليبيريا وليبيا سمعة سيئة في تغذيتها لذلك الصراع. كانت ليبيا توفر القواعد والتدريب العسكري للمتمردين، بينما كانت بوركينا فاسو تقدم المقاتلين لتعزيز صفوف المتمردين.

الحكومة، بالمقابل، استخدمت القوات الأجنبية، وشملت هذه القوات المقاتلين المعادين لتشارلز تايلور في ليبيريا، وقوات الغوركا من النيبال والشركة الأمنية الجنوب أفريقية “إكزيكيتفيز آوتكوم”. حقق المقاتلون الأجانب، الذين عملوا على نحو وثيق مع شرائح من الجيش السيراليوني، بعض النجاحات. على سبيل المثال، وقبل بضعة أشهر من وصولها عام 1995، تمكنت شركة إكزيكيتفيز آوتكوم من الاستيلاء على فريتاون وحقول كونو للماس واستعادة مناجم البوكسايد والبوتايل في جنوب سيراليون.

مجموعة المتمردين التي غزت فريتاون في 6 كانون الثاني/يناير 1999 ضمت أيضًا بعض المرتزقة. وكان هؤلاء، مرة أخرى، قد تلقوا دعمًا لوجستيًا وغير لوجستي حاسم من الرئيس تشارلز تايلور في ليبيريا. يذكر أن القوات الغازية تكونت من عدد من القوميات، بما في ذلك 3.000 ليبيري من قوات الجبهة الوطنية القومية الليبيرية بزعامة تايلور، و300 – 500 أوكراني، إضافة إلى مقاتلين من بوركينا فاسو، ليبيا، جنوب أفريقيا، إسرائيل، وتايوان.

طوال فترة الصراع، كانت إيكواس منخرطة بقوة في محاولة إيجاد حل سلمي. بمساعدة من الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية (الآن الاتحاد الأفريقي) والكومنولث وغيرها من المنظمات، في التوسط في اتفاقيتي السلام، اتفاقية سلام أبيدجان عام 1996 واتفاقية سلام لومي التي وقعت في تموز/يوليو 1999.

بين أيار/مايو 1997 وشباط/فبراير 1998، قام قادة إيكواس بعدة محاولات للتحدث إلى مخططي الانقلاب وحلفائهم في الجبهة الوطنية الموحدة من أجل إعادة البلاد إلى الحكم الدستوري. تمثل أحد تلك الجهود في اتفاقية كوناكري، التي توسطت فيها إيكواس والمجلس الثوري للقوات المسلحة في 23 تشرين الأول/أكتوبر 1997 وتمثلت البنود الرئيسية للاتفاقية في وضع حد لجميع الأعمال العدائية، واستئناف المساعدات الإنسانية وإعادة الحكومة المخلوعة برئاسة الرئيس كباح بحلول 22 نيسان/أبريل 1998. ممثلو حكومة كباح كانوا مراقبين فقط في المحادثات. رغم خطة السلام، استمر القتال، مع قوات الدفاع المدني، وخصوصًا ميليشيا كاماجور، ما عقّد المسائل بالنسبة للمجلس العسكري، خصوصًا في الجنوب الشرقي للبلاد. نجحت الإيكوموغ في إخراج المتمردين من فريتاون بعد غزوها لها في 6 كانون الثاني/يناير 1999.

1. 4. طبيعة المرحلة الانتقالية

أسهمت عدة عوامل رئيسية في الانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم. وشملت هذه العوامل الهيئات الدولية (الحكومية وغير الحكومية) ونظيراتها المحلية. في أعقاب غزو فريتاون في كانون الثاني/يناير 1999، دعمت الأمم المتحدة والإيكواس وبعض الدول الغربية، وبشكل أساسي المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومنظمات المجتمع المدني، حكومة كباح في جهودها لتحقيق السلام مع المتمردين. واختيرت عاصمة توغو، لومي، مكانًا لعقد مباحثات السلام بين الجبهة الثورية الموحدة وحكومة سيراليون، حيث إن رئيس توغو، غناسنغبي إياديما، كان رئيسًا للإيكواس.

بعد مداولات طويلة وشاقة في كثير من الأحيان، وقع الرئيس كباح وزعيم الجبهة الثورية الموحدة فوداي سنكوح، وبجوارهما رؤساء بوركينا فاسو وليبيريا ونيجيريا و توغو، أخيرًا اتفاقية لومي في 7 تموز/يوليو 1999. شكلت الاتفاقية تحسينًا كبيرًا لاتفاقية أبيدجان لعام 1996 . عالجت القضايا المتعلقة بوقف الأعمال العدائية، والحكم (على سبيل المثال، تحويل الجبهة الثورية الموحدة إلى حزب سياسي وتمكين أعضائه من الوصول إلى المناصب العامة)، ومنح العفو للمقاتلين السابقين، وتشكيل لجنة حقيقة ومصالحة، والقضايا العسكرية والأمنية لما بعد الصراع (مثل إجراء تعديل على إيكوموغ ومنح تفويض جديد لبعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سيراليون؛ والضمانات الأمنية لمراقبي السلام؛ ونزع سلاح وتفكيك وإعادة إدماج المجموعات المسلحة؛ وإعادة هيكلة القوات المسلحة، والقضايا الإنسانية والاجتماعية – الاقتصادية وقضايا حقوق الإنسان). كان الشعور العام بأن الاتفاقية وفرت أفضل أمل لتحقيق السلام. استفاد المتمردون بشكل كبير، فقد حصلوا هم وقائدهم فوداي سنكوح على العفو على جميع الجرائم التي ارتكبوها منذ أن حملوا السلاح عام 1991. إلا أن الممثل الخاص للأمم المتحدة (فرانسيس أوكيلو) علق قائلًا، بأن تفسير الأمم المتحدة كان أن العفو لم يشمل الجرائم الدولية المتمثلة في الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وغيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.

كجزء من اتفاقية السلام، منح بعض قادة الجبهة الثورية الموحدة والجنود المنشقين مناصب وزارية وغيرها من المناصب الرئيسية في الحكومة. على سبيل المثال، عُين قائد الجبهة الوطنية الموحدة فوداي سنكوح رئيسًا لهيئة إدارة الموارد الإستراتيجية، بما فيها الماس. وكان من المقرر أن تصبح الجبهة الوطنية الموحدة حزبًا سياسيًا يشارك في الانتخابات الوطنية.

1. 4. 1. حفظ السلام

في أعقاب توقيع اتفاقية السلام، في تشرين الأول/أكتوبر 1999، شكل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وحدة للأمم المتحدة في سيراليون قوامها 6,000 فرد تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لتحل محل إيكوموغ. بحلول كانون الأول/ديسمبر، كان جنود هذه الوحدة من بنغلاديش، الهند، الأردن، كينيا، وزمبابوي قد بدأوا بالوصول، وفي شباط/فبراير 2000 وافق مجلس الأمن على زيادة عددهم إلى 11.000. بدأ برنامج نزع سلاح وتفكيك وإعادة إدماج المجموعات المسلحة، لكنه كان بطيئًا جدًا. في أيار/مايو 2000، وفي نفس الأسبوع الذي غادرت فيه آخر وحدات إيكوموغ سيراليون، أحاطت الجبهة الثورية الموحدة بـ 500 من قوات بعثة الأمم المتحدة في سيراليون ونزعت سلاحهم واختطفتهم، وقتلت عددًا منهم خلال العملية.

بعد ذلك، عين مجلس الأمن لجنة خبراء للنظر في العلاقة بين التجارة غير المشروعة للماس وحيازة الجبهة الوطنية الموحدة على السلاح. قامت إحدى الفصائل التابعة للمجلس الثوري للقوات المسلحة تعرف باسم ›ويست سايد بويز‹ باختطاف عدد من الجنود البريطانيين، وطالبت بفدية لإطلاق سراحهم. تمكنت عملية بريطانية مثيرة نفذت في 25 آب/أغسطس 2000 من إطلاق سراح المختطفين، واضعةً حدًا لوجود هذه المجموعة. أظهرت عملية إطلاق سراح الجنود أيضًا تصميم بريطانيا على البقاء في سيراليون كقوة داعمة لبعثة الأمم المتحدة في سيراليون وللجيش السيراليوني الجديد، الذي بدأت المملكة المتحدة الآن باختيار جنوده وتدريبهم وتزويدهم بالمعدات.

طوال عام 2001، استمرت عملية السلام بتحقيق تقدم كبير. مرة أخرى أكدت الجبهة الثورية الموحدة على التزامها بعملية السلام. ووعد الرئيس النيجيري أولوسيغون أوباسانجو بتقديم المنح الدراسية لأفراد الجبهة الذين أرادوا الدراسة، لكنه طلب من حكومة سيراليون مساعدة الجبهة على تحويل نفسها إلى حزب سياسي. في 18 كانون الثاني/يناير 2002، أعلن الرئيس كباح رسميًا انتهاء الصراع، مع مراسم إحراق رمزية لحوالي 3.000 قطعة سلاح في مطار فريتاون الدولي في لونغي. أثناء هذه المراسم، قال الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، السفير أولوييمي أدانيجي، إن ذلك اليوم شكل بداية جديدة في حياة أكثر من 46.000 مقاتل سابق. بعد بضعة أشهر، أجريت انتخابات رئاسية وبرلمانية في سائر أنحاء البلاد. الجبهة الثورية الموحدة، التي باتت الآن حزبًا سياسيًا يحمل اسم حزب الجبهة الثورية الموحدة، لم تحقق نتائج جيدة، حيث حصلت على 2 بالمئة فقط من الأصوات، ما أعطاها مقعدين في البرلمان بموجب نظام التمثيل النسبي. ولم يعين أي من أعضائها وزيرًا بعد الانتخابات التي أجريت بعد نهاية الصراع.

2. العدالة الانتقالية

اتسم الصراع الأهلي في سيراليون بدرجة لا توصف من الوحشية. كانت جرائم حرب دولية من أسوأ نوع ترتكب بشكل دائم ومنهجي ضد مواطني سيراليون من جميع الأعمار، وكانت المعاناة التي لحقت بالسكان المدنيين عميقة جدًا. في حين أن جميع الأطراف ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان، فإن قوات المتمردين كانت مسؤولة عن الأغلبية الساحقة منها. كما أن من الجدير ذكره أن مواطني سيراليون عانوا من قدر كبير من العنف الممنهج قبل بداية الصراع الأهلي عام 1991. بالنظر إلى هذه الوقائع الصادمة، فإن نهاية الحرب طرحت تحديات جديدة، وكان أكثرها إلحاحًا مسألة ما إذا كان يتوجب معاقبة أولئك الذين جلبوا الفوضى والدمار للشعب أو الصفح عنهم.

لقد نصت اتفاقية سلام لومي على إقامة نظام عدالة مؤقتة وإنشاء لجنة حقيقة ومصالحة، كجزء من عملية بناء السلام. إلا أن الأحداث التي تلت حتّمت تأسيس نظام آخر، هو المحكمة الخاصة. كما أسست المحكمة هيئة محاربة الفساد كجزء من برنامجها العام للحكم الرشيد.

2. 1. لجنة الحقيقة والمصالحة

سن برلمان سيراليون قانون لجنة الحقيقة والمصالحة، 2000 في 22 شباط/فبراير 2000. وكانت أهداف اللجنة هي:

* وضع سجل تاريخي غير منحاز لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي فيما يتعلق بالصراع المسلح في سيراليون، منذ بدايته عام 1991 وحتى توقيع اتفاقية سلام لومي عام 1999.

* معالجة مشكلة الإفلات من العقاب، وتلبية احتياجات الضحايا.

* تشجيع العلاج والتعافي والمصالحة.

* منع تكرار حدوث الانتهاكات التي حدثت (قانون لجنة الحقيقة والمصالحة، 2000).

كما يعطي القانون الحق للهيئة بـ “طلب المساعدة من الزعماء التقليديين والدينيين لتيسير الجلسات العامة، وتسوية الصراعات المحلية الناجمة عن الانتهاكات السابقة أو لدعم المعالجة والتعافي والمصالحة”.

بدأت لجنة الحقيقة والمصالحة عملها بشكل كامل في أواسط عام 2002 وأكملت عملها عام 2004. خلال هذه الفترة، جمعت أكثر من 8.000 إفادة من الضحايا، والمنتهكين وآخرين وعملت لمدة أسبوع في كل من مقرات مقاطعات البلاد البالغ عددها 12 كابلا، ماكيني، ماغبوراكا، بورت لوكو وكامبيا (المقاطعة الشمالية)، بو، مويامبا، بونثي وبوجيهون (المقاطعة الجنوبية)؛ كينيما، وكويدو وكايلاهون (المقاطعة الشرقية)، إضافة إلى فريتاون (المنطقة الغربية). وهكذا، فإن مناطق واسعة من البلاد لم تغطها اللجنة. وكان سبب عدم قدرة اللجنة على تغطية سائر أنحاء البلاد يعود إلى محدودية التمويل.

أشركت اللجنة الزعماء التقليديين والدينيين وقادة المجتمع المدني في جلسات معرفة الحقيقة والمصالحة )بما في ذلك طقوس الصفح التقليدية(، خصوصًا في المناطق الريفية. لم تشجع اللجنة على إجراء الطقوس المحلية التي تلعن المرتكبين لكنها، وبالتنسيق مع الزعماء المحليين، أنشأت نصبًا تذكارية، خصوصًا في مواقع المقابر الجماعية في المناطق، ودعمت طقوس المصالحة التقليدية مثل صب السوائل المقدسة وطقوس التطهير.

فشلت جلسات الاستماع في المناطق في كثير من الأحيان في الحصول على اعترافات صحيحة ومفصلة من المقاتلين السابقين، بشكل أساسي بسبب محدودية الوقت. رغم ذلك، فإن لجنة الحقيقة والمصالحة والمجتمعات المحلية اعتبرت التعبيرات الغامضة عن الندم كافية طالما أظهر المقاتلون السابقون التواضع أمام المجتمع المحلي خلال جلسات الاستماع. نفذت اللجنة طقوس مصالحة عامة في الحالات التي أقر فيها المرتكبون بخطئهم وطلبوا الصفح؛ وشُجع الضحايا أيضًا على قبول ذلك والعمل تدريجيًا على الصفح والمصالحة. يلاحظ تيم كيلسول، وهو محاضر في السياسة الأفريقية راقب جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة، أن إضافة طقوس المصالحة المرتبة بعناية إلى الإجراءات كان أمرًا مهمًا جدًا.

إذا نفذت توصيات لجنة الحقيقة والمصالحة، كما وردت في تقريرها النهائي، الذي قدم إلى حكومة سيراليون في تشرين الأول/أكتوبر 2004، فإنها ستكون دون شك محفزًا للإصلاحات الاجتماعية والقانونية المطلوبة لمعالجة الإفلات من العقاب وتأسيس سياسة احترام حقوق الإنسان في سيراليون، بالإضافة إلى المساعدة في إعادة إحياء الحياة الاجتماعية في المجتمعات المحلية المتأثرة.

تمثلت إحدى التطورات المهمة في تعزيز السلام، عندما قامت حكومة سيراليون في آب/أغسطس 2006 بتعيين الهيئة الوطنية للعمل الاجتماعي بوصفها الهيئة المنفذة لعملية معالجة التعويضات. الهيئة، التي بدأت كوزارة حكومية عام 1996، هي الهيئة الحكومية الرئيسية المسؤولة عن بناء وإعادة تأهيل سيراليون التي مزقتها الحرب. وقد بدأت بتلقي المنح من المؤسسات الحكومية والدولية للمساعدة في دفع التعويضات.

2. 2. المحكمة الخاصة بسيراليون

أتى تأسيس المحكمة الخاصة بسيراليون نتيجة تطورات سلبية معينة، حدثت بعد التوصل إلى اتفاقية لومي للسلام عام 1999. كانت بعض فصائل الجبهة الثورية الموحدة قد استمرت بممارسة انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وفي انتهاك كامل لاتفاقية السلام. ولذلك، فإن بعض مجموعات حقوق الإنسان شعرت بأن هذه الأفعال الإجرامية ينبغي أن تعاقب بموجب القانون السيراليوني. حدث أكثر الانتهاكات جسامة للاتفاقية، والذي دفع للشروع بإجراءات قانونية ضد الجبهة في 8 أيار/مايو 2000 عندما أطلق صبية فوداي سنكوح النار على متظاهرين سلميين، فقتلوا ما لا يقل عن 20 منهم. خاطبت حكومة سيراليون الأمم المتحدة وطلبت منها إنشاء محكمة خاصة. تنفيذًا لقرار مجلس الأمن رقم 1315 تاريخ 14 آب/أغسطس 2002، تأسست المحكمة الخاصة لمحاكمة الأشخاص الذين “يتحملون أكبر قدر من المسؤولية” عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني والقانون السيراليوني والمرتكبة خلال الحرب.

قامت المحكمة الخاصة ببعض الاعتقالات منذ عام 2003. وكان من بين أبرز المعتقلين سام هينغا نورمان، الذي كان قائد ميلشيا كاماجور الموالية للحكومة (وكان نائبًا لوزير الدفاع، وحتى اعتقاله، وزيرًا للداخلية)، وفوداي سنكوح وعيسى سيساي من الجبهة الثورية الموحدة، والكاهن الأعلى لكاماجور أليو كوندوروا، وبعض القادة السابقين للمجلس الثوري للقوات المسلحة. توفي فوداي سنكوح وسان هينغا نورمان في السجن. القائد السابق للمجلس العسكري جوني بول كوروما والرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور أدينا أيضًا، إلا أن الأخير فقط لا يزال معتقلًا في لاهاي، هولندا. كان شُخيى أن محاكمة تايلور في سيراليون قد تزعزع استقرار البلاد.

يبدو السيراليونيون منقسمين حول قدرة المحكمة الخاصة على تحقيق المرجو منها، رغم أنها حكمت على ثلاثة من القادة السابقين للمجلس الثوري للقوات المسلحة بأحكام سجن طويلة، وعلى قادة قوات الدفاع المدني بأحكام سجن أقصر. لقد أحيطت إداناتها أصلًا بقدر كبير من السجال. بعض خصوم المحكمة، يعتقدون بأن المبالغ الكبيرة من المال التي أنفقت عليها كان يمكن استخدامها على نحو أفضل لتحسين حياة ضحايا الحرب وغيرهم من المجموعات المهمشة. كما أنهم يشيرون أيضًا إلى أن الحكم على العدد القليل من الأشخاص الذين اعتقلتهم المحكمة لن يكون كافيًا لمعالجة ثقافة الإفلات من العقاب في سيراليون. الزمن وحده هو الذي سيحكم.

وهكذا، فقد وجدت سيراليون نفسها في الموقع الفريد الذي تجرب فيه نموذجين من أنظمة العدالة الانتقالية بالتوازي؛ لجنة الحقيقة والمصالحة والمحكمة الخاصة. في إحدى الفترات، كان هناك بعض التوتر بين هذين النموذجين لأنهما كانا يسعيان لتحقيق أنواع مختلفة من العدالة. بدا أن المحكمة الخاصة مهتمة بشكل رئيسي بالعدالة الجزائية. لكن رغم هذا التوتر، فإن المؤسستين كملتا بعضهما بعضًا.

إن معالجة قضيتي العدالة والمصالحة من خلال لجنة الحقيقة والمصالحة والمحكمة الخاصة أمر ضروري، لكنه غير كاف. الأمر الأكثر أهمية، من أجل تعزيز السلام، هو معالجة أسباب الحرب، التي ثمة إجماع على أنها تكمن في مزيج من سوء الحكم والحرمان من الحقوق الأساسية، وسوء الإدارة الاقتصادية والإقصاء الاجتماعي في سياق أي مبادرات لبناء السلام.

3. آليات العدالة الانتقالية والمصالحة

3. 1. الخلفية والوصف

إن مصطلح “تقليدي” مع مضامينه التي توحي بالمركزية الأوروبية، ينزع غالبًا إلى الإشارة إلى هيكليات معيارية داخلية وأنماط متبعة منذ “الماضي السحيق”، في ظروف اقتصادية واجتماعية ثابتة. ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار أن المؤسسات الأفريقية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، لم تكن أبدًا في حالة عطالة. إنها تستجيب للتغييرات الناجمة عن عدة عوامل وقوى. وهكذا، فإن البعض يمكن أن يفضل استخدام كلمة “أصلية” بدلًا من ›تقليدية‹. إن كلمة ›تقليدي‹ كما تستخدم في هذا الفصل تشير إلى عملية ديناميكية.

“العدالة” تعني هنا السعي لمعرفة الحقيقة دون خوف ومحاباة، بعد منح كل طرف الفرصة للتعبير عن نفسه. كما أنها تشير إلى الحيادية والإنصاف. ينبغي الإشارة إلى أن قول الحقيقة، كما هو وارد أدناه في حالة مندي، يعد جزءًا لا يتجزأ من نظام العدالة في المجتمعات الأصلية.

“المصالحة” هي عملية إعادة توحيد المجموعات أو الأطراف الذين كانوا منقسمين نتيجة الصراع. كما أنها تنطوي أيضًا على منح شكل من أشكال التعويضات للطرف المظلوم. في السياق التقليدي، فإن العدالة والمصالحة، بشكل عام، لا ينفصلان.

3. 2. سمات اللاعبين الرئيسيين في الممارسات القائمة على التقاليد

لآليات العدالة التقليدية بعض السمات الرئيسية. إنها تخضع بشكل عام لهيمنة الذكور، رغم أنه في حالة سيراليون هناك بعض الأحكام المتعلقة بتمثيل الإناث. بعض آليات معرفة الحقيقة ترأسها في الواقع نساء. ليس هناك مكان فيها للشباب، الذين يعتبرون غير ناضجين ولا يعرفون بعد تقاليد المجتمع المحلي. تركز هذه الأدوات على المجتمع المحلي، وتكون مفتوحة وشفافة. إن الإيمان بالعناصر فوق الطبيعية (الله والكهنة والكاهنات والأسلاف) قوي تمامًا، ويلعب الأشخاص الذين لديهم مواهب خاصة، مثل العرافين و”الأطباء التقليديين” وما شاكل، دورًا محوريًا في العمليات القضائية. كما تنطوي الآليات أيضًا على طقوس، مثل طقوس التطهير والأغاني والرقص.

هناك عدة لاعبين، وبضمنهم اللاعبون الرئيسيون، الإدارات التي تتكون من الزعماء التقليديين، المحاكم المحلية، زعماء القبائل، زعماء المجتمعات المحلية والزعماء الدينيين، والعرافون. ثمة شكل رسمي لإدارة الزعامات التقليدية في سيراليون (سميت حينها إدارة المجتمعات الأصلية) بدأت العمل عام 1937. تقسم كل إقطاعية إلى مقاطعات وبلدات وقرى، يرأسها زعماء مقاطعات وزعماء بلدات وزعماء قرى على التوالي. الرئيس الإداري للإقطاعية، هو الزعيم الأعلى ويساعده مجلس. يكون الزعيم الأعلى والزعماء التابعون له مسؤولين عن العدالة والقانون والنظام، ويكونون قيّمين على التقاليد والعادات للأشخاص المقيمين في مناطقهم. ينتخب هؤلاء مدى الحياة، رغم أنه يمكن تنحيتهم من قبل رئيس الدولة عند ارتكابهم مخالفات خطيرة.

حتى عام 1963، كان الزعيم الأكبر والزعماء الفرعيون يترأسون القضايا في المحاكم. بعد ذلك، أصبحت ولايتهم القضائية تقتصر على الحالات المدنية الثانوية. وتتم تسوية هذه القضايا عادة في مجمع الزعيم.

أنشأ قانون المحاكم المحلية لعام 1963 محاكم محلية يرأسها رئيس محكمة. تعد هذه المحاكم الشكل الأكثر رسمية لبنية نظام العدالة العرفية في المناطق الريفية. الأغلبية الساحقة من السيراليونيين (حتى 80 بالمئة) يقعون تحت الولاية القضائية للقوانين العرفية. ويكون رؤساء المحاكم عادة، ذوي معرفة بالحالات المدنية العرفية، وتساعدهم لجنة من الحكماء وكتاب المحاكم وغيرهم من الموظفين الأدنى مرتبة، ويعينون عادة لفترة أولية هي ثلاث سنوات، ويكون لوزير الإدارة المحلية صلاحية عزلهم. لا يحضر المحامون أية محاكم محلية، رغم أنه يشرف عليها مسؤول قانون عرفي يكون مدربًا كمحام. كما يقوم مسؤول القانون العرفي أيضًا بتدريب رؤساء المحاكم.

هناك زعماء قبليون في معظم المدن والبلدات. أصبح هؤلاء جزءًا لا يتجزأ من الإدارة المحلية في مستعمرة سيراليون (المنطقة الغربية الآن) بعد سن مرسوم الإدارة القبلية (مستعمرة) لعام 1924. كانت بعض صلاحياتهم وواجباتهم قضائية (إدارة العدالة بين أفراد مجموعتهم العرقية)، إضافة إلى الإدارة الاجتماعية. حاولت مراسيم لاحقة تجريدهم من الوظائف القضائية، حيث إن عددًا كبيرًا منهم لم يكن يتمتع بالمعرفة الكافية، لكن زعماء القبائل استمروا في ترؤس المحاكم في القضايا المدنية الثانوية.

يتمثل تطور جديد في العملية القضائية بظهور بعض الأشخاص العاديين (يسمون شبه قانونيين)، ممن يعملون مع الفقراء وغيرهم من المجموعات المهمشة للتوصل إلى حلول لمشكلاتهم. برز هؤلاء الأشخاص شبه القانونيين وحققوا نجاحًا من خلال علاقاتهم مع الزعماء والشرطة، وغيرهم من مسؤولي إنفاذ القانون على مستوى المجتمع المحلي. وتتكون تدخلاتهم من حشد المناصرة والتأييد وجهود التعليم في المجتمع المحلي. معظم هؤلاء يتمتعون بالمعرفة في مسائل القانون العرفي والمؤسسات.

3. 3. الـ “كبا مندي” كدراسة حالة

سيراليون بلد متعدد الأعراق حيث تسكنه 18 مجموعة عرقية. مع ذلك، هناك مجموعتان مهيمنتان؛ التيمني والمندي. يعيش أفراد مجموعة التيمني بشكل رئيسي في معظم أنحاء المنطقتين الشمالية والغربية، ويعيش المندي في المناطق الجنوبية والشرقية. تشكل هاتان المجموعتان 29 بالمئة و 31 بالمئة، على التوالي من السكان. تختلط جميع المجتمعات المحلية مع بعضها بحرية، وليس هناك عوائق تمنع الناس من السكن في أي مكان من البلاد.

إلا أن بيترسون يشير إلى وجود بعض التوترات بين التيمني والمندي فينبغي الاعتراف بها. المندي يهيمنون على حزب الشعب السيراليوني، بينما يشكل التيمني أغلبية أعضاء مؤتمر عموم الشعب. الحرب الأهلية بدأها زعيم الجبهة الثورية الموحدة فوداي سنكوح (وهو شمالي وينتمي إلى التيمني)، رغم أن الأعمال القتالية الأولى حدثت في وسط أراضي المندي (المقاطعة الشرقية). ولذلك، يعتقد العديد من المندي بأن الحرب كانت عبارة عن غزو قام به التيمني من شمال البلاد. في هذه الأثناء، فإن التيمني يرون في الحرب غالبًا مؤامرة جنوبية شرقية بدأها سنكوح كعميل مأجور، بهدف زعزعة استقرار حكومة مؤتمر عموم الشعب.

يذكر أن الجبهة الثورية الموحدة كانت ترفع في البداية سعف النخيل كرمز لـ “ثورتها”. لسعف النخيل أهمية سياسية لدى المندي. وشجرة النخيل هي شعار حزب الشعب السيراليوني. ربما كانت الجبهة الثورية الموحدة تأمل بأن رفع سعف النخيل في أحد المعاقل التقليدية لحزب الشعب السيراليوني سيجتذب الناس لقضيتها.

من الواضح أنه كان للانقسامات والتفسيرات العرقية للحرب تبعات على عملية المصالحة.

على مدى سنوات، طورت المجموعات العرقية أنظمة اجتماعية معقدة، تشمل إدارة أنظمة العدالة. وبسبب الطبيعة المتنوعة لآليات العدالة والمصالحة في المجتمعات المحلية المختلفة، وبسبب الوقت وغيره من العناصر المقيدة، لم يكن من الممكن إجراء أبحاث ميدانية فيها جميعًا. وبالتالي، فإن مجموعة واحدة، هي المندي، استهدفت، وحتى في أوساط المندي تمت دراسة مجموعة فرعية واحدة هي الكبا مندي بدرجة أكبر من التفصيل لأغراض كتابة هذا الكتاب. تشمل المجموعات الفرعية الأخرى للمندي السيوامة أو المندي الوسطى والوانجاما مندي والكوو أو المندي (الأعلى). مجموعة الكبا مندي هي المجموعة الفرعية الأكثر عددًا. والأكثر أهمية من ذلك، أنها حاولت قدر الإمكان المحافظة على العديد من تقاليدها، حتى في وجه التحديث وغيره من التحديات. لديهم مجتمع سري قوي يوحدهم جميعًا هو الووندي. كما أن هناك درجة كبيرة من المشاعر ›القومية‹ في أوساط هذه المجموعة.

تهيمن على الحياة الثقافية للكبا مندي مدونات سلوك معينة، وتسهم معتقداتهم الدينية في المحافظة على أنشطتهم. المكون الأساسي للمعتقدات الثقافية للكبا مندي (وللمجموعات الفرعية الأخرى)، هو الاعتقاد بأن الإنسان كائن روحي. ولذلك، فإن الإيمان بالقوى فوق الطبيعية قوي في أوساطهم. ثمة ثلاثة اتجاهات رئيسية في مفهوم ما فوق الطبيعي. يتمثل الأول في الإيمان بوجود كائن أعلى خالق العالم، والمصدر الكلي للقوة والمسيطر على قوى الطبيعة وحامي الحقيقة والعدالة. ويشار إليه ب نيغوو. المكون الثاني هو تبجيل الأسلاف والثالث هو الإيمان بآلهة الطبيعة.

3. 3. 1. التعدي والعدالة

لقد طور الكبا مندي طرائق معقدة للتعامل مع الجريمة والعقاب. هناك بشكل أساسي طريقتان مترابطتان للسعي لتحقيق العدالة، الطريقة التصالحية والطريقة الجزائية. إن شكل العدالة المستخدم في حالة معينة يمكن تحديده طبقًا لخطورة الجريمة أو هدف العقاب. بشكل عام، فإن الممارسات ذات الأساس التقليدي بين الكبا مندي تهدف إلى الإصلاح والتعويض (العدالة التصالحية)، رغم أن بعض العقوبات يمكن فرضها خلال العملية. تعتمد العدالة التصالحية إلى درجة كبيرة على إقرار المذنبين بجريمتهم أو بالفعل الذي ارتكبوه، والاعتذار إلى الشخص الذي تأذى، والتعبير الصادق عن الأسف. كما أن ذلك قد يتطلب مساعدة الضحايا على التكيف مع مصابهم، على سبيل المثال، من خلال دفع تعويض.

ثمة سلسلة من الأنظمة التي تنظم الحياة الاجتماعية للكبا مندي. يمكن تصنيف هذه الأوامر في مجموعتين، تلك المتعلقة بالعائلة والأخرى التي تؤثر في المجتمع برمته. الإنسان فرد، لكنه أيضًا جزء من مجتمع أوسع. وهكذا فإن أفعاله الفردية يمكن أن تؤثر على رفاه المجتمع بأسره. ويتضح هذا، على سبيل المثال، في القوانين الناظمة للسلوك الجنسي، المشروع وغير المشروع. سفاح القربى محظور، ومجتمع الهوموي الذي ترأسه امرأة، ينظم السلوك الجنسي. يحظر قانون السفاح (سيمونغاما) العلاقات الجنسية مع الأخت وأخت الزوجة وما إلى ذلك. كما أنه يحظر جلوس الأخ على سرير أخته والعكس بالعكس. علاوة على ذلك، لا يسمح للرجل بمصافحة والدة أي امرأة له علاقة جنسية معها.

على مستوى المجتمع، من غير القانوني إقامة علاقات جنسية مع فتاة تحت سن البلوغ (أو لم تدخل الجمعية السرية للإناث، البونودو “ساندي”)، أو شخص في الغابة في أي وقت، أو مع امرأة حامل (سوى زوجته) أو امرأة ترضع. يمكن لهذا النوع من الانتهاكات (التدنيس) أن تؤدي إلى مختلف أنواع الأمراض وأن تؤثر في الحظوظ الاقتصادية للمجتمع.

إن ذنبًا مثل ممارسة علاقة جنسية في الغابة يتطلب طقوس تطهير معقدة، لأن مثل تلك الانتهاكات تؤثر في المجتمع بأسره. مجتمع الكبا مندي مجتمع زراعي بشكل رئيسي. إن العلاقة مع الأرض الزراعية أكثر من مجرد علاقة اقتصادية، إنها تنطوي على علاقة روحية أيضًا. يعتقد بأن العلاقات الجنسية في الغابة يمكن أن تزعج أرواح الأسلاف وأن تؤدي بالتالي إلى مواسم حصاد سيئة. لا بد للمرتكبين وللغابة التي ارتكب فيها الفعل أن يخضعا لطقوس التطهير من قبل كاهنة الهوموي.

يحكم الزعماء وغيرهم من حكماء المجتمع، بشكل عام، في القضايا المدنية مثل الاستيلاء على الأرض أو الإغواء أو حالة البالافا (وهو وضع يمارس فيه الرجل الجنس بشكل غير مشروع مع امرأة متزوجة وتجبر المرأة على الاعتراف بالفعل لزوجها)، وجرائم جنائية مثل الإحراق المتعمد للممتلكات والسرقة وانتهاك محظورات المجتمع. في القضايا المدنية، يشجع المدعي والمدعى عليه على عرض قضاياهما معًا بحضور شهودهما (إذا كان هناك شهود) قبل أن يتخذ الزعماء القرار النهائي. بشكل عام، يتم دفع بعض التعويضات للطرف المظلوم.

نظام العدالة منحاز بقوة ضد النساء، وخصوصًا في العلاقة بين الزوج والزوجة، وضد الشباب. لا يعتبر من مصلحة الأسرة أن يعاقب الزوج حتى لو كان ذنبه واضحًا. بدلًا من ذلك، يحاول الحكماء مواساة الزوجة ومن ثم يوبخون الزوج سرًا على أخطائه. في حين أن كثيرين اعتبروا في هذا ظلمًا للمرأة، فإن ثمة عنصرًا اجتماعيًا مهمًا هنا. المصلحة الرئيسية هي المحافظة على الزواج، وألا يتم إيجاد حالة “تكسب فيها المرأة الحرب لكنها تخسر السلام”.

تتطلب الجرائم الجنائية طيفًا من العقوبات، يتراوح بين التوبيخ العلني ودفع التعويض وطقوس التطهير. عندما ينكر مرتكب مزعوم الجرم المتهم به، يتم طلب مساعدة العرافين والأطباء التقليديين وغيرهم من الهيئات فوق الطبيعية للمساعدة في تحديد المذنب.

3. 3. 2. العراف والطبيب التقليدي

يُعتقد بأن العراف يتمتع بقوى فوق طبيعية ويمارس نفوذًا كبيرًا في المجتمع المحلي. إنه يحظى بالاحترام لأنه الشخص الوحيد القادر على تقديم الإجابات في حالات تفوق قدرات البشر العاديين. يمكنه استحضار قدراته التنبؤية لتحديد المذنب في قضية ما. إذا استمر الشخص في إنكار الجرم المنسوب إليه، يمكن اللجوء إلى طرائق أخرى، مثل حلف اليمين (“سوندو” لدى المندي) أو اللعنة. غير أنه من المهم ملاحظة أنه رغم أن اليمين أو اللعنة يمكن توجيههما إلى أشياء غير حية، كما يظهر المثال أدناه، فإن “نغيوو” (الله) هو الواسطة القصوى للعنة.

تتمثل إحدى “العلاجات” القوية لحلف اليمين في “دواء الرعد” (انغيلي غبا). قوة ال انغيلي غبا مستمدة من أصله، حيث يفترض أنه تم فصله عن السماء بواسطة البرق. انغيلي غبا، وهو فأس صغير (نيزك) استخرج من الأرض مع مجموعة من القطع المعدنية الصغيرة الأخرى؛ ويكون ملفوفًا في مجموعة من الأوراق. يشعر أفراد المجتمع بالخوف من الشخص الذي يملكه.

المربع 8: إجراءات لعنة الـ “انغيلي غبا” لدى الـ “كبا مندي” في سيراليون

إذا حدثت سرقة ولم يعترف بها أحد، فإن الشخص المعتدى عليه ›يتوسل الأرض‹ من الزعيم والحكماء مقابل رسم رمزي ويعبر عن نيته بلعن اللص على الانغيلي غبا. عندما يعطي الزعيم موافقته، يرسل في طلب الانغيلي غبا–موي (مالك انغيلي غبا)، في معظم الأحيان من مستوطنة مجاورة.

قبل أن يصل ببضعة أيام، يبلغ منادي البلدة جميع أفراد المجتمع المحلي بأسباب التلفظ باللعنة المعتزمة وأنواع “الأدوية” التي ستستخدم ومكان إجراء الطقس. ومن ثم يدعو الجميع لحضور الطقوس. من أجل تحقيق الحد الأقصى من التأثير، يقوم منادي البلدة بالتحدث عن فعالية “العلاج”، بما في ذلك عدد الناس الذين قتلهم أو الذين اعترفوا وهم يحتضرون. عندما يصل مالك انغيلي غبا، يبلغ منادي البلدة الجميع بحضوره. ويهدف كل هذا إلى إعطاء اللص أو أي شخص آخر لديه معلومات حول السرقة، فرصة أخيرة للاعتراف.

قبل حدوث عملية اللعن، يضع الانغيلي غبا – موي علاجه على الأرض ويتكئ على جذع شجرة. ثم يطلب الزعيم من الشخص الذي تعرض للسرقة إعلان سبب اللعن. قد يقول: “سألعن الشخص الذي سرق ماعزي؛ ليقتله الانغيليه غبا في الحال وليحرق بيته”. يمكن أن تمتد اللعنة إلى أي شخص ساعد أو حرض اللص، أو أي شخص لديه معلومات حول السرقة.

إذا لم يجب أحد، يمكن للانغيلي غبا – موي أن يتابع. ثم يضع أوراق البوما ماغباي (نبات النيوبولديا)، الذي تستخدم عادة لطرد الذباب عن الجثث، قرب الانغيلي غبا. يرمز هذا إلى الموت الوشيك للص أو أي متواطئين معه. ثم يتلفظ الشخص المعتدى عليه بالكلمات الرهيبة ›يا الله، انزل ودعني أعطيك دجاجتك. أتلفظ بهذه الكلمات ضد الشخص الذي سرق ماعزي. (علاجك) موجود هنا (ويشير إلى الانغيليه غبا)، دعه يصب كل جزء من هذا الجسد: يديه، ورجليه، وقلبه. لا تدعه ينجو؛ اضربه ضربة قاتلة واحرق منزله‹. ومن ثم يجيب الانغليه غبا–موي “نغيوو جاهون” (“بإذن الله”).

اللعنة التي تطلق عادة بالاستعانة بالانغيلي غبا لا تؤثر عادة بالمذنب فقط بل أيضًا بأفراد أسرته، لأنه إذا ضرب البرق منزلًا فإن ذلك قد يصيب أشخاصًا أبرياء. ولهذا السبب، فإن أي شخص لديه معلومات حول سرقة يمكن أن يتقدم ويعترف قبل إطلاق اللعنة. إذا اعترف اللص في الوقت المناسب، يطلب منه تعويض المعتدى عليه، بما في ذلك دفع جميع النفقات التي أنفقت على الانغيلي غبا. كما يتعرض اللص للتوبيخ العلني وينبذ قبل أن يعود ويقبل في المجتمع.

علاجات قوية مثل الانغيلي غبا تردع المجرمين لأنها تهددهم والمتواطئين معهم وأسرهم بعقوبات شديدة، بما في ذلك الموت. إلاّ أن هناك أيضًا أحكامًا تتعلق بإمكانية إلغاء اللعنات أو الأيمان. إذا مرض المرتكب أو اعترف بذنبه، يمكن رفع اللعنة عنه، ويكون ذلك عادة من خلال طقوس تطهير علنية.

3. 3. 3. المصالحة

يتمثل الهدف النهائي لنظام العدالة التقليدية لدى الكبا مندي )وفي الواقع في معظم المجتمعات الأفريقية(

في المصالحة. ويصوَّر هذا بشكل واضح، على سبيل المثال، في طقوس الووندي. خلال رقصة طقسية، تجري في دائرة، يتم تمثيل مشهد من معركة. تنقسم المجموعة الأساسية من الراقصين إلى حلقتين متقاطعتين، المصالحة والعدالة التقليدية: ممارسات ال ›كبا مندي‹ القائمة على التقاليد في سيراليون

تمثلان طرفي الصراع. من ثم يصل صُناع السلام. ويكون هؤلاء رجالًا يلبسون ملابس نساء

ويقومون بحركات وإيماءات نسائية (ترمز إلى أهمية دور المرأة في صنع السلام). يدخل هؤلاء بين المتقاتلين وفي النهاية يشكل جميع الراقصين حلقة واحدة مرة أخرى. تعكس القيم التي يعززها هذا الطقس معتقدات السكان الأصليين حول التكاملية والأهمية لجميع شرائح المجتمع في محاولات لإعادة ترسيخ الانسجام واستعادة الاستمرارية.

3. 3. 4. التأثيرات الخارجية

كان لفرض الحكم الاستعماري البريطاني في سيراليون، في أواخر القرن التاسع عشر أثر سلبي على الآليات التقليدية للعدالة والمصالحة. نظم المستعمرون البريطانيون النظام القضائي ليناسب احتياجاتهم هم. ولهذا الغرض، أسسوا ثلاثة أنواع من المحاكم في سيراليون، محكمة الزعماء الأصليين، ومحكمة مفوض المقاطعة (الأوروبي) والزعماء الأصليين، ومحكمة مفوض المقاطعة. كان يحكم على جميع الجرائم الجنائية في محكمة مفوض المقاطعة، في حين أن الزعماء كانوا يحكمون في القضايا المدنية الثانوية التي تؤثر في رعاياهم المحليين. الأهم من ذلك أن التأكيد بات الآن على عملية التقاضي. إضافة إلى ذلك، فإن رسوم وغرامات المحكمة أصبحت آلية مهمة لتوريد العائدات للإدارة المحلية. ليس من المفاجئ أن تتسرب حالات سوء ممارسة العدالة ببطء إلى نسيج نظام العدالة. كما يبدو أن تعيين رؤساء المحاكم كان يخضع للنفوذ السياسي.

4. الممارسات القائمة على التقاليد اليوم

رغم أن هذه الممارسات تلعب دورًا رئيسيًا في تسوية الصراعات بين الكبا مندي، فإنها أخضعت لضغوط كبيرة، خصوصًا في الأزمنة المعاصرة.

4. 1. أثر الصراع

أحدث الصراع الأهلي آثارًا كارثية على جميع شرائح المجتمع السيراليوني، فقد أدى إلى نزوح أعداد هائلة وغير مسبوقة من السكان. وأجبر الآلاف، خصوصًا أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الريفية، على التخلي عن مستوطناتهم والبحث عن مأوى إما في مخيمات المهجرين أو في المدن الرئيسية، وهو ما كان له تبعات سلبية على شبكاتهم ومؤسساتهم الاجتماعية الأصلية. استهدف الزعماء التقليديون، الذين كانوا سدنة ثقافة وتقاليد المجتمع، بشكل خاص من قبل المتمردين حيث كانوا يعتبرون جزءًا من النظام الفاسد والمنحل الذي أراد المتمردون التخلص منه.

الأماكن المقدسة مثل تلك التي كانت تجتمع فيها الجمعيات المقدسة في الغابة والأضرحة للتدنيس بشكل منتظم ودمرت أدواتها الطقسية. أحدث الصراع آثارًا لا حصر لها، حيث إن الزعماء والمؤسسات، التي تعرضت للتدمير المنهجي، حيوية للعمل الفعال لهذه الآليات. وبالتالي فإنها فقدت مكانتها وأهميتها.

4. 2. الممارسات التقليدية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان

خلال الصراع الأهلي ارتكبت الفصائل المتحاربة، وخصوصًا المتمردين، انتهاكات شنيعة ومنهجية، بما في ذلك جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل العنف الجنسي، الاستعباد الجنسي والدعارة القسرية، بتر الأعضاء، وعمليات القتل والتعذيب غير التمييزية. وبالطبع، فإن الضحايا سيطالبون بالعدالة، وإذا كان ذلك ممكنًا ببعض التعويض. لكن ما هو نوع العدالة التي يريدونها، الجزائية أو التصالحية؟ أي من هذه الأشكال يمكن أن يبني السلام وأيها يمكن أن يعطله؟

هناك وقائع معينة ينبغي مواجهتها. على سبيل المثال، فإن أولئك الناس الذين بترت أعضاؤهم أو النساء اللاتي اغتصبن عليهم العيش مع هذه الجراح والندوب إلى الأبد. رغم أن من شأن العدالة الجزائية أن تشكل رادعًا، فإنها يمكن في الوقت نفسه أن تؤدي إلى خلق مشاكل مجتمعية جديدة حيث إن الضحايا والمرتكبين قد يعيشون في نفس الحي. من ناحية أخرى، فإن العدالة التصالحية تهدف إلى الإصلاح وخلق الانسجام الاجتماعي داخل المجتمعات المنهكة. مهما كان الوضع، فإن العدالة التي يرغبها الضحايا ستتحقق بثمن مرتفع، خصوصًا عندما يفكر المرء في أنه في بعض الحالات يكون أفراد نفس العائلة قد قاتلوا لصالح فصائل مختلفة، وأن الكثير من الأطفال شاركوا في ارتكاب فظائع.

لقد شجعت لجنة الحقيقة والمصالحة، بنشاط، المصالحة على مستوى الأسرة والمجتمع المحلي، والمجتمع الذي استوطن فيه الفرد بعد الصراع، والكنيسة المحلية أو مجموعة النظراء، “وبشكل خاص خلال مراسم المصالحة في نهاية كل جلسة استماع. ركزت العديد من هذه المراسم على المصالحة بين المقاتلين السابقين والمجتمعات التي يعيشون فيها حاليًا. مراسم أخرى ركزت على لم شمل الأطفال المختطفين مع أسرهم ومجتمعاتهم، أو على لم شمل “زوجة من الغابة” مع أسرتها، أو زعيم مع المجتمع المحلي الذي كان يقوده أو الذي اضطر لتركه خلال الحرب”. كما يلاحظ التقرير النهائي للجنة الحقيقة والمصالحة أن العديد من أوجه تسوية الصراعات التقليدية، مثل “التوسط أو التطهير أو التهدئة الرمزية والاستعداد لإظهار الأسف، جميعها تنسجم مع أهداف سياسة لجنة الحقيقة والمصالحة وحافظت اللجنة عليها خلال

جلسات استماعها وما بعد”. دراسة أجرتها المنظمة غير الحكومية مانيفستو 99، قُدمت إلى مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان استعدادًا لتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة، تجادل بأن “الإيمان التقليدي القوي بحلف اليمين، والتطهير والتنقية ينبغي أن تدرس بجدية من قبل لجنة الحقيقة والمصالحة. بشكل جوهري، عندما لا يكون من الممكن الحصول على الحقيقة طوعًا وبسهولة، ينبغي استخدام هذه الممارسات كوسيلة لتعزيز عملية الحقيقة والمصالحة”.

لقد كان للصراع أثر يمكن تبينه بوضوح على الأطفال، حيث كان الأطفال في مركز الأزمة، وعانوا على أيدي مجموعات المتمردين وكذلك من قوات الدفاع المدني. حُرم الأطفال الصغار من طفولتهم وأجبروا على الاضطلاع بمسؤوليات الكبار، بما في ذلك دورهم بالقتال، في انتهاك ليس فقط لاتفاقية عام 1989 حول حقوق الطفل بل أيضًا للأعراف الاجتماعية التقليدية. كان يتم اجتذاب الصبيان بعمر العشر سنوات إلى قوات المتمردين من خلال الخطاب الذي تستخدمه هذه القوات، وكان يجند آخرون بشكل إجباري، ويفرض عليهم تعاطي المخدرات وتغسل أدمغتهم. هؤلاء الأطفال الق قاموا بالقتل والتشويه وارتكبوا انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. استخدمت الفتيات الصغيرات في العبودية الجنسية وكطباخات وحمالات، وتعرض العديد منهن للاغتصاب الجماعي ولقطع أعضائهن التناسلية. كما ارتكبت بعض الفتيات أعمالًا إرهابية، وكان العنف القائم على الجنس هو السائد خلال الأزمة.

وهكذا تعرض الأطفال لتجارب تتعارض مع الأعراف الثقافية للمجتمع السيراليوني. وتركتهم هذه التجارب في حالة طاغية من الصدمة النفسية. يقدر بأن 40 بالمئة من حوالي 20،000 مقاتل لدى المتمردين كانوا من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و 17 عامًا. حوالي 50 بالمئة من جميع المقاتلين خلال الصراع كانوا تحت سن الثامنة عشرة.

شكلت إعادة إدماج هؤلاء الأطفال في مجتمعاتهم السابقة تحديًا رئيسيًا. لحسن الحظ، فإن السيراليونيين بشكل عام لديهم قدرة كبيرة على الصفح، وخصوصًا الأطفال. استخدمت طقوس إعادة الإدماج ولم الشمل في سائر أنحاء البلاد. في مدينة ماكيني الشمالية، على سبيل المثال، نجحت منظمة غير حكومية هي كاريتاس ماكيني، في إعادة إدماج الجنود الأطفال في أسرهم من خلال مزيج من الطرق الموصوفة أدناه.

عندما جمعت كاريتاس ماكيني المقاتلين الأطفال السابقين مع عائلاتهم، سعت العائلات لـ “تغيير قلوب” أطفالها من خلال مزيج من الرعاية والدعم والأفعال الطقسية. كان العضو الأكبر في العائلة عادة يصلي على كأس من الماء ويدهن به جسد الطفل (خصوصًا، الرأس والأقدام والصدر)، ويطلب من الله والأسلاف منح الطفل “قلبًا باردًا”، وهي حالة التصالح والاستقرار التي يستقر فيها الطفل في موطنه، ويتمتع بعلاقة صحية مع عائلته ومجتمعه ولا تؤرقه الكوابيس والذكريات السيئة… ثم كان الآباء يشربون الماء المكرس الذي غُسل به أطفالهم. كان هذا الماء المكرس يصبح الآن رابطًا جسديًا جديدًا بين الأهل والطفل… وكان بعض الآباء يقدمون حبوب الكولا… إضافة إلى ذلك، وبعض الآباء تبع ذلك بآيات قرآنية مذابة بالماء… وبعضهم قدم ›فول سارا‹ لشكر الله والأسلاف، إما من خلال تكريس دجاجة ورعايتها، أو ذبحها وطبخها مع الأرز وتقديمها للفقراء، أو لأحد رجال الدين المسلمين لأكلها.

كما استخدمت وكالات حماية الأطفال مثل صندوق الأمم المتحدة للأطفال، يونيسيف، وبدعم من حكومة سيراليون، آليات وموارد المصالحة الأصلية في مندي لاند. وكان التركيز على إعادة التأهيل، وإعادة الاندماج وتعزيز احترام حقوق الآخرين. في بعض أنحاء كبا مندي، كان آباء الأطفال المقاتلين السابقين يلبسون الثياب الممزقة ويخرجون إلى الشوارع ليلحق بهم أفراد المجتمع المحلي، ويغنون ويرقصون. كي تنجح المصالحة وكي تكون حقيقية ودائمة، ينبغي أن تتم على مستوى المجتمع المحلي ومن قبل أفراد هذا المجتمع أنفسهم.

4. 3. مبادرات المجتمع المدني

قامت منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك على المستوى المحلي ومنظمات المرأة والمنظمات الدينية، باقتدار بتكملة الجهود التي بذلها المجتمع الدولي لتحقيق السلام في سيراليون. انخرط مجلس الحوار بين الأديان، الذي تشكل في سيراليون عام 1997، بانتظام مع متمردي الجبهة الثورية الموحدة والحكومة. بل إنهم اجتمعوا بقائد المتمردين فوداي سنكوح في سجنه في نيسان/أبريل 1999 قبل بداية محادثات السلام في لومي. اتخذ بعض أفراد هذه المنظمات مخاطرات كبيرة في الذهاب إلى الغابات لمناشدة المتمردين إطلاق سراح الأطفال الذين يعتقلونهم. لم تكن نساء سيراليون أقل انخراطًا، بل دفعن ثمنًا باهظًا وبحياتهن في محاولتهن الاجتماع بالمتمردين.

كان دور المجتمع المدني في عملية المصالحة مثيرًا للإعجاب. دعت لجنة الحقيقة والمصالحة خلال المرحلة النهائية، منظمة الصليب الأحمر -اعترافًا بمعرفتها بطرائق المصالحة التقليدية- لإطلاق أنشطة مصالحة مشتركة في المقاطعات ولبناء الهيكليات اللازمة التي يمكن أن تستمر بالعمل بعد انتهاء تفويض لجنة الحقيقة والمصالحة. بالتعاون فيما بينهما، قامت لجنة الحقيقة والمصالحة والصليب الأحمر بتدريب منسقي الصليب الأحمر في المقاطعات، ونظمتا ورشات عمل للمصالحة في جميع المقاطعات الاثنتي عشرة. تبع ذلك تشكيل لجان دعم المصالحة في المقاطعات، مع تشجيع ممثلين عن الزعماء التقليديين الذين يشجعون ويحددون ويمولون أنشطة المصالحة التي تقوم بها المجتمعات المحلية.

5. تقييم آليات العدالة والمصالحة التقليدية في سيراليون

تسعى الممارسات القائمة على التقاليد إلى تحقيق الانسجام الاجتماعي في المجتمعات المحلية. ولتحقيق هذه الغاية، تستخدم مختلف الطرق والإستراتيجيات التي تمت مناقشة بعضها أعلاه. وهنا، نتناول نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات الرئيسية مع الإشارة، على نحو خاص، إلى المندي في سيراليون.

5. 1. نقاط القوة

1. آليات العدالة والمصالحة قائمة على تقاليد شفافة ومنفتحة، ولذلك فإنها تحد كثيرًا من احتمال إساءة تطبيق العدالة. وهكذا، فإن العديد من الأشخاص في المجتمعات المحلية يؤمنون بقوة بهذا النظام، ومن هنا ارتفاع مستوى مشاركة المجتمع المحلي.

2. إنها رخيصة ويمكن تحمل تكاليفها؛ حيث يمكن لأي شخص أن يسعى لتحقيق العدالة بصرف النظر عن الطبقة الاقتصادية أو الوضع المالي.

3. يتم اتخاذ القرارات عادة بعد عملية طويلة من التشاور والنقاش، وبهذا يأخذ كل طرف عانى أو لحق به الظلم فرصة كافية لعرض قضيته.

4. عندما يتم تطبيق العقوبة، فإنه يحدث بهدف أن تكون رادعة، خصوصًا بالنسبة للجرائم التي تؤثر في

المجتمع بأسره.

5. الهدف النهائي لهذه العمليات في ثقافة المندي هي تعزيز الانسجام الاجتماعي، كما يتضح، على سبيل المثال، في رقصة الووندي والطقوس المذكورة أعلاه.

إن نقاط القوة مهمة جدًا، وينبغي استغلالها في أية جهود لإعادة إحياء المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراع، رغم أن أنظمة الحقيقة والعدالة في مندي لم تتمكن من تقديم معالجة كافية للجرائم المرتكبة خلال الحرب. لقد تم تدمير النظام الاجتماعي للمندي، وفي الواقع جميع المجموعات العرقية الأخرى في البلاد، بشكل كامل.

5. 2. نقاط الضعف

1. يمكن تطبيق ممارسات المندي في مجتمعاتها فقط، وبما أنه حدث الكثير من الترابط بين المجموعات على مدى سنوات (على سبيل المثال من خلال الزواج المختلط)، فإنها قد لا تكون مناسبة في تسوية النزاعات التي تنشأ بين المندي وأشخاص من غير المندي في المجتمع المحلي.

2. يمكن للاعتماد المفرط على الحكماء في تسوية النزاعات والمشاكل الأخرى أن يكون في غير مصلحة جماعات أخرى، مثل الشباب. أضف إلى ذلك ما يبدو من عدم وجود العدد الكافي اليوم من الحكماء الذين يمتلكون معرفة كاملة بوسائل وطرق المجتمع المحلي. على المدى البعيد، يمكن لهذه الممارسات ان تختفي كليًا.

3. تبدو آلية العدالة غير مرنة، وفي كثير من الأحيان تستخدم طرقًا قديمة جدًا لمعالجة قضايا ناشئة.

4. يعد استخدام العنصر فوق الطبيعي في تسوية نزاعات المندي إشكاليًا.

5. لم تتمكن آليات العدالة التقليدية من المقاومة بشكل يمكنها من الصمود أمام ضغوط الحرب. ينبغي أن تأخذ أدوات العدالة والمصالحة التقليدية الظروف المتغيرة بعين الاعتبار وأن تتيح المجال لمشاركة وشمولية أوسع، خصوصًا بالنسبة للنساء والشباب. قد يكون من الصعب إعادة بناء هذه الأدوات، لتمكينها من معالجة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالشكل المناسب.

5. 3. الفرص

1. لقد ولّد الصراع قدرًا كبيرًا من الاهتمام الخارجي، خصوصًا بين المنظمات غير الحكومية، من حيث إجراء دراسات مفصلة وكذلك استخدام أدوات إدارة الصراع التقليدية في جهود المصالحة في المجتمعات المحلية.

2. يبدو أن هناك الكثير من الهيئات والوكالات المستعدة لاستخدام هذه الآليات في إعادة إدماج الأطفال المقاتلين في مجتمعاتهم، كما ذكر أعلاه.

5. 3. التهديدات

1. رغم ما يبدو من إيلاء بعض الاهتمام بالإمكانيات التي يمكن لممارسات المندي أن توفرها في تسوية النزاعات في المجتمعات المحلية وتحقيق المصالحة بين الأطراف المتحاربة، فإن بعض الناس لا يزالون ينظرون إلى هذه الآليات على أنها متخلفة وبدائية. وربما كان هذا السبب بالذات هو الذي دفع لجنة الحقيقة والمصالحة في سيراليون إلى عدم استخدام مثل هذه الأنظمة بشكل كبير.

2. إن المقاربات التي تطبق من القاعدة إلى القمة في بناء السلام والمتبعة من قبل الحكومة والوكالات الدولية تعطل عمل هذه الآليات.

3. إن اقتلاع العائلات من مناطق سكنها والهجرة بأعداد كبيرة بالنسبة للشباب إلى المراكز الحضرية، تسهم في جعل هذه الآليات أقل فعالية.

6. الاستنتاجات

لقد شكل الصراع الدموي الذي غرقت فيه سيراليون بين عامي 1991 و2002، والذي سبقته عدة سنوات من الإقصاء السياسي والاجتماعي، وسوء الإدارة الاقتصادية والفساد المنظم، كارثة بشرية غير مسبوقة. ترك الصراع في أعقابه العديد من التحديات الصعبة، ليس أقلها تطبيق العدالة. لقد حتم تدويل الحرب ومشاركة لاعبين خارجيين في عملية البحث عن السلام وطبيعة وجسامة الجرائم المرتكبة خلال الحرب، استخدام إستراتيجيات بناء سلام “من القمة إلى القاعدة”.

أبرزت الحرب مرة أخرى قدرة السيراليونيين على الصفح والمصالحة. إنهم يعون بشكل كامل أنهم لا يستطيعون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ما حدث قد حدث. وهذا ما تعبر عنه المقولة الشائعة في المندي ›عندما تطلق بندقية النار، فإن النار تكون قد أطلقت‹. بعبارة أخرى، ينبغي على المرء النظر الى

المستقبل.

لقد أعقب الصراع تأسيس آليات عدالة انتقالية، بما في ذلك لجنة الحقيقة والمصالحة والمحكمة الخاصة. رغم أن لجنة الحقيقة والمصالحة استخدمت القواعد التقليدية في السعي لمعرفة الحقيقة وفي عمليات المصالحة، فإنها تجاهلت في كثير من الأحيان طقوس اللعن والتنقية والتطهير، مما حد من قدرتها ربما على الحصول على الاعترافات وتحقيق المصالحة.

لقد انطلقت عملية مراجعة وإصلاح متعددة القطاعات تشمل القطاع القانوني والقضائي، ومن شأن ذلك أن يعزز السلام في سيراليون. إلا أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن حقيقة أن ما احتاج تدميره إلى عقود لا يمكن إعادة بنائه بين ليلة وضحاها.

إن الموارد المجتمعية مثل آليات المساءلة الأصلية مفيدة جدًا في بناء السلام، خصوصًا بعد الصراعات العنيفة. إنها تتمتع بقدرات كامنة على تيسير إعادة الاندماج وعمليات التعافي، حيث إن أفراد المجتمع المحلي يعرفونها ويتقبلونها. وهكذا فإن الممارسات القائمة على التقاليد استخدمت بكفاءة لإعادة إدماج الجنود الأطفال في سيراليون. رغم ذلك، فإن هذه الأدوات يمكن أن تكون مكملة فقط لجهود أنظمة العدالة الجنائية، حيث إن هذه الأخيرة هي وحدها القادرة على التعامل مع قضايا معقدة مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

المراجع وقراءات إضافية

Abraham, Arthur, ‘Liberia and Sierra Leone: History of Misery and Misery of History’, International Journal of Sierra Leone Studies and Reviews, vol. 1, no, 1 (fall 2000)

Alie, Joe A. D. and Gaima, E. A., Conflict in Sierra Leone: Rising From the Ashes (New York: United Nations Development Programme (UNDP), 2000)

Harris, W. T. and Sawyerr, Harry, The Springs of Mende Belief and Conduct: A Discussion of the Influence of the Belief in the Supernatural among the Mende (Freetown: Sierra Leone University Press, 1968)

Kelsall, Tim, ‘Truth, Lies, Ritual: Preliminary Reflections on the Truth and Reconciliation Commission’, Sierra Leone Human Rights Quarterly, vol. 27, no. 2 (May 2005)

Lord, David (ed.), ‘Paying the Price: The Sierra Leone Peace Process’, Accord (Conciliation Resources, London), issue 9 (2000), available at <http://www.c-r.org/our-work/accord/sierra-leone/contents.php>

Minneh, Kane et al., ‘Sierra Leone: Legal and Judicial Sector Assessment’,

Legal Vice Presidency, World Bank, 2004

No Peace Without Justice and UNICEF Innocenti Research Centre, International Criminal Justice and Children ([Florence]: UNICEF Innocenti Research Centre, 2002)

Pettersson, Björn, ‘Post-conflict Reconciliation in Sierra Leone: Lessons Learned’, in International IDEA, Reconciliation Lessons Learned from United Nations Peacekeeping Missions: Report Prepared by International IDEA for the Office of the High Commissioner for Human Rights (OHCHR) (Stockholm: International IDEA, 2004)

Sierra Leone Truth and Reconciliation Commission, ‘Reconciliation’, Final Report, 2004, Vol. 3B, chapter 7, available at <http://trcsierraleone.org/drwebsite/publish/v3b-c7.shtml>

Wojkowska, Ewa, Doing Justice: How Informal Justice Systems Can Contribute (Olso: UNDP and Oslo Governance Centre, 2006)__

الفصل السادس

مؤسسة الباشينغانتاهي في بوروندي

أسومبتا نانيوي-كابوراهي

1. الصراع في بوروندي

1. 1. بداية صراع دموي

بوروندي بلد صغير (27.834 كم 2) استقل عام 1962 . قام فيه نظام حكم ملكي وراثي منذ عدة قرون قبل أن يخضع للاستعمار الألماني (1896 – 1912) ومن ثم الاستعمار البلجيكي (1912 – 1962). تقع بوروندي في منطقة البحيرات العظمى في أفريقيا حيث تحدها رواندا من الشمال، جمهورية الكونغو الديمقراطية من الغرب، وتنزانيا من الجنوب والشرق. نظرًا لأن الزراعة تشكل 90 بالمئة من اقتصادها وكونها أحد أكثر بلدان أفريقيا كثافة سكانية (حوالي 290 نسمة/كم 2)، فإن البلاد لا تزال تواجه صعوبات تنموية هائلة. يتكون سكانها من أربع مجموعات يمكن وصفها بمجموعات إثنية (أوبووكو)، وهي الباهوتو والباتوتسي والباغانوا والباتوا. تتحدث هذه المجموعات العرقية نفس اللغة، وتتشاطر نفس الثقافة والتاريخ، وتعيش في نفس المنطقة.

رغم المشتركات اللغوية والثقافية، فإن بوروندي شهدت على مدى أربعة عقود صراعات عنيفة مختلفة ذات طبيعة إثنية وسياسية. منذ استقلالها عام 1962، مرت بحلقات من العنف بسبب الصراع على السلطة والاحتفاظ بها؛ وانطوى هذا العنف على استغلال المجموعات العرقية من قبل النخب السياسية في صراعاتها على السلطة.

وضعت مملكة بوروندي، المستعمرة الألمانية سابقًا، تحت الانتداب البلجيكي من قبل عصبة الأمم عام 1919. لم تكن الانقسامات العرقية التي مزقت بوروندي لاحقًا موجودة في ظل الحكم الملكي، الذي كان قد طور درجة كبيرة من الاستقرار. كانت الملكية نظامًا معقدًا جدًا للحكم، استوعبت قدرًا كبيرًا من العناصر العرقية والقبلية الذكية في آليات حكمها.

قبيل استقلالها، شهدت بوروندي اضطرابات سياسية كبيرة. كان هناك على الأقل 26 حزبًا سياسيًا، يقاتل بعضها، مثل الاتحاد من أجل التقدم الوطني (أوبرونا)، من أجل الاستقلال الفوري، في حين أن أحزابًا أخرى، مدعومة من القوة الاستعمارية، بلجيكا، لم تكن مستعجلة على تحقيق هذا الهدف. أصبح حزب أوبرونا، والذي نجح في حشد وتعبئة الباهوتو والباتوتسي تحت قيادة الأمير لويس رواغاسور، الذي قاد البلاد إلى الاستقلال، تدريجيًا تحت هيمنة الباتوتسي وظل في السلطة منذ الاستقلال، الذي حصلت عليه بوروندي في 1 تموز/يوليو 1962، وحتى إحداث نظام التعددية الحزبية، الذي أفضى إليه الفوز الانتخابي للجبهة من أجل الديمقراطية (فروديبو) التي يهيمن عليها الباهوتو عام 1993 .

في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1961، اغتيل الأمير لويس رواغاسور، بطل الاستقلال. وفي 15 كانون الثاني/يناير 1965 اغتيل رئيس الوزراء بيير نغيداندوموي، وهو من الموهوتو وأحد المقربين من الأمير أيضًا. بعد اغتيال هاتين الشخصيتين السياسيتين والوطنيتين الكبيرتين، دخلت البلاد مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والكراهية العرقية. أطيح بالملكية التي باتت ضعيفة بانقلاب عسكري عام 1966 قاده النقيب مايكل ميكومبيرو، الذي أطاح به العقيد جان باتيست باغازا عام 1976. ثم أطيح بباغازا من قبل بيير بويويا عام 1987.

شهد عام 1972 اندلاع الأعمال العدائية والمجازر العرقية بين الباهوتو والباتوتسي على مستوى البلاد. شكلت الأحداث المأساوية، بمدى عنفها والصدمة التي أحدثتها في عقول البورونديين، الذين وقع كثيرون منهم ضحيتها، وخصوصًا المثقفين الهوتو الذين قتلوا أو أجبروا على الذهاب إلى المنفى، في ذلك العام عاملًا رئيسيًا في التاريخ الحديث لبوروندي. كانت إدارة السلطات لأزمة عام 1972 كارثية. أُغرق الزخم الديمقراطي الذي كان قد أدى إلى الاستقلال في الدماء بعد بضع سنوات فقط. ووسعت محاولات الإطاحة بالحكومة وغيرها من المؤامرات الحقيقية أو المتخيلة من الفجوة بين الباهوتو والباتوتسي. وعلى مدى ثلاثة عقود، وقعت البلاد تحت حكم حكام عسكريين من نفس المقاطعة، خلفوا بعضهم بعضًا في سلسلة من الانقلابات العسكرية واعتمدوا بشكل كامل على الحزب السياسي الوحيد، أوبرونا، في حكم البلاد.

1. 2. آب/أغسطس 1988: دعوة فاترة للديمقراطية

شكل 22 آب/أغسطس 1988 نقطة تحول في التاريخ الحديث لبوروندي. بعد سلسلة من المجازر في الشمال، وجهت مجموعة من المثقفين الهوتو رسالة مفتوحة إلى الرئيس بويويا عبروا فيها عن رغبتهم بإشراك الباهوتو في الدفاع عن البلاد وفي القيادة السياسية. كان للرسالة أثر كبير داخل بوروندي وخارجها.

ونتيجة لها، أطلق بويويا ما سماه سياسة الوحدة الوطنية. عين رئيس وزراء من الهوتو وأصبحت تشكيلة حكومته متوازنة من حيث التمثيل العرقي. وتمثلت ›الوحدة الوطنية‹ رمزيًا في العديد من الطرق المختلفة. في شباط/فبراير 1991 تم تبني ›ميثاق الوحدة‹ وتم تأليف “نشيد وطني للوحدة”. وكانت “حكومة الوحدة” حديث الساعة، وتم إشادة “نصب الوحدة” على مرتفعات مدينة بوجومبورا، ورفع “علم الوحدة” إلى جانب العلم الوطني، بل بات هناك “قبعات الوحدة” تعرض للبيع. للمرة الأولى، بدأ البوروندويون بالنقاش علنًا حول القضية العرقية. بفضل سياسة الانفتاح هذه، بدأت معالجة قضايا كانت من المحرمات حتى ذلك الوقت بصراحة (وإن كانت تلك المعالجة غير متقنة في كثير من الأحيان)، وبدا المناخ الاجتماعي أقل توترًا وبدأت العملية الديمقراطية بالتقدم إلى الأمام. رغم الانتقادات المبررة في بعض الأحيان، لا يمكن إنكار أن هذه السياسة خففت من حدة التوترات العرقية شيئًا ما، ولو سطحيًا. لكن، ورغم سياسة الانفتاح الجديدة، فإن العداء ظل مستحكمًا.

1. 3. بوروندي في مهب رياح التحول الديمقراطي

أجبرت رياح التحولات الديمقراطية التي كانت تعصف بسائر أنحاء أفريقيا في مطلع تسعينيات القرن العشرين وبعد القمة الفرانكو–أفريقية السادسة عشرة بيير بويويا على إطلاق عملية التحول الديمقراطي في بوروندي. تبنت البلاد دستورًا جديدًا يقوم على التعددية الحزبية وحرية الصحافة.

في حزيران/يونيو 1993، ذهب البورونديون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس للجمهورية. تنافست ثلاث مجموعات في الانتخابات، أوبرونا وفروديبو وحزب المصالحة الشعبية، وهو حزب جديد نسبيًا للأقلية لا تهيمن عليه أي مجموعة عرقية محددة، لكنه يتكون بشكل أساسي من الباغانوا والباتوتسي. فاز فروديبو بالانتخابات، وللمرة الأولى في تاريخ البلاد تسلم أحد أفراد الموهوتو، وهو ميلشيور ندادايه منصبه رئيسًا للجمهورية. رحب العالم بأسره بهذا التبادل للسلطة وبالتجربة الديمقراطية الجديدة في البلاد. في هذه الحالة، استمرت ›الديمقراطية بين قوسين‹ ثلاثة أشهر فقط. اغتيل ندادايه، مع مجموعة من المقربين منه من قبل جنود باتوتسي في تشرين الأول/أكتوبر 1993، ما أدى إلى حدوث مجازر عرقية على نطاق واسع. قُتِل المدنيون، وخصوصًا الباتوتسي، على أساس هويتهم العرقية، ما أدى إلى مقتل حوالي 300.000 شخص، في حين تم تهجير 800.000 شخص أو أجبروا على البحث عن ملاذ آمن خارج البلاد.

شهدت بوروندي دمارًا هائلًا لبنيتها التحتية الاجتماعية والاقتصادية وأزمة في القيم الأخلاقية، من جهة، ومن جهة أخرى، نشأ تنظيم الصراع المسلح من قبل حركتين مسلحتين للهوتو هما حزب الجبهة الوطنية لتحرير شعب الهوتو، وقوات الدفاع الديمقراطية، الجناح العسكري للمجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية.

1. 4. الحرب الأهلية والمفاوضات

في عام 1998 بدأت بوروندي الانخراط في المفاوضات في محاولة لوقف الحرب. بدأ الرائد بيير بويويا، الذي كان قد استولى على السلطة مرة أخرى في تموز/يوليو 1996 ، فيما سماه “انقلاب ليس كغيره من الانقلابات” و”مبادرة لإنقاذ البلاد”، بمحادثات مع جيش متمردي الهوتو، الذي كان يحقق سيطرة متزايدة على الأرض. لكن انقلابه لم يكن موضع ترحيب من قبل المجتمع الدولي. فُرِض حصار كامل على البلاد فاقمت آثاره من سوء الأوضاع التي كانت حرجة أصلًا بعد سنوات من عدم الاستقرار السياسي، وانعدام الأمن المتزايد وتدهور الأوضاع الاجتماعية–الاقتصادية.

لغايات تتعلق بالمفاوضات، كانت الاجتماعات الأولى سرية وعقدت في روما تحت رعاية المجموعة الدينية في سان إيغيديو. أصبحت المفاوضات رسمية في تنزانيا بمشاركة الرئيس التنزاني السابق يوليوس نيريري، وأخيرًا بمشاركة نيلسون مانديلا. وقعت اتفاقية أروشا للسلام والمصالحة في 28 آب/أغسطس 2000. بموجب بنود الاتفاقية، تم تشكيل حكومة انتقالية يقودها بويويا، وهو من الموتوتسي، لفترة أولى تدوم 18 شهرًا، ويقودها دوميتيان اندانيزيه، وهو من الموهوتو، لفترة ثانية تدوم 18 شهرا. وكتتمة لهذه العملية، تأسست عملية الأمم المتحدة في بوروندي على الأراضي البوروندية في 1 حزيران/يونيو 2004. أكملت تفويضها في 31 كانون الأول/ديسمبر 2006 بتأسيس مكتب الأمم المتحدة المتكامل في بوروندي. جاءت هذه البعثة تلبية لطلب الأطراف السياسيين البورونديين الذين أوضحوا، بموجب اتفاقية أروشا، البروتوكول رقم 5، المادتين 7 و 8، وبموجب اتفاقيات وقف إطلاق النار ذات الصلة، أدوار المجتمع الدولي والأمم المتحدة من حيث ضمان تنفيذ الاتفاقية.

بعد تشرين الثاني/نوفمبر 2003، وبعد توقيع اتفاقية بريتوريا حول تقاسم السلطة بين الحكومة وحركة متمردي المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية – قوات الدفاع عن الديمقراطية، تحسن الوضع الأمني بشكل كبير، رغم غياب حزب تحرير شعب الهوتو– قوات التحرير الوطنية، التي انضمت أخيرًا إلى عملية السلام في أيلول/سبتمبر 2006.

يتم حاليًا تنفيذ سلسلة من الإصلاحات التي نصت عليها اتفاقيات السلام المختلفة، خصوصًا فيما يتعلق باتفاقيات الدفاع والأمن والنظام القضائي. لا شك أنه تم تحقيق تقدم كبير سواء من حيث السلام والأمن في بوروندي أو في مجالات التحول الديمقراطي لمؤسسات الدولة، وإصلاح وإعادة تنظيم قوات الدفاع والأمن، والعودة الطوعية للمهجرين، إلا أن الوضع يبقى هشًا.

1. 5. مراحل في تطور العدالة الانتقالية في بوروندي

لقد تغيرت آليات العدالة الانتقالية المختلفة التي اقترحت لبوروندي في اتفاقية أروشا في آب/أغسطس 2000. نصت تلك الاتفاقية على تأسيس لجنة حقيقة ومصالحة وآليتين دوليتين، اللجنة القضائية الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. كان من المفروض أن يكون تفويض اللجنة القضائية الدولية للتحقيق ولجنة الحقيقة والمصالحة التحقيق في دورات العنف التي شهدتها بوروندي منذ الاستقلال عام 1962، في حين كان من المفترض أن تقوم المحكمة الجنائية الدولية بمعاقبة المذنبين في القضايا التي تؤكد لجنة التحقيق وجود أدلة فيها على ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب.

رغم أن الحكومة الانتقالية كانت مسؤولة عن وضع هذه الآليات، فإنها طلبت من الأمين العام للأمم المتحدة إنشاء لجنة التحقيق القضائية الدولية في 24 تموز/يوليو 2002.

بعد ذهابه في مهمة إلى بوروندي، في أيار/مايو 2004، قدم معاون الأمين العام للأمم المتحدة، تولياميني كالوموح، تقريره لمجلس الأمن (تقرير كالوموح). أوصى التقرير بتأسيس لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة وأن يتم تأسيس غرفة خاصة داخل الهيكلية القضائية البوروندية. كان هذا الحل يهدف إلى تجنب ازدواجية الوظائف بين لجنة الحقيقة والمصالحة ولجنة التحقيق القضائية الدولية، وتمكين النظام القضائي البوروندي من الاستفادة من الدعم الدولي المتوقع لهاتين الغرفتين.

في قراره رقم 1606 لعام 2005، طلب مجلس الأمن من الأمين العام الشروع في المفاوضات مع الحكومة، واستشارة شعب بوروندي. شكلت الحكومة وفدًا مكونًا من تسعة خبراء وطنيين مهمتهم التفاوض على تأسيس آلية العدالة الانتقالية الثنائية. جرت الجولة الأولى من المفاوضات بين الحكومة ووفد الأمم المتحدة في بوجومبورا في آذار/مارس 2006 على أساس مذكرة (بتاريخ 26 آذار/مارس 2006) وضعها وفد الحكومة. توصّل الوفدان إلى عدة اتفاقيات لكن كان هناك خلاف كبير حول بعض الملامح الأساسية للآلية الثنائية المقترحة، أي تنظيم مشاورات موسعة وقضية العفو، والعلاقة بين اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة والمحكمة الخاصة.

في قراره رقم 1716 (2006)، أنشأ مجلس الأمن المكتب المتكامل للأمم المتحدة في بوروندي ليحل محل عملية الأمم المتحدة في بوروندي ومنحه تفويضًا، بين أشياء أخرى، بدعم الحكومة في تأسيس آليات عدالة مؤقتة لتعزيز حماية حقوق الإنسان ومحاربة الإفلات من العقاب.

جدير بالملاحظة أن المؤسسات التي تشكلت بعد الانتخابات الديمقراطية تعمل الآن على جميع المستويات، بتفويض مدته خمس سنوات. لكن لا يزال هناك تحديات رئيسية، خصوصًا تلك التي تواجه قطاع العدالة، الإفلات من العقاب فيما يتعلق بالجرائم والجنح؛ والفساد في الهيكليات القضائية والخدمات الحكومية الأخرى؛ والميل العام نحو الانتقام الشعبي ومشكلة الحقيقة؛ والصفح والمصالحة؛ ومشاكل الممتلكات؛ وإعادة تأهيل ضحايا الحرب، وما إلى ذلك.

هذه قائمة (ليست شاملة بالتأكيد) من القضايا التي ينبغي معالجتها من أجل استعادة سيادة القانون في بوروندي، وتتطلب مشاركة جميع المؤسسات الوطنية الشرعية. بعد فترة العنف، تصارع الحكومة، التي عالجت القضية بشكل مباشر، للتعامل مع مسألة كيفية إدارة ماضٍ يتسم بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من أجل تجنب أن دُحيث الماضي أثرًا سلبيًا على المستقبل، وبذلك يديم دورة العنف. إنها مسألة تتعلق بتحليل الكيفية التي يمكن من خلالها للنظام الحالي للحكومة أن يستجيب لضرورة تحقيق العدالة بعد فترة طويلة من الإفلات من العقاب، بالاعتماد على أنظمة قضائية رسمية وغير رسمية، مثل مؤسسة باشينغانتاهي.

لقد لعبت مؤسسة باشينغانتاهي دائمًا دورًا مهمًا ليس فقط في المجتمع التقليدي بل أيضًا خلال الأزمات التي هزت البلاد على نحو منتظم. لقد أظهرت أثرها خصوصًا خلال المذابح التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 1993، عندما تدخلت، وجعلت من نفسها حاجزًا بين الأطراف المتحاربة وحاولت إنقاذ حياة العديد من الأشخاص. في المناطق التي يوجد فيها باشينغانتاهي قوية وفعالة، فإن الأضرار من حيث فقدان حياة الأشخاص كانت محدودة، نسبيًا وظل الباهوتو والباتوتسي موحَّدين بفضل هؤلاء الحكماء. من هم هؤلاء؟ وكيف يعملون؟ وكيف يمكنهم مساعدة البورونديين على معالجة الماضي الصعب للبلاد والمهمة التي تشكل تحديًا، والمتمثلة في تعزيز العدالة والديمقراطية والسلام والأمن اليوم؟

2. آلية العدالة التقليدية: مؤسسة الباشينغانتاهي

2. 1. وصف المؤسسة

2. 1. 1. المفهوم

في الاستخدام الحالي، يشير مصطلح باشينغانتاهي (مفردها أوموشينغانتاهي) إلى رجال يتمتعون بالنزاهة يكونون مسؤولين عن تسوية الصراعات على جميع المستويات، من قمم الهضاب إلى بلاطات الملوك. يتكون المصطلح من جذر الفعل، غوشينغا (أن يزرع ويغرس)، والاسم انتاهي (عصا العدالة)، فإن المصطلح يعني حرفيًا :الشخص الذي يرسخ القانون”. يشار إلى هؤلاء الرجال بهذه الطريقة بسبب عصا العدالة التي يضربون بها الأرض بإيقاع وبالتالي يستحضرون حكمة الأسلاف المدفونين تحتها ولإبراز قوة الأحكام التي يصدرونها عندما يحكمون في الصراعات. يستعمل الاسم انتاهي ككناية ورمز للإشارة إلى العدالة والإنصاف. ف. م. روديجيم، في قاموسه الرواندي – الفرنسي لعام 1970 يترجم كلمة أوموشينغانتاهي على أنه “قاض محلي، شخصية بارزة، مستشار، حكم، مقيِّم، قاض، الشخص الذي يتمتع بالسلطة القضائية والذي يحمل عصا (انتاهي) كرمز لسلطته”، وبالنسبة لـ انتابونا، فإن مصطلح أوموشينغانتاهي يشير إلى “رجل مسؤول عن حفظ النظام والهدوء والحقيقة والسلام في بيئته. وهذا ليس بفضل سلطة إدارية ممنوحة له، بل بفضل شخصيته ونوعية حياته التي يعترف بها المجتمع، والتي تسبغ مثل تلك الصلاحيات عليه”.

2. 1. 2. أصل واختيار الباشينغانتاهي

طبقًا للأسطورة، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي تعود إلى أواخر القرن السابع عشر وشخص اسمه نغوما يا ساسيغا، وهو رجل حكيم اشتهر بأحكامه التي أصدرها خلال حكم الملك الأول، ناتري روشاتسي، المؤسس الأسطوري للملكية في بوروندي. وهذا يشير إلى أن أصل المؤسسة هو في الأساس قضائي. وتتكون المؤسسة من حكماء، أشخاص ذووي أخلاق لا يمكن الطعن فيها، ولعبوا دورًا مهمًا لعدة عقود، خصوصًا خلال حقبة الملكية. ترأست هذه المؤسسة التنظيم القضائي في البلاد على جميع المستويات، ولعبت دورًا في تحقيق الضوابط والتوازنات في السلطة. بمعنى ما، فإن الباشينغانتاهي كانت تشكل سلطة سلمية ومستقلة واحتوت، وقلصت وسيطرت على سلطة الملك والزعماء، بينما ضمنت الحد من الأحكام الاعتباطية والافتقار إلى العدالة.

هذه الوظيفة للمؤسسة هي التي تشكل مصدر قوتها الرئيسي، وهي قوة يمكن رؤيتها في اختيار الباشينغانتاهي. لكي يتم اختيار هذا الشخص، كما أكدت الأبحاث التي أجريت في سائر أنحاء البلاد، ينبغي أن يمثل المرشح خصائص جوهرية مثل الخبرة والحكمة؛ وتقديرًا عاليًا وحبًا للحقيقة؛ وأن يتمتع بدرجة عالية من الشرف والكرامة، وحب العمل والقدرة على تلبية احتياجات الآخرين، وبشعور عال بالعدالة والإنصاف، وشعور بالخير العام والمسؤولية الاجتماعية، والرصانة والتوازن في القول والفعل. كما يتطلب ذلك صفات أخلاقية وفكرية أخرى، مثل الحذر والتعقل، الذكاء الحاد، احترام الذات واحترام الآخرين، روح الاعتدال، والشجاعة وتكريس الذات لخدمة الآخرين. تضمن هذه الخصائص النزاهة والسلطة الأخلاقية “للباشينغانتاهي” وتعد مبادئ أساسية مرشدة لسلوكهم وأدائهم لواجباتهم. تقليديًا، الرجال وحدهم يمكن انضمامهم إلى هذه المؤسسة النبيلة.

2. 1. 3. ترسيم الباشينغانتاهي ومعنى القسم

ينبغي للمرشح لمؤسسة الباشينغانتاهي أن يخضع لطقوس الدخول إلى المؤسسة التي تتكون من عدة مراحل تتم خلالها مراقبته وإرشاده من قبل المحيطين به، خصوصًا معلمه والمشرف عليه، الذي يكون دوره إدخاله في المؤسسة وإعداده لواجباته المستقبلية (انظر المربع 9). ويمثل يمين الولاء ليس فقط ميثاقًا بين الناس والأوموشينغانتاهي الذي تم ترسيمه حديثًا، بل أيضًا الالتزام بتنفيذ الواجبات الناجمة عنه. إنه يمين يشمل ويحقق الوظائف الاجتماعية – السياسية في الالتزام وشمول الجميع.

المربع 9: ترسيم أوموشينغانتاهي في بوروندي:

1. الطامح إلى هذه الوظيفة في بداية مسيرته. يظهر المرشح رغبته في أن يصبح جزءًا من مؤسسة الباشينغانتاهي.

2. المستوى الأول. على المرشح أن يطلب صراحة أن يتم ترسيمه. منذ تلك اللحظة، تتم مراقبته خلال خطبه العامة، وسلوكه ومواقفه خلال الطقوس الرسمية التي يعطى فيها مسؤوليات معينة، خصوصًا فيما يتعلق بتقاسم المشروبات بين الرجال غير المرسمين. كما يفوض المرشح بالمشاركة في النقاشات وأن يبادر لمصالحة الأطراف في حالة النزاع أو التحكيم في مختلف القضايا.

3. ينتظر المرشح الترسيم. يقوم المشرف بمراقبة المرشح بشكل وثيق، ويغدق عليه بالمشورة، ويطلعه على المعارف المعمقة بالعادات والمهارات المرتبطة بتسوية النزاعات، وهي المعارف والمعلومات الضرورية لأداء واجباته المستقبلية. 4. الترسيم. بموافقة مشرفه، يتم قبول الشخص الطامح بطقوس ترسيم رسمية تجرى خلال كرنفال كبير يمثل طقس التثبيت، والارتباط ورفع رتبة الشخص إلى عضو في الباشينغانتاهي. هذه الطقوس ذات أهمية كبيرة حيث تمثل الالتزام القوي للمرشح بهذه المكانة الجديدة. تعكس الخطب التي تلقى في هذه المناسبة بعمق الالتزامات التي يتعهد بها الأوموشينغانتاهي. ومن ثم تتجسد عضوية الطامح في عضوية الباشينغانتاهي بشكل أكبر بمنحه عصا العدالة التي يتلقاها واليمين الذي يحلفه خلال عملية الترسيم.

2. 1. 4. عمل المؤسسة وبنيتها الأصلية

منذ حقبة الملكية، وعلى جميع المستويات، كان لكل سلطة هيئة للباشينغانتاهي تساعدها وتقدم المشورة لها، بينما تلعب دور المحافظ على الضوابط والتوازنات. وهنا كانت الهيكلية غير رسمية ولها عدد من المهام. من ناحية أخرى، ومن حيث التفويض، فقد كان للمؤسسة هيكلية رسمية، تبدأ بالتحكيم في الشؤون

الأسرية، صعودًا إلى التحكيم على المستوى المحلي ومن ثم إلى التحكيم على مستوى نائب الرئيس ثم تحكيم على مستوى الرئيس ثم التحكيم في البلاط الملكي. وعلى هذه المستويات المختلفة من التفويض، كانت الباشينغانتاهي تسوي مختلف النزاعات المتعلقة بمسائل الإرث وتقاسم الممتلكات (الأراضي والمواشي)، والنزاعات الأسرية والاجتماعية والصراعات في الأحياء أو النزاعات على الهضاب، وما إلى ذلك. كانت القضايا الأكثر أهمية (القتل أو سرقة المواشي) تتم تسويتها على مستوى محاكم الزعماء والقضايا الخطيرة، خصوصًا أفعال إهانة الذات الملكية والحالات التي تتطلب الإعدام. كانت المؤسسة تعمل طبقًا لمدونة صارمة للمهام المُعرَّفة بشكل محدد.

2. 1. 5. المهام والمبادئ الرئيسية للمؤسسة

للمؤسسة ثلاث مهام رئيسية هي، الوساطة والمصالحة والتحكيم.

الوساطة: كان الأوموشينغانتاهي يع لمساعدة أطراف النزاع في تسوية خلافاتهم. فقط إذا أخفقت جهوده كان يستعان بمجلس الباشينغانتاهي لإيجاد حل وسط من خلال المصالحة. الجدير بالملاحظة هنا أن المصالحة لا ترتبط حصريًا بتسوية الصراع؛ بل إنها جزء لا يتجزأ من الثقافة البوروندية وتمارس في بيئات اجتماعية أخرى مثل تنظيم مراسم الزواج أو حتى في الطقوس.

المصالحة: عندما ينشأ صراع أو نزاع بين أفراد المجتمع المحلي، خصوصًا عندما يكون النزاع بين أفراد العائلة أو الجيران، فإن الباشينغانتاهي تحاول دفع الأطراف إلى تسوية سلمية من خلال تقديم المشورة واقتراح الصفح المتبادل والمصالحة بدلًا من المطالبة بالأضرار. وفي هذا السياق، ينظر إلى المصالحة بوصفها مقدمة ضرورية لجميع إجراءات المحاكم وتتكون من إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم بين الأطراف المعنيين، وبالتركيز بشكل أساسي على المصالحة وحفظ السلام والتماسك الاجتماعي والانسجام.

التحكيم: يكمل التحكيم ويطيل من عملية المصالحة إذا تبين أن المصالحة ليست فعالة. يتم إصدار حكم من قبل الباشينغانتاهي، الذين يعتبرون في حالات من هذا النوع قضاة حقيقيين تكون قراراتهم ملزمة للأطراف. يتطلب نجاح عملية المصالحة والتحكيم التفاهم المتبادل واستعداد المشتكين لوضع حد لخلافاتهم، وكذلك الحيادية المفترضة للمحكّم، الذي لا يكون من أي من طرفي النزاع. وحسب طبيعة الصراع، فإن الطرف الذي لا تعجبه نتيجة التحكيم يمكنه الاستئناف إلى مستوى أعلى وصولًا إلى تحكيم الملك. اليوم، بوسع الطرف الذي يشعر بأنه مظلوم أن يلجأ إلى المحاكم، وأن يقدم نسخة عن المحضر الرسمي للأحكام التي أصدرتها الباشينغانتاهي (على سبيل المثال في حالات النزاع على ملكية الأرض).

2. 1. 6. المبادئ الدافعة للمؤسسة

تنعكس هذه المبادئ في الالتزامات التي يتعهد بها الباشينغانتاهي خلال ترسيمهم وفي الفكرة المهيمنة التي توجه أفعالهم. وهي على النحو الآتي:

الحيادية وعدم الانحياز: تتمثل هذه المبادئ في معاملة جميع الأطراف المعنيين بالتساوي، والالتزام بعدم الوقوف إلى جانب أحد أطراف الصراع، وهي لا تنطوي في أي حال من الأحوال على عدم اتخاذ القرار أو عدم القيام بالفعل المطلوب. ينبغي على الباشينغانتاهي الإصغاء للجميع، والبحث عن الحقيقة والعمل بحكمة دون السماح لأنفسهم بأن يتأثروا أو ينحازوا في أي حال من الأحوال.

الزمالة: لقد مُنح هذا المبدأ قوة القانون في التقاليد البوروندية، التي ترفض أولوية الحكم الفردي في سياق أي محاكمة. من خلال بناء الإجماع بشكل منتظم، وهو نمط عمل الباشينغانتاهي، فإن الأحكام الحيادية يتم إصدارها بعد مداولات بين الزملاء تخلو من أي تسرع في إصدار الأحكام. لهذه الطريقة )انظر على سبيل المثال أهمية كبرى في المسعى لكشف الحقيقة بطريقة تنسجم مع الموضوعية وتكون الأساس في واقع يمكن التحقق منه، وهو أمر جوهري لكل نظام عدالة سليم. تشكل هذه الزمالة الأساس للمصداقية الرسمية للأحكام التي تصدرها الباشينغانتاهي، وهي نظرة تؤكدها حقيقة أن هناك حاليًا أكثر من 70 بالمئة منهم مثبتون من قبل المحاكم القائمة، ومحاكم الدولة في أسفل التراتبية القضائية.

الشفافية واحترام الحقيقة: من خلال العمل بشكل جماعي، فإن الباشينغانتاهي تقدم تقارير حول التقدم الذي تحرزه في عملها والنتائج المتوقعة أو المتحققة وتنشر هذه التقارير على الملأ. ينبغي عليها نشر جميع المعلومات حول أنشطتها، وبالتالي تخضع نفسها للمراقبة والانتقاد. علاوة على ذلك، فإن الباشينغانتاهي والشهود يتعهدون بالالتزام بالحقيقة دومًا.

المصداقية: يساعد هذا المبدأ في تعزيز الشرعية الفردية والمؤسساتية. وهو يتطلب من الباشينغانتاهي ليس فقط أن يقوموا بإظهار صورة إيجابية بل الأهم من ذلك أن يكونوا حذرين حيال وجهات نظر وأحكام الآخرين حول الأفراد والمؤسسة. دون المصداقية، فإن شرعية الأفعال المتخذة تتقوض بشكل خطير.

القانونية والشرعية: تستمد المؤسسة قانونيتها من حقيقة أنها مستمدة من القانون العرفي. وتكون قانونيتها مضمونة طالما لم يتم إلغاء القانون العرفي. اليوم، تحظى قانونيتها بالحماية من خلال عدد من النصوص القانونية، وخصوصًا الدستور (الصادر في آذار/مارس 2005، المادة 68) إضافة إلى قانون الإدارة المحلية، الذي يمنح المؤسسة الشرعية من خلال نصه على أنه ›تحت إشراف زعيم الهضبة أو الضاحية، تكون مهمة مجلس الهضبة أو الضاحية…القيام بالتحكيم والوساطة والمصالحة، إضافة إلى تسوية الصراعات في الحي على الهضبة أو في الضاحية، من خلال الباشينغانتاهي في الوحدة المعنية.

الإنصاف: يركز هذا المبدأ على التشميل وعدم التمييز. هنا، يكمل الإنصاف، ويصحح القانون ويجعله إنسانيًا. هذا يتعلق بجوهر العدالة الطبيعية الموجودة في تقدير ما هو حق لكل شخص. كما أنه الفضيلة الموجودة في كل من يملك هذا الإحساس بالعدالة الطبيعية.

التعقل وعدم التحيز: يلتزم كل فرد في المؤسسة بالسرية في مداولاتهم، وأي انتهاك لهذه القاعدة يعرض الفاعل للعقوبات الأخلاقية والاجتماعية، بما في ذلك الفصل من المجموعة. وهذا يبرز الأهمية المعطاة للدور الذي يطلب من الباشينغانتاهي أن يلعبوه في تسوية الصراعات بين المواطنين دون محاباة أو انحياز لأي طرف.

الخدمة الاجتماعية المجانية: جميع المهام التي يضطلع بها الباشينغانتاهي، المصالحة والتحكيم وإصدار الأحكام القضائية هي مجانية. من حيث المبدأ، ليس هناك رسوم على إجراءات المحاكم أو تعويضات مادية من أي نوع. الاستثناء الوحيد هو الحالات التي يطلب فيها من أولئك الذين يطلبون خدمات الباشينغانتاهي تقديم كمية معينة من شراب البيرة، التي تسمى عادة أغاتوتو كاباغابو، والتي يتشاطرها الجميع وتكون رمزًا لاستعادة الوحدة.

2. 2. تطور مؤسسة الباشينغانتاهي من الحقبة الاستعمارية إلى الأنظمة الجمهورية

كانت المؤسسة جزءًا لا يتجزأ من المجتمع البوروندي التقليدي الذي، كما تمت ملاحظته أعلاه، كان لها فيه مهام محددة بوضوح ولعبت دور الضوابط والتوازنات. إلا أن التطورات الاجتماعية–السياسية اللاحقة لم تتركها دون تغيير. في سياق تطورها التاريخي، غيرت شكلها وفقدت بعضًا من امتيازاتها.

2. 2. 1. تحت النظام الاستعماري

كان النظام الاستعماري أول من أجرى تغييرات كبيرة على النظام التقليدي للعدالة المستندة إلى نظام الباشينغانتاهي. منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، أجرت الإدارة البلجيكية إصلاحات على النظام القضائي بسحب بعض الصلاحيات، خصوصًا من الباشينغانتاهي؛ حيث تمثل أهم إصلاح في إلغاء بعض العقوبات التي اعتبرت بربرية، ودراسة الأحكام الصادرة عن المؤسسة. هذه الإجراءات التي اتخذتها السلطات الاستعمارية، والتي “أعطت لنفسها الحق بتقييم صحة العادات، حرمت للمرة الأولى الباشينغانتاهي من مهمتهم الأساسية المتمثلة في ضمان استمرار الفقه التقليدي”.

أسست السلطات الاستعمارية محاكم في الإقطاعات والإقطاعات الفرعية، وعينت قضاة وكلفتهم بالمسؤولية عن تسوية الصراعات. وقد شكل ذلك تعديًا مهمًا على وظائف الباشينغانتاهي، خصوصًا تلك المتعلقة بجمع الأطراف المتنازعة ومصالحتها. هذا التعايش، الذي حظي فيه رؤساء المحاكم الجديدة بمباركة السلطات الاستعمارية، أضعف دور الباشينغانتاهي بشكل كبير، والذين فقدوا نفوذهم على نحو متزايد في المجتمع المحلي. في الواقع، فإن سلطة السيطرة الاجتماعية انتقلت من المركز الجماعي إلى المركز الإداري للبلاد. رغم ذلك، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي ظلت رمزًا للعدالة والإنصاف وتمكنت من فرض نفوذها بين الناس العاديين وفي المجتمع المحلي، وقد استمرت الباشينغانتاهي بإصدار أحكامها.

أخيرًا، أسهم المبشرون في إضعاف المؤسسة من خلال استحداث ما سموه أباجيناما (مستشارون). كان هؤلاء الرجال مقربين جدًا من المبشرين وكانوا يعينون من بين رجال الدين الموجودين في المجتمع المحلي، ومن بينهم مدرسي المدارس الكاثوليكية، وتمتعوا بنفوذ متزايد في المجتمع المسيحي على حساب

الباشينغانتاهي.

2. 2. 2. بعد الاستقلال

ألغى قانون في 26 تموز/يوليو 1962 جميع الولايات القضائية العرفية وأسس نظامًا واحدًا تمثل في القضاة المحليين وموظفي القضاء. لكن تمت المحافظة على مجلس الباشينغانتاهي على مستوى الهضبة (أدنى مستوى في التراتبية الإدارية) لتسوية النزاعات عن طريق المصالحة في المسائل التي كان مسموحًا له الفصل فيها في القانون، وفي الحفاظ على النظام العام، والسلام والهدوء.

في الجمهورية الأولى (1966 – 1976)، انخرط حزب أوبرونا في تسييس المؤسسة، وبذلك أسهم في تشويهها. من الناحية الفعلية، بدأت السلطات بترسيم موظفي الخدمة المدنية على أنهم باشينغانتاهي دون الأخذ بالاعتبار معايير الترسيم التاريخية والمذكورة أعلاه. من هذه الفترة وما بعد، تراجعت قيمة مصطلح الأوموشينغانتاهي واختلط ببساطة بلقب ›سيد‹ كما يستعمل للإشارة إلى أي ذكر بالغ. أطلقت هذه الفترة منح العضوية في الباشينغانتاهي ليس فقط على أساس المعايير الواردة في التقاليد، بل على أساس المؤهلات الرسمية والمكانة الفكرية.

في ظل حكم الجمهورية الثانية (1976 – 1987)، مُنعت طقوس الترسيم في سائر أنحاء البلاد بسبب التكاليف. وبدلًا من ذلك، كلف الرئيس باغازا إدارات المجتمعات المحلية المعينين من قبل السلطات تعيين أفراد يلعبون دور الباشينغانتاهي على الهضاب.

في عام 1987، استعاد قانون إعادة تنظيم النظام القضائي مجالس الباشينغانتاهي على الهضاب وأعطاها مهمة إجراء المصالحة بين الأطراف المتنازعة قبل اللجوء إلى الإجراءات القانونية. كان من المفروض أن يعيد هذا القرار تأهيل المؤسسة. لكن للأسف، لم تتخذ إجراءات مصاحبة لوضع معايير الترسيم التي تأخذ بالاعتبار السياق السياسي الراهن وتطور المجتمع البوروندي.

هكذا، ومن خلال الأنظمة المختلفة، الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، خضعت مؤسسة الباشينغانتاهي للعديد من التقلبات والتشوهات في قيمها الأساسية بمعنى أنها قمعت ونسيت أحيانًا، وفي أحيان أخرى استخدمت كأداة لبرامج وسياسات الإدارات المتعاقبة. لقد استخدمت واستغلت: باتت قبعة الموشينغانتاهي ترتدى من قبل الزعماء السياسيين أو حتى خدم النظام الحاكم الذين لم يمتلكوا أيًا من خصائص الباشينغانتاهي بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل رأوا في العضوية في المجموعة وسيلة لتسلق السلم السياسي دون أن يتمتعوا بالالتزام والقناعة المصاحبتين لذلك.

3. مؤسسة الباشينغانتاهي اليوم

رغم هذا الوضع، فإن المؤسسة لم تفقد مصداقيتها تمامًا في المجتمع الذي تخدمه، والذي يستمر باللجوء إلى حكمتها. يحلل هذا القسم الدور الذي تمكنت من لعبه خلال الأحداث المختلفة التي مرت بها البلاد على مدى العقد الماضي، أو ما يقارب ذلك، وأثر هذه الأحداث على عملها، ومكانتها الإجمالية في المجتمع.

3. 1. أثر أزمة عام 1993 على المؤسسة

شكلت أزمة عام 1993 اختبارًا صعبًا آخر لمؤسسة كانت قد تأثرت أصلًا بالتقلبات التي فرضتها الأنظمة الاستعمارية والجمهورية. لا يمكن تجاوز الدور الذي لعبته خلال المجازر التي ارتكبت بين المجموعات العرقية المختلفة وأغرقت البلاد في الحداد على مدى أكثر من عقد من الزمن. أظهرت دراسة أجرتها جامعة بوروندي بالتعاون مع معهد الحياة والسلام في 10 مجتمعات محلية في مناطق مختلفة من البلاد، أن العديد من الباشينغانتاهي الذين تم ترسيمهم بطريقة تقليدية حاولوا لعب دورهم كاملًا كآباء في بيئاتهم الاجتماعية من خلال تقديم الحماية للأشخاص المضطهدين، وإنقاذ الضحايا من أيدي المجرمين وتنظيم أنفسهم لاعتقال القتلة والنهابين. وتشهد مصادر عديدة على أن العديد من الباشينغانتاهي يعتبرون أبطالًا (إنكينغي زوبونتو) في مجتمعاتهم المحلية، وهو مصطلح يمكن مقارنته بمصطلح “العادل”، اللقب التشريفي الذي تمنحه دولة إسرائيل لأشخاص من سائر أنحاء العالم ممن خاطروا بحياتهم لإنقاذ اليهود من الإبادة.

في أعقاب عودة الهدوء، بدأ هؤلاء الرجال بتنظيم أنفسهم للانخراط في عملية إعادة توحيد ومصالحة المجتمعات المحلية التي كانت قد انقسمت على أساس عرقي، وبهدف استعادة الحوار والمصالحة التدريجية بين أفرادها. تذكر الدراسات والمقابلات التي أجريت من قبل عدة الخبراء، حالات لطلبات عامة للصفح والاستعداد للتعويض عن الخطأ نتيجة مبادرات الباشينغانتاهي في مجتمعاتهم المحلية. وهذه المبادرات ليست حالات معزولة، لكنها اقتصرت على أماكن معينة.

إلا أن هذه المهمة المتمثلة في العمل كأوصياء على الأخلاق وكوسطاء لم تكن سهلة على الباشينغانتاهي، الذين وجدوا أنفسهم في كثير من الأحيان في مواجهة العديد من العقبات. هناك سجلات تظهر اغتيال أعضاء الباشينغانتاهي لمحاولتهم إنقاذ حياة الأشخاص أو تنصيب أنفسهم أوصياء على ممتلكات الضحايا، بينما عانى آخرون نفس المصير لأنهم كانوا شهودًا محتملين على أعمال وحشية ارتكبت. بعضهم مُنع حتى من اتخاذ أي إجراء، وذلك باستغلال وإثارة الشباب الذين اعتبروا أي شخص في مجموعتهم العرقية خائنًا إذا لم يشارك في الأعمال البربرية التي سموها جهادًا مقدسًا (إيسيكيزا). بعض الحكماء المكرسين رضخوا للإغراءات وشاركوا في الأعمال الوحشية التي ارتكبت من حولهم، في حين فشل آخرون في معالجة الوضع المريع بسبب الخوف أو بسبب عدم توافر الموارد.

بشكل عام، فإن شهود العيان والتقارير الإعلامية تعترف أنه في الأماكن التي كان لا يزال الباشينغانتاهي ناشطين، تم إنقاذ حياة الناس بالفعل. تمكن هؤلاء الأشخاص النزيهون من وقف ارتكاب الأعمال الوحشية قبل حدوث أضرار لا يمكن إصلاحها، ونجحوا في استعادة الهدوء والتعايش السلمي في بيئاتهم الاجتماعية المعنية.

3. 2. إعادة تأهيل المؤسسة

انطلقت إعادة إحياء مؤسسة الباشينغانتاهي في أعقاب سياسة المصالحة الوطنية التي سعت لإيجاد إطار للحوار والتشاور بين الفصائل المختلفة للشعب البوروندي فيما يتعلق بالتحديات الأساسية التي تواجه البلاد. كانت الهيئة التي كلفت بدراسة مسألة الوحدة الوطنية قد أوصت بأن يتم تكييف المؤسسة مع السياق الراهن: ›لا ينبغي تحويلها إلى أسطورة، بل أن تتم إعادة إحيائها وإعطائها الشرف الذي تستحقه، مع الأخذ بعين الاعتبار الوضع الجديد في المجتمع البوروندي. بدأت عملية إعادة التأهيل، التي كانت مهمة بشكل خاص بالنسبة للباشينغانتاهي الذين كانوا قد رسموا بالطريقة التقليدية، في الوقت الذي جرت فيه المناظرة حول ميثاق الوحدة الوطنية (1991 – 1992) والتحول الديمقراطي في المؤسسات البوروندية.

منذ عام 1996 وما بعد، تمتعت الباشينغانتاهي بدعم حقيقي من الحكومة وكذلك من المجتمع المدني البوروندي والمجتمع الدولي. نظر المجتمع الدولي إلى الباشينغانتاهي على أنها تقدم مخرجًا من الأزمة، وبنى على قدرة أعضاء المؤسسة على حشد وتعبئة مواطنيهم حول مُثل السلام والانسجام والدور الإيجابي الذي يمكن أن يلعبوه في حياة المجتمع.

في مشروع “دعم تعزيز الحكم الرشيد”، الذي نفذ بين عامي 1999 و2001، دعم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنشطة تهدف إلى تحديد أفراد الباشينغانتاهي الذين كانوا قد رُسّموا بالطريقة التقليدية في سائر أنحاء البلاد. على وجه الإجمال، تم التعرف على 34.000 أسرة من الباشينغانتاهي الذين رُسّموا بشكل تقليدي وكانوا نشطين في المقاطعات السبع عشرة في بوروندي. ساعدت هذه العملية في تحقيق فهم أفضل للوضع الحقيقي لهؤلاء الباشينغانتاهي، إضافة إلى معرفة عددهم (الذي قد يكون حوالي 64,000 إذا أخذنا في الاعتبار أن معظم الأسر تتكون من رجل وامرأة: النساء يتم ترسيمهن عادة مع أزواجهن).

في عام 2002، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مرحلة ثانية من تنفيذ مشروع “دعم إعادة تأهيل” مؤسسة الباشينغانتاهي. وقد حقق ذلك نتائج مختلفة، بما في ذلك دعم إعادة التأهيل الذاتي للمؤسسة من أدنى مستوياتها (مجلس المستعمرة) إلى القمة (المجلس الوطني) ومن خلال الهيكليات المحلية والإقليمية، مع إجراء انتخابات ديمقراطية في كل مرة على مستويات مختلفة. ساعد هذا المشروع ليس فقط على تسهيل التواصل بين الباشينغانتاهي بل أيضًا على تصحيح بعض الأخطاء التشغيلية التي كانت قد تعززت خلال سنوات من العمل المنعزل، وفي بعض الأحيان الأفعال التي فرضتها الحكومة بما يتناقض مع الفلسفات التقليدية للمؤسسة.

تم توثيق الهيئات المختلفة للمؤسسة وصلاحيات كل منها وواجباتها كتابةً في ميثاق الباشينغانتاهي، الذي تم تبنيه في نيسان/أبريل 2002 في مؤتمر استثنائي جمع خمسة ممثلين منتخبين من الباشينغانتاهي المرسمين في كل مقاطعة.

أخذت المؤسسة بُعد النوع الاجتماعي بعين الاعتبار وذلك بضم 33 بالمئة من النساء في لجانها الإدارية. شكل وجود النساء في المستويات الإدارية قيمة مؤكدة ساعدت في انطلاق تفكير جدي بشروط ترسيم النساء بحد ذاتهن، وهو أمر لم تكن التقاليد البوروندية حتى ذلك الحين تسمح به.

منذ عام 2002، استعادت المؤسسة تدريجيًا حيويتها السابقة. يحدث الترسيم في ضوء النهار، في البيئات الريفية والحضرية على حد سواء. وطبقًا للأرقام المتوافرة، فإن في بوروندي اليوم حوالي 100.000 باشينغانتاهي (من الرجال والنساء) الذين تم ترسيمهم بالطريقة التقليدية. يلاحظ التقرير التقييمي لمشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخطوات التي اتخذت لإعادة تأهيل المؤسسة، ويوصي بأن تتركز الجهود على الأنشطة التي تهدف إلى تعزيز قدرة الباشينغانتاهي على مستوى القواعد من خلال التدريب في مختلف المجالات، مثل الوظيفة القضائية، القانون العام، قانون الممتلكات، قانون الأسرة، وتقنيات منع وتسوية الصراعات، ومحو الأمية. إلا أن تنفيذ هذه التوصيات ينبغي أن يأخذ بالاعتبار فلسفات وأخلاقيات مؤسسة الباشينغانتاهي وإشراك أعضائها، الذين يتمتع بعضهم بمستوى جيد من التعليم في مختلف المجالات، والذين ينبغي أن يكونوا هم أنفسهم مسؤولين عن تنفيذ برامج إعادة التأهيل.

إضافة إلى ذلك، هناك قضية تعزيز القدرات التقنية للباشينغانتاهي كي يتعلموا على نحو أفضل تطبيق مبادئ المساواة بين الجنسين وإدارة القضايا المتعلقة بالميراث وقوانين الزواج، إضافة إلى دعم الاكتفاء الذاتي من الغذاء والرفاه المادي للأشخاص، وهي معايير مهمة كي يتم ترسيم الشخص على أنه أوموشينغانتاهي.

اليوم، تتمتع المؤسسة بمزايا تعزز شرعيتها على المستويين السياسي والمؤسساتي. تعترف اتفاقية أروشا بأن الباشينغانتاهي تشكل عاملًا موحدًا على الهضاب وأن المؤسسة جزء من النظام القضائي.

بوصفها قضاءً عرفيًا، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي تمتعت دائمًا بمكانة في المجتمع البوروندي، الذي يمنحها سلطة معينة. وتتمتع ببعض نقاط القوة لكنها أيضًا تعاني من بعض نقاط الضعف، التي ينبغي تصحيحها إذا أريد لها أن تلعب دورها في ترسيخ سيادة القانون في بوروندي.

4. نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات

نحلل الآن نقاط قوة وضعف مؤسسة الباشينغانتاهي من أجل توضيح الدور الذي يمكن أن تلعبه في ترسيخ سيادة القانون في بوروندي، في وقت بات من الجوهري تحديد الوسائل والطرق لمساعدة البورونديين على وقف الحلقة الجهنمية من العنف ووضع الآليات المناسبة للعدالة.

كما أن هذا يعطينا فرصة لمراجعة نقاط الضعف والتحديات الكامنة في الأساس الأخلاقي ومدونة السلوك الخاصة بالباشينغانتاهي أنفسهم، حيث إن هذه قد تكون عقبة أمام التنفيذ الفعال لمهمة المؤسسة.

4. 1. نقاط القوة

تكمن نقاط قوة هذه المؤسسة العلمانية، التي لعبت تقليديًا دورًا رئيسيًا في تنظيم المجتمع البوروندي، في

طريقة تنظيمها، ومهمتها والمبادئ التي توجه أفعالها.

4. 1. 1. أحد عوامل التماسك الاجتماعي

من الناحية الاجتماعية، كانت المؤسسة عاملًا في تحقيق التلاحم الاجتماعي، والنظام وتسوية الصراعات والمصالحة بين الأفراد والعائلات. طورت مدونة كاملة للسلوك ضَمِنت الانسجام الاجتماعي والاستقرار، “أمن دون شرطة ودون جيش ودون سجون” (طبقًا لانتاهوكاجا)، فإن الباشينغانتاهي ممثلون رسميون للشعب ومتحدثون باسم مجتمعاتهم. إنهم مفاوضون يشاركون في حل المشاكل التي تنشأ بين الحكام والمحكومين.

على المستوى الأخلاقي والثقافي، كان الباشينغانتاهي أوصياء على العادات والممارسات وكانوا نماذج في بيئاتهم في تشجيع فضائل الاحترام المتبادل والكرامة والنزاهة والحقيقة. على المستوى السياسي، مثّل هؤلاء الدعامة الرئيسية للنظام السياسي البوروندي بواسطة شبكة من المستشارين تمتد من الهضاب إلى البلاط الملكي. وقد شكلوا ضوابط على ممارسة السلطة. اعترافًا بقيمهم ونزاهتهم الأخلاقية، كان الملك والزعماء المحليون مجبرين على أخذ آراء هؤلاء الرجال الحكماء بعين الاعتبار.

لا تزال هذه المزايا التي شكلت نقاط قوة للمؤسسة في مجتمع تقليدي ذات صلة اليوم، أو على الأقل فإنها تمثل أهدافًا يمكن تحقيقها من خلال إعادة تأهيل المؤسسة. حاليًا، تسعى المؤسسة إلى التموضع كهيئة مرجعية لممارسة نفوذ إيجابي على المجتمع، و›إعادة تلميع شعارها‹ وذلك بدعوة أعضائها للعودة إلى القيم المشار إليها أعلاه. لدى هذه المؤسسة القدرة على فعل ذلك والموارد اللازمة التي تمكنها من إنجاز مهمتها.

4. 1. 2. بُعدها الوطني

للمؤسسة بعد وطني، حيث ينشط أعضاؤها في جميع المقاطعات حتى مستوى الهضبة (القرية)، ولا تقتصر عضويتها على مجموعة عرقية أو قبيلة معينة. ونتيجة لذلك، يمكنها ممارسة السلطة والنفوذ الأخلاقيين في المجتمع، وأن تشارك في البناء الأخلاقي للحياة العامة وفي تحقيق الانسجام داخل المجتمع. سيمكنها هذا من المشاركة بفعالية في عمل الهيئة الوطنية للحقيقة والمصالحة، وفي تعزيز سيادة القانون.

4. 1. 3. مؤسسة ديمقراطية

كما أن المؤسسة ديمقراطية من منظور طرائق وصول المرشحين إلى المراتب المختلفة في الباشينغانتاهي. تنص الإجراءات على التشاور مع الناس، وليس على التعيين من قبل السلطات. ولقد كانت عملية ترسيم أعضاء المؤسسة دائمًا مسألة عامة. يمكن لاعتراض أي مواطن، بصرف النظر عن سنه أو مرتبته، أن يسهم في إلغاء منح مكانة الباشينغانتاهي.

كما أنها مؤسسة على قيم عالمية، خصوصًا فيما يتعلق باهتمامها بالعدالة وتقديرها للحقيقة واحترامها

العميق للمصلحة العامة. انغوروانوبوسا. يستخدم مقاربة مقارنة فيصف الأوموشينغانتاهي على أنه “رجل شريف”، ويشكل مثالًا على وجود مؤسسات مماثلة في سائر أنحاء أفريقيا وفي باقي أنحاء العالم. ويشير إلى السيلاتيغي في غرب أفريقيا الصحراوية، والشامان بين هنود أميركا الجنوبية والإمفورا في رواندا وأمكنة أخرى.

4. 1. 4. عدالة قريبة من الناس

كما أن قوتها تكمن في قدرتها على توفير عدالة قريبة في جميع مهامها، أي الوساطة والمصالحة والتحكيم. لقد كان المواطنون دائمًا بحاجة إلى خدمة دائمة للوساطة والمصالحة والتحكيم. لكي تتم تسوية نزاع وإنهائه عن طريق التوصل إلى حل مستدام، لا ينبغي بالضرورة أن يحال النزاع إلى الشرطة، أو إلى المحاكم العامة أو الخاصة. هذه الأشكال الرسمية والقمعية بشكل أساسي من العدالة لا تميل دائمًا إلى مصالحة أطراف الصراع. وهذه الوظيفة مهمة على نحو خاص في السياقات الريفية، حيث يقوم أعضاء

الباشينغانتاهي بالتحكيم في صراعات من مختلف الأنواع مدفوعين بروح المصالحة والسلام.

خلال العملية الجارية حاليًا لإعادة توطين اللاجئين والمهجرين داخليًا، يتم اللجوء إلى مؤسسة الباشينغانتاهي على نطاق واسع من أجل تسوية النزاعات العائلية والنزاعات على الممتلكات والناجمة عن استيلاء الأشخاص على الممتلكات، وفي بعض الحالات استيلاء الدولة نفسها على هذه الممتلكات. في حقبة ما بعد الصراع، تظهر مسائل العدالة والمصالحة والصفح على السطح بشكل منتظم، إلاّ أن النظام القضائي والإداري لا يكون قادرًا أحيانًا على تحقيق العدالة، وتقديم التعويض عن الممتلكات المسروقة أو التعويض على الضحايا. ولهذا، من المهم إيجاد آليات تكمل المقاربة القضائية في تحقيق العدالة، واستعادة حقوق الضحايا وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية. مِن هنا، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي، ومن خلال مهامها في الوساطة والمصالحة والتحكيم، تلعب دورًا في تأسيس دولة القانون.

ولهذه الأسباب، والأهم من كل ذلك، في ضوء حقيقة أن من الصعب على النظام القضائي الرسمي توفير استجابات مناسبة للعديد من القضايا التي تطرحها الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من المهم تدخل العدالة الانتقالية بطريقة مكملة. وفي هذا السياق، ينبغي أن ترتبط الباشينغانتاهي بأي آلية وطنية للعدالة الانتقالية تؤسس لتسهيل استعادة السلام والانسجام في الحياة الاجتماعية في بوروندي، بل ينبغي أيضًا أن تلعب دورًا محوريًا فيها.

فيما يتعلق بوظيفتها القضائية، ليس من السهل إعطاء تقييم كمي لمدى التحسن الذي طرأ على فعالية الباشينغانتاهي. إلاّ أن المعلومات التي تم الحصول عليها من المحاكم الرسمية تشير إلى أنه في 70 بالمئة من الحالات التي استشيرت فيها الباشينغانتاهي، تم الأخذ بآرائها من قبل تلك المحاكم.

الأشخاص الذين شملتهم الدراسة التي أجرتها شبكة العدالة والديمقراطية للمواطني، كان رأيهم أنه ينبغي تشجيع نظام الباشينغانتاهي، حيث إن الباشينغانتاهي قريبون من أولئك الذين ستتم محاكمتهم. علاوة على ذلك، فإنهم يعرفون الأسباب الحقيقية للصراع الذي يطلب منهم تسويته، سواء بشكل عام أو من حيث أدق تفاصيله، وبالتالي يسهل عليهم اكتشاف الحقيقة. في غياب هذه ›العدالة الطوعية‹، فإن المحاكم الرسمية ستختنق بالتقاضي، وبالتالي ستُمنع من أداء وظائفها العادية. في العديد من الحالات، تتم تسوية القضايا بشكل كامل من قبل الباشينغانتاهي دون الحاجة لإحالتها إلى المحاكم الرسمية.

كما أن بوسع الباشينغانتاهي أن تقدم مساعدة كبيرة للمحاكم الخاصة فيما يتعلق بالمهمة الحساسة المتمثلة

بتنفيذ القرارات القضائية، خصوصًا فيما يتعلق بالتقاضي حول امتلاك الأراضي. في الحالات المتعلقة بتحديد الممتلكات، فإن المحاكم القانونية تلجأ إلى الباشينغانتاهي، الذين يمثلون شهودًا ذوي مصداقية وسلطات ذات شرعية في حالات عدم الالتزام.

الأكثر أهمية من ذلك، هو أنها موجودة لضمان احترام القرارات المتخذة وضمان صلاحيتها بالنسبة للأجيال المتعاقبة.

4. 2. نقاط الضعف

4. 2. 1. ضعف الأحكام

في بعض الحالات، كانت الأحكام الصادرة عن الباشينغانتاهي لا تتوافق مع القانون، أو كانت تصدر دون أخذ القانون بعين الاعتبار بسبب الجهل بالقانون. وهكذا، فإن الحقوق المشروعة لأحد الأشخاص، من حيث القانون المكتوب، يمكن أحيانًا أن تنتهك. ويؤكد بعض القضاة، أنه من الصعب أحيانًا الاعتماد على الترتيبات المقترحة من قبل الباشينغانتاهي. فهم لا ينتمون رسميًا إلى “عالم القضاء” ويوجههم بشكل عام الحس السليم والإنصاف فيما يتعلق بالعادات، دون اللجوء إلى القانون المكتوب. يفضل بعض القضاة التعامل معهم، إن لم يكن كشهود عيان، فعلى الأقل كشهود قادرين على تقديم إفادات ذات مصداقية.

إلا أنه لا يبدو أن هذه النواقص تفوق مزايا ونقاط قوة المؤسسة. على سبيل المثال، فإن حقيقة أن قرارات الباشينغانتاهي تتخذ دون الإشارة المباشرة إلى القانون ليست سيئة بالضرورة. في بعض الحالات يمكن أن تكون ميزة؛ بمعنى أن السلم الاجتماعي يمكن تحقيقه بسهولة أكبر من خلال حل منصف يتم التوصل إليه دون الالتزام الصارم بالأعراف القانونية الرسمية النافذة.

في ضوء نقطة الضعف هذه، سيكون من المفيد إجراء دراسة أكثر تفصيلًا لمختلف مجالات القانون المدني والجنائي التي يتم اللجوء للباشينغانتاهي للتدخل بشأنها، حيث من المفهوم أن هذه الإجراءات تشكل مقدمة تسبق جلسات الاستماع في المحاكم بموجب الولاية القضائية للدولة. ينبغي أن يرتبط هذا التحليل بالنصوص القانونية النافذة حاليًا، وبالتقاضي الذي تمت إحالته إلى المحاكم الرسمية والولاية القضائية ذات الصلة لمحاكم البداية. ستدعم نتيجة هذا العمل، التفكير حول اتجاه الإصلاحات القضائية الهادفة إلى إعطاء العدالة الطوعية الأدوات التي تحتاجها لتحسين وظيفتها، وإزالة نقاط الغموض حول علاقتها المكمّلة التي لا غنى عنها مع العدالة الرسمية.

4. 2. 2. الوضع الغامض للنساء

من بين الانتقادات الموجهة للمؤسسة إقصاؤها للنساء، الذي رسخته التقاليد بشكل يتعارض مع المبادئ الحديثة للمساواة بين الرجال والنساء والعدالة والإنصاف بينهما. في الواقع، فإن التقاليد لا تقبل بترسيم النساء بحد ذاتهن ولم تضع إجراءات لترسيم النساء كأعضاء في الباشينغانتاهي أو لتهيئتهن لهذه الوظيفة. لكن ينبغي أن تفهم مكانة المرأة في علاقتها بالثقافة والقيم المقبولة اجتماعيًا (تعليم الأطفال، التحضير لحياة البلوغ، التقاليد الأبوية، حقوق ومسؤوليات الرجال والنساء، تقسيم العمل، نظام المحظورات، الأقوال المأثورة والأمثال، الطقوس الدينية، وطقوس المآتم وما إلى ذلك)، إضافة إلى الانسجام الطبيعي المتصور لمؤسسات البلاد. تشكل مؤسسة الباشينغانتاهي صلة وصل في سلسلة المؤسسات التقليدية. وهكذا سيكون من الخطأ الادعاء، على سبيل المثال، أن الممارسات الاجتماعية التي تدعم إقصاء النساء اخترعت من قبل مؤسسة الباشينغانتاهي أو تلقت الحماية منها أو قامت هذه المؤسسة بنقلها. إن عنصر الهيمنة الذكورية الموجود في المؤسسة ينبع من النظام الثقافي الموصوف أعلاه، والذي تقبل به النساء التقليديات ضد إرادتهن. لكن من وجهة نظرنا، فإن المكانة المتدنية حاليًا للمرأة البوروندية مقارنة بنظرائها الرجال يمكن تحسينها في سياق الجهود المبذولة لإعادة تأهيل مؤسسة الباشينغانتاهي.

ينص ميثاق الباشينغانتاهي الذي تم تبنيه عام 2002 على أن يتم ترسيم النساء مع أزواجهن (المادة 3). إنهن يحلفن اليمين لكنهن لا يتلقين عصا الحكمة (المادة 29). في يوم الترسيم، يعترف بالنساء على أنهن أشخاص يتمتعن بالنزاهة وعلى نفس الأساس كأزواجهن. يعطى رمز انتاهي لرب الأسرة، ليحتفظ به تحت سقف الزوجية ولتذكيرهما بالتزاماتهما المشتركة، وهي الالتزامات التي تشير إلى مسؤوليتهما أمام المجتمع أكثر مما تشير إلى المكانة الاجتماعية لهما كأفراد. من هذه اللحظة فصاعدًا، يتوقع من الزوجين أن يكونا نموذجين اجتماعيين، وأن يتلقيا الشكاوى المتعلقة بنزاعات الحي، وأن يتدخلا عندما تدعو الحاجة للمحافظة على النظام الاجتماعي. يتوقع منهما أن يتصرفا بالتضامن مع دائرة الأشخاص المرسّمين وبشكل شفاف وبزمالة مطلقة. وهكذا، ليس للمرأة مكان في مؤسسة الباشينغانتاهي إلا بحكم كونها زوجة. إلا أنه يمكن للأرملة أن تسمى بصفتها الشخصية إذا حققت الشروط المطلوبة.

خلال عملية إعادة تأهيل المؤسسة، انتخبت بعض النساء إلى المجلس الوطني للباشينغانتاهي. في عام 2005، بلغ تمثيل النساء في المجلس 35.48 بالمئة.

في البداية، شعر هؤلاء النسوة بالارتباك عند جلوسهن مع الباشينغانتاهي على الهضاب وفي الضواحي للمشاركة في المداولات. هناك فرصة موجودة للتعبير الحر عن الآراء، ويمكن لوضع النساء أن يتغير نتيجة ديناميكيتهن ومشاركتهن الفعالة. إلا أنه ومن أجل زيادة تمثيلهن إلى 50 بالمئة، انسجامًا مع تعقيد تحديات المجتمع الحديث وثبوت كفاءة النساء في مجال تغيير شكل الصراعات، ينبغي أولًا التغلب على المناخ الاجتماعي المحافظ.

4. 3. الفرص

4. 3. 1. عملية إعادة التأهيل الذاتي المؤسسة

من المهم أن تتمكن المؤسسة من التكيف مع السياق الحديث من أجل المشاركة بشكل كامل في عملية المصالحة وتعزيز السلام، وفي الوقت نفسه الأخذ بالحسبان خصوصيات السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني للبلاد.

من بين الإشكاليات الرئيسية التي تتطلب تفكيرًا جادًا هناك، هي الطرق التي يمكن من خلالها إعادة تأهيل مؤسسة الباشينغانتاهي في البيئات الحضرية، اختيار الباشينغانتاهي، طريقة ترسيمهم، التعريف الدقيق لصلاحياتهم، وتعاونهم مع الهيكليات الأخرى للمصالحة (على سبيل المثال مجالس الشركات في أماكن العمل)؛ والأهم من ذلك كيفية قيام المؤسسة بلعب دور في حقبة ما بعد الصراع الراهنة، عندما يكون الاهتمام الأول هو وضع آلية للعدالة الانتقالية تشجع السلام والاستقرار في بوروندي.

نظرًا لرغبته الشديدة بالاستجابة لهذا الشرط، شرع المجلس الوطني للباشينغانتاهي في عملية إعادة تأهيل تهدف إلى تكييف المؤسسة مع السياق الحديث. تبدأ عملية إعادة التأهيل هذه ببناء قدرات أفراد المؤسسة بحيث يتمكنون من الاستجابة بشكل مناسب للاحتياجات المختلفة لبيئاتهم، وتمكينهم من معالجة التحديات الراهنة، في سياق يشكل فيه الصفح ومعالجة الجراح والتعويض والمصالحة شروطًا مسبقة لإعادة بناء البلاد.

لقد حكم المجتمع البوروندي على أنشطة المؤسسة بصورة إيجابية. طبقًا لاستطلاع للآراء، فإن 73 بالمئة من أولئك الذين شملهم الاستطلاع أعطوا تقييمًا إيجابيًا للعمل الذي تم القيام به داخل مؤسسة الباشينغانتاهي. كشفت دراسة أجرتها “كير”، أنه من بين الهيكليات المحلية المسؤولة عن تسوية النزاعات (أرباب الأسر، زعماء الهضاب، وزعماء المناطق والمديرون)، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي تمثل واحدة من أكثر المؤسسات تلقيًا للطلبات، رغم عدد من حالات الفشل. الأبحاث الأخرى التي أجريت، وخصوصًا من قبل مجموعة الأزمات الدولية والمركز الأفريقي لدراسات التكنولوجيا، تشير إلى أنه، وبصرف النظر عن حاجتها إلى بعض التصحيحات لمقاربتها التشغيلية العامة، خصوصًا فيما يتعلق بالمشاركة المحلية في عملية إعادة التأهيل، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي تعتبر قادرة على نزع فتيل “قنبلة الممتلكات” التي يمكن أن تنفجر في أعقاب عمليات إعادة توطين اللاجئين الجارية على نطاق واسع

4. 3. 2. عضوية قوية للمثقفين

اعتبرت مؤسسة الباشينغانتاهي منذ وقت طويل على أنها ترتبط بشكل أساسي بالسكان الريفيين، وأنها تهدف إلى العمل في بيئة ريفية. كان هناك حالات نادرة لمثقفين تم ترسيمهم من قبل الباشينغانتاهي في قراهم، لكن في عام 2002 فقط بدأ المثقفون الحضريون بالاهتمام بهذه المؤسسة. في عام 2002، تم ترسيم حوالي 50 شخصًا من هؤلاء، وحظيت مراسم ترسيمهم بتغطية واسعة؛ ومنذ ذلك الحين باتت طقوس الترسيم تجري في المناطق الحضرية بشكل لا يقل تواترًا عن الترسيم في المناطق الريفية. من جهة، فإن طقوس الترسيم ولّدت قدرًا كبيرًا من الاهتمام لدى البورونديين، خصوصًا بين الشباب، الذين لم يكن الكثيرون منهم قد سمعوا بتلك المؤسسة من قبل. ومن جهة أخرى، ولّد هذا التطور انتقادات حادة، خصوصًا من اللاعبين السياسيين. أدت الانتقادات التي وجهت للمؤسسة إلى جهود بذلت لتنظيف طقوس الترسيم. اليوم، بات العديد من مجالس الباشينغانتاهي يضم مثقفين تم ترسيمهم طبقًا لمتطلبات التقاليد وباتوا ملتزمين بقوة بالمؤسسة. إن عضوية المثقفين في المؤسسة من شأنها أن تعزز شعبيتها وشرعيتها، وبذلك تمكنها من المشاركة بشكل كامل في عودة السلام والاستقرار إلى بوروندي.

4. 4. التهديدات

رغم أن الباشينغانتاهي تعمل حاليًا ضمن إطار المجتمع المدني، فإنها تواجه العديد من التحديات، مثل النزعة المحافظة لدى بعض أفراد المؤسسة، مشكلة القيادة في سياق سياسي غير مواتٍ، التشكيك في شرعية المؤسسة، والمشاكل الاجتماعية – الاقتصادية، وهذه بعض التحديات فقط.

4. 4. 1. نزعة محافظة بلا جدوى

مؤسسة الباشينغانتاهي راسخة بقوة في البيئات الريفية، حيث التقاليد في صراع مستمر مع الحداثة. وتشمل الأمثلة بُعد النوع الاجتماعي، إدارة الصراعات، إشراك الباتوا كأعضاء، وانفتاح المؤسسة على التجارب الأفريقية والدولية الأخرى. هناك العديد من الأوجه الهامة التي ينبغي النظر فيها، إلاّ أن ذلك يواجه بعض المقاومة من المحافظين المصممين على المحافظة على التقاليد، ويجدون صعوبة في التساهل مع أي شكل من أشكال التجديد. لكن اليوم، فإن ترسيم النساء وإشراك الباتوا سيحدث بطريقة تدريجية وبطيئة في بعض مناطق البلاد. وهذا يثير في كثير من الأحيان ردود فعل غير متوقعة من بعض أفراد الباشينغانتاهي، الذين يرفضون التغييرات ويعبرون عن استعدادهم لمعارضة جميع المبادرات أو القرارات المتخذة بهذا الصدد. إن مكانة المؤسسة في العالم الحديث ستعتمد على الوتيرة التي يعتنق فيها أفراد الباشينغانتاهي أنفسهم مبادئ الحكم الرشيد في عملية إعادة الهيكلة.

4. 4. 2. العلاقة بين الباشينغانتاهي والمسؤولين المنتخبين محليًا

ثمة مشكلة في ترسيم الحدود بين سلطة وتفويض الأشخاص المنتخبين محليًا وسلطات الباشينغانتاهي. من جهة، فإن مؤسسة الباشينغانتاهي تستمد شرعيتها من التقاليد ومن القانون المعاصر، الذي أعطاها مكانة داخل الجهاز القضائي (القرار رقم 1/ 004 تاريخ 14 كانون الثاني/يناير 1987، المتعلق بتنظيم السلطات القضائية)؛ ومن جهة أخرى، يستمد المسؤولون المنتخبون محليًا شرعيتهم من صندوق الاقتراع. وبالتالي فإن كلا التصنيفين المسؤولين المنتخبين محليًا والباشينغانتاهي، يمارسون قيادة شرعية ويتمتعون

بتفويض.

رغم أن قانون الإدارة المحلية الجديد، المادة 37 ، الفقرة 2، ينص على التعاون بين مجلس الهضبة والباشينغانتاهي (دون تفصيل أشكال هذا التعاون)، فإن الناس لا يزالون يعتبرون العدالة الطوعية التي تمارسها الباشينغانتاهي بوصفها درجة من اللجوء إلى محكمة البداية، قبل المضي إلى المحاكم الرسمية. علاوة على ذلك، فإن الدستور الذي صدر في آذار/مارس 2005 يطلب من كل البورونديين احترام وتشجيع القيم الثقافية (المادة 68)، ويعطي الهيئة الوطنية للوحدة والمصالحة مسؤولية اقتراح القوانين ووسائل إعادة تأهيل هيكلية المؤسسة وجعلها أداة للتلاحم الاجتماعي (المادة 269). لقد تأثرت مؤسسة الباشينغانتاهي بالتغييرات السياسية والبنيوية العنيفة التي أثرت بدورها في عملياتها أحيانًا وأسهمت في بعض الأحيان في إضعافها. يمكن اعتبار نشوء النظام المتعدد الأحزاب، على وجه الخصوص، عاصفة ضربت المؤسسة ووضعتها في موقف سياسي إشكالي. في بعض الأماكن، سرعان ما بدأوا بالحط من مكانة باشينغانتاهي الهضاب، الذين سموهم “الأوبرونيين” (في إشارة إلى حزب أوبرونا الذي حكم البلاد لعقود من الزمن)، وعلى أنهم رجال مهزومون وفقدوا صلاحيتهم وباتوا غير مناسبين وقديمين. ضاعت الباشينغانتاهي بشكل كامل في هذا الوضع؛ حيث إنهم كانوا غير منظمين نهائيًا وأضعفهم افتقادهم لمنصة تواصل يستطيعون التواصل والتعبير عن أنفسهم من خلالها. أزمة 1993 أتت فجأة، وفي وقت لم يكن لدى الباشينغانتاهي، التي أضعفتها تقلبات الحقبة الاستعمارية وما صاحبها، الأدوات أو القوة لمواجهة التغييرات الطارئة.

مع الحملة الدعائية لانتخابات عام 2005، يمكن رؤية ظاهرة مشابهة في سائر أنحاء البلاد. نشأ صراع مفتوح على القيادة بين الباشينغانتاهي والمسؤولين المنتخبين محليًا. رفض المسؤولون التعاون مع الباشينغانتاهي في بعض المناطق وأنكروا عليهم أية شرعية. بشكل أكثر تحديدًا، كان المسؤولون المنتخبون يهدفون إلى أن يحلوا محل الباشينغانتاهي المرسمين في جميع المناطق في جميع مسؤولياتهم التقليدية، على أساس حقيقة أنهم هم وحدهم يتمتعون بشرعية تفويض الشعب. لكن الباشينغانتاهي كانوا يعتبرون موقعهم شرعيًا في مهمتهم لتحقيق المصالحة والتحكيم وكأوصياء على الممارسات العرفية.

بعد المبادرات المختلفة التي اتخذتها وزارة الداخلية والأمن العام، بدأت السجالات المتبادلة بالخفوت. ثمة مثال جدير بالذكر يتمثل في المنصة التعاونية للمجموعتين اللتين تأسستا بعد ورشة عمل حوارية نظمتها الوزارة بدعم من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والمؤسسة الدولية للنظم الانتخابية في آذار/مارس 2006.

الحكومة تعي الحاجة لتعريف مكانة مؤسسة الباشينغانتاهي بشكل سليم ضمن التنظيم الإجمالي للبلاد. في الكتاب رقم 2006/115/CAB/100 ، طلب رئيس دولة من وزارة الداخلية والأمن العام متابعة العلاقات بين مسؤولي الإدارة المحلية والباشينغانتاهي على نحو وثيق. ونتيجة للإرادة السياسية الجديرة بالثناء التي تم إبداؤها والمبادرات السياسية التي تم تنفيذها منذ آذار/مارس 2006 ، فقد تمت استعادة التعاون تدريجيًا بين أعضاء مجالس الهضاب والباشينغانتاهي في أغلبية مجالات السلطة المحلية. رغم ذلك، لا يزال هناك حاجة لأن تقوم الحكومة بتوضيح أنماط وأشكال التعاون بين الإدارة ومؤسسة الباشينغانتاهي عن طريق إصدار قانون أساسي.

الصراع الذي يمكن تفسير دوافعه جزئيًا، وإن لم يكن كليًا، على أنها المصالح المادية الفعلية أو المفترضة أو الدوافع السياسية للأفراد، لا ينبغي أن يكون قد ظهر في المقام الأول. في الواقع، ومنذ حقبة الملكية، وجدت مؤسسة الباشينغانتاهي دائمًا جنبًا إلى جنب مع الإدارة، وعملت كوسيط بين القادة والمواطنين وحاولت في الوقت نفسه ضمان مصالح المواطنين.

4. 4. 3. أثر الفقر

يشكل الفقر مصدر ضعف ويؤدي أحيانًا إلى أنماط سلوك تتناقض مع قيم الباشينغانتاهي، مثل التسول والضعف عند مواجهة محاولات الإفساد. الباشينغانتاهي، مثلهم مثل 81 بالمئة من سكان بوروندي، يعيشون تحت خط الفقر.

تقليديًا، كان مستوى معين من الرفاه المترادف مع الاستقلال والاستقرار اللذين توفرهما الثروة التي يتم الحصول عليها بشكل نزيه، وخصوصًا من خلال العمل في مهنة، شرطًا من شروط قبول الشخص كمرشح للترسيم. لم يكن ذلك يعني أن الاعتبارات المالية شكلت معيارًا للترسيم كأوموشينغانتاهي، لكن كان ينبغي العثور على رجال يكونون قادرين على العمل باستقلال تام ودون السعي للحصول على أي مقابل مادي. بعبارة أخرى، كان المطلوب أن يكون الأعضاء رجالًا نزيهين وقادرين على توفير احتياجاتهم بأنفسهم. كانت الخدمة التطوعية قيمة جوهرية يع عنها في القسم الذي يؤديه المرشحون يوم الترسيم.

رغم ذلك، فإن بعض أعضاء المؤسسة رأوا (وبشكل خاطئ) في الوصول إلى هذه الوظيفة انطلاقة إلى حياة أفضل، وبشكل يتناقض مع أخلاقيات المؤسسة، وكانوا يتطلعون إلى مزايا مادية متخيلة للترسيم.

لقد تضاءلت الطبيعة التطوعية للخدمة، وهي الناحية الأكبر قيمة فيها، مع انتشار النظرة المادية والانتشار المتزايد للفقر في جميع مستويات المجتمع. هل سيستمر احترام روح الخدمة التطوعية في أوساط الباشينغانتاهي في عالم بات يعطي قيمة متزايدة للمال؟ ينبغي الرد على هذا السؤال من أجل تجنب العيوب المحتملة في المؤسسة أو ترهلها. تجبرنا الواقعية على التفكير بحلول بديلة من شأنها أن تحافظ على روح العمل التطوعي الذي ميز دائمًا هذه المؤسسة، وفي الوقت نفسه تعديل وظائفها لتتناسب مع تحديات وضرورات الحداثة.

4. 4. 4. الشبح الدائم للتسييس

في المراكز الحضرية، في مقر الإدارة الحكومية في بوجومبورا والى درجة أقل في المناطق الريفية، يتهم بعض المواطنين الباشينغانتاهي حاليًا بأنه تم ترسيمهم دون إجراء التحضيرات المناسبة. كان هناك حديث أيضًا عن “تضخم مزعوم في عمليات الترسيم” في عام 2002 ، وهو العام الذي شهد عملية إعادة تأهيل غير مسبوقة في بوجومبورا، مع تغطية إعلامية واسعة وإبراز تلك المراسم للجمهور. البعض أدان ما رأوا فيه “مكانة باشينغانتاهي”، الذين لم يتم ترسيمهم بفضل خصائصهم الاستثنائية أو حتى لامتلاكهم الخصائص المطلوبة للوصول إلى هذه الوظيفة المتميزة. سواء عن حق أو عن غير حق، وُصف بعض الوجهاء الذين تم ترسيمهم بالانتهازيين لسعيهم للوصول إلى المنصب السياسي من خلال مؤسسة الباشينغانتاهي. تشير هذه الانتقادات إلى ضعف خطير، ليس فيما يتعلق بالمؤسسة بحد ذاتها بل فيما يتعلق بمعايير الترسيم. يدعى الباشينغانتاهي لخدمة مواطنيهم في مؤسسة لا يجوز أن تتلطخ بوجود إجراءات غير نظامية. لا ينبغي لأعضاء المجلس الوطني للباشينغانتاهي أن يتجاهلوا هذه الانتقادات، بل ينبغي أن يحللوها بهدف تحسين موقع المؤسسة في المجتمع المعاصر. وهكذا فقد تم اتخاذ اجراءات، بشكل خاص تمديد فترة مراقبة المرشحين للترسيم. وقد حددت هذه الفترة بسنة واحدة على الأقل من أجل إعطاء الوقت لأفراد المجتمع المحلي للتعبير عن وجهات نظرهم فيما يتعلق بخصائص المرشح، وتجنب تطورات من شأنها أن تلطخ صورة هذه المؤسسة النبيلة والمتميزة.

5. الاستنتاجات والتوصيات

تشكل مؤسسة الباشينغانتاهي المحترمة اختبارًا للقيم الوطنية. لمدة طويلة، وفرت هذه المؤسسة للمجتمع البوروندي أساسًا يمكن أن تتعزز عليه الروابط بين المجتمعات المحلية وتمنع من الانهيار. لقد كانت الباشينغانتاهي بمثابة الزيوت التي سهلت حركة عجلات المجتمع البوروندي التقليدي. في حقبة الملكية، تجاوزت الوظائف المخولة لهم المهام القضائية؛ حيث كانوا أوصياء على التقاليد، وشكلت تقاليدهم قوة لتحقيق التلاحم الاجتماعي والمحافظة على النظام ومارسوا دورًا ناظمًا في إطار النظام السياسي – الإداري.

يتسم تطور المؤسسة من الحقبة الاستعمارية إلى الجمهورية الثالثة بفترات مظلمة. مع تدخل موظفي الخدمة المدنية واستغلال المؤسسة وتسييسها وحظر الترسيم، نزعت الصبغة الطبيعية عنها وفقدت بعض جوهرها.

إلاّ أنها، ولحسن الحظ تغلبت على جميع أشكال المحن وظلت حية وحيوية حتى اليوم. لقد آن الأوان كي تتم إعادة تأهيلها لتسهم في استعادة الانسجام الاجتماعي وإعادة بناء البلاد. وهذا شرط من شروط بقائها. إنها لا تعني بالضرورة إعادة إحياء عادات الأسلاف ببساطة كي تظل مخلصة للتقاليد. المسألة تتعلق باستخلاص ما هو جوهري من التقاليد وإدماجه بالأبعاد الإيجابية للحداثة، من أجل استخلاص بنية عضوية من هذه العملية. المسألة تتعلق ببناء شيء جديد على ما هو قديم، وتكييف المؤسسة مع التحديات المعاصرة.

وقد بذلت جهود كبيرة من قبل الباشينغانتاهي أنفسهم، وبدعم من مجموعة من اللاعبين في المجتمع المدني والمجتمع الدولي. على وجه الخصوص، تمت إعادة هيكلة المؤسسة من القاعدة إلى القمة، مع تأسيس مجالس باشينغانتاهي على جميع المستويات.

وقد تم إطلاق مبادرات لتعزيز قدراتهم، وفي عدد من الحالات بمساعدة من الجهات المانحة العاملة في بوروندي والمقتنعة بالدور المهم الذي يمكن لهذه الهيئة أن تلعبه في فترة ما بعد الاستعمار هذه.

إن أهمية هذه الآلية التقليدية، التي فقدت أصلًا قيمتها في تسوية الصراعات الاجتماعية، سواء في المجتمع البوروندي التقليدي أو المجتمع المعاصر، لا تتطلب مزيدًا من الإيضاح. وفي هذا الصدد، على سبيل المثال، فإن النظام القضائي الرسمي يعترف بأن الباشينغانتاهي تتمتع بقدرات معينة في التحكيم والمصالحة على المستوى المحلي.

لا يزال السلام هشًا في الدول التي لا تزال تتعافى من فترات الصراع. كما هو الحال في جميع البلدان التي خرجت مؤخرًا من الصراع، فإن بوروندي بحاجة لتأسيس معايير تمكنها من السير في طريق استعادة الاستقرار، وهنا تشكل استعادة سيادة القانون شرطًا مسبقًا.

خلال الفترة الحالية، وهي فترة ما بعد الصراع، تواجه البلاد العديد من التحديات. وفي هذا السياق، من المهم على نحو خاص أن يحاول البورونديون معالجة الماضي الذي تميز بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ومنع هذا من التأثير سلبيًا بالمستقبل، وبالتالي استمرار دوامة العنف. كيف يمكن معالجة هذا الماضي دون التسبب بآلام غير ضرورية، وفي الحد الأدنى دون زعزعة استقرار مجتمع يتكون من ضحايا ومرتكبي انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان؟ الضحايا يدعون بتصميم، لكن ليس دون أمل بالنجاح، لتحقيق العدالة، لكن المرتكبين يريدون الهروب من العدالة بأي ثمن. كيف يمكن تحقيق المصالحة بين وجهتي النظر هاتين؟

حاليًا، تشكل الوسيلة المفضلة للسعي للتوصل إلى حل دائم للصراع في الوساطة الإقليمية والدولية، وقد لجأت بوروندي إلى مثل هذه المقاربة. إلاّ أننا مقتنعون بأنه من الأفضل معالجة الجرائم التي ارتكبت في بلد معين من قبل أولئك الأشخاص المطلعين على الأسباب الحقيقية للصراع والذين يعرفون حق المعرفة الأطراف الضالعين فيه، أو بعبارة أخرى، أولئك الذين عانوا مباشرة والذين أصدروا مناشدات في طلب المساعدة من القادة السياسيين الذين لا يتمكنون دائمًا من توفير الإجابات على التحديات المطروحة.

يمكن لعمليات الانتقال السياسي أن تبدو أحيانًا على أنها مشاع ترتكب فيه جميع الممارسات الشريرة خلف الكواليس، مع ارتكاب جرائم وانتشار ثقافة الإفلات من العقاب التي تزيد من عدد الضحايا. ولهذا السبب، ينبغي للجهود السياسية الكلية أن تكون مصحوبة دائمًا بمبادرات تعمل بشكل وثيق مع الناس، وعلى نطاق إنساني يساعد في التوصل إلى حل للصراع على مستوى القواعد.

في بوروندي، يمكن للعدالة الانتقالية أن تشكل عنصرًا مكملًا للهيكليات القضائية القائمة، التي إما انهارت أو باتت غير فعالة بسبب الصراع وبسبب التجارب المؤلمة لكثيرين. وكمؤسسة تقليدية لإدارة الصراع، يمكن للباشينغانتاهي أن تشكل ضمانًا لتحقيق الانسجام والمصالحة في المجتمعات المحلية.

بات الباشينغانتاهي يرون أنفسهم على نحو متزايد بوصفهم أوصياء على التماسك الاجتماعي. علاوة على ذلك، وكما لوحظ في إعلان علني لرئيس المجلس الوطني للباشينغانتاهي، تأمل المؤسسة أن البورونديين سيظلون واعين بالدور الذي يمكن للباشينغانتاهي، وهم الأشخاص المعترف بنزاهتهم، أن يلعبوه في تأسيس مؤسسات العدالة الانتقالية، وخصوصًا لجنة الحقيقة والمصالحة المقترحة والمحكمة الخاصة المقترحة. ينبغي القيام بكل ما هو ممكن لضمان انتصار الحقيقة والعدالة، والتعويض والمصالحة. لكن قبل تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة، يوصي المجلس الوطني للباشينغانتاهي بقيام حملة توعية شاملة تهدف إلى تحضير عقول الناس، ويعبر عن استعداده لتعديل الآليات التقليدية بشكل حديث لتتلاءم مع تسوية الصراعات غير القضائية.

فيما يتعلق بالمحكمة الخاصة المقترحة لبوروندي، يقترح المجلس الوطني للباشينغانتاهي بأن تستلهم المحكمة الخاصة آليات العدالة التقليدية. ›في الواقع، فإن الباشينغانتاهي سيتمكنون من المساهمة في المحكمة الخاصة، كأشخاص مرشحين وملتزمين بموجب القسم الذي أدوه، وبفضل الكفاءة التي اكتسبوها من التقاليد في مجالات العدالة التصالحية والتعويضية، والتي يعملون حاليًا على تكييفها مع الحداثة لتقديم

مساهمات تتجاوز العدالة الجزائية وتهدف إلى وضع حد لدورات العنف.

لكن المجلس يأسف لحقيقة أن المجتمع البوروندي لا يقر بالدور المهم لهذه المؤسسة البارزة، التي لم تتح لها الفرصة حتى الآن لتقديم أفضل ما عندها والمساهمة في تغيير شكل الصراعات في البلاد. وبالتالي، فإن المجلس يدعو السلطات العامة إلى ›النظر بجدية إلى المؤسسة والسماح لها بالمساهمة بأقصى ما عندها في تعافي الشعب البوروندي.

هناك تحديات رئيسية، تتعلق بشكل أساسي بالنزوع إلى الاستخفاف بالمؤسسة وتطوير تعاون سليم بين السلطات وبين الباشينغانتاهي. كما ينبغي تسوية مشاكل إضافية مثل إدماج الشباب في المؤسسة، وترسيم النساء بصفتهن الشخصية وبشكل مستقل عن أزواجهن، إضافة إلى الدور الذي يمكن أن يلعبنه في السياق الحالي للبلاد في مرحلة تعافيها من الأزمة. يشكل هذا تحديات مهمة، لكن ينبغي معالجتها بحساسية، ودون إحداث هزات غير ضرورية في المجتمع البوروندي الهش أصلًا.

لا تتغير الثقافة بين ليلة وضحاها. مع أخذ هذا بعين الاعتبار، حالما تنهض مؤسسة الباشينغانتاهي على قدميها مرة أخرى، يمكنها أن تلعب دورها الاجتماعي والسياسي الناظم بشكل كامل في المحافظة على السلام والتلاحم الاجتماعي وكهيئة مرجعية أخلاقية وثقافية. إضافة إلى ذلك، يمكنها أن تلعب دورًا مهمًا في عملية المصالحة في مجتمع تمزق على مدى السنوات الأخيرة، لكنه ملتزم حاليًا بمسار المصالحة وإعادة البناء. للمساعدة في تحقيق هذا الهدف، نقدم التوصيات الآتية للشركاء المعنيين.

5. 1. توصيات عامة

1. تشجيع المجلس الوطني للباشينغانتاهي على إعادة تشكيل نفسه بحيث يكون ممثلوه، على مستوى الأقاليم والمجتمعات المحلية والهضاب، أشخاصًا ذوي سلوك مثالي مثبت، يعكسون القيم الإيجابية ولا ينتمون إلى أي حزب سياسي معين.

2. إقامة حوار شامل، في إطار المجتمع المدني، فيما يتعلق بالقضايا الأساسية التي تتطلب تدخل السلطات السياسية والإدارية.

3. التنفيذ الكامل للمبادرات الإيجابية التي تم إطلاقها أصلًا في إطار إعادة تأهيل مؤسسة الباشينغانتاهي.

5. 2. لحكومة بوروندي

4. تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة كهيئة مستقلة، والتي ينبغي أن تكون تركيبتها غير حزبية مهما كلف الأمر، والتي ستعمل على تطبيق المادة 269 من الدستور، فيما يتعلق بإعادة تأهيل الباشينغانتاهي.

5. التعاون مع المجلس الوطني للباشينغانتاهي في جميع المسائل المتعلقة بإعادة تأهيل مؤسسة الباشينغانتاهي، وكذلك فيما يتعلق بقضايا العفو والمصالحة الوطنية الجوهرية للتنمية الوطنية في المستقبل.

6. ربط الباشينغانتاهي بعمل الهيئة الوطنية للحقيقة والمصالحة.

7. الاعتراف بدور الباشينغانتاهي وحمايته في إدارة النزاعات على الممتلكات.

8. استعادة الدور المحوري والمهم للباشينغانتاهي في إدارة التقاضي عن طريق آليات العدالة الطوعية.

9.  تثقيف الشعب البوروندي في مجال احترام القيم الثقافية (المادة 68 من الدستور).

10. وضع قانون أساسي يتعلق بتطبيق القانون على الحكومة المحلية، المادة 37، الفقرة 2، لتحديد شكل

التعاون بين الباشينغانتاهي والمسؤولين المنتخبين محليًا.

5. 3. للمجلس الوطني للباشينغانتاهي

1. المحافظة في جميع الأوقات على استقلال مؤسسة الباشينغانتاهي وطبيعتها غير السياسية.

2. تحسين تمثيل النساء ضمن هيكليات المؤسسة للوصول إلى هدف 50 بالمئة.

3. توثيق ونشر تجارب المصالحة، والوساطة والتحكيم التي تحققت على مستوى المجتمع المحلي.

4. نشر إعلانات المجلس الوطني للباشينغانتاهي في اجتماعاته العادية والاستثنائية، ونقل نصائح الأمانة

العامة للمجلس للسلطات المعنية.

5. معاقبة جميع أعضاء الباشينغانتاهي الذين يثبت فسادهم، نتيجة إساءة استخدام ممارسة أغاتوتو

ك-أباغابو بطريقة شفافة للمحافظة على الصورة الإيجابية للمؤسسة.

16. زيادة عدد الاجتماعات التي تعقد داخل الأقاليم للباشينغانتاهي، بحيث يتمكنون من تبادل التجارب

وتصحيح الأخطاء العملية التي يمكن أن تحدث.

17. تبني جميع الإجراءات القادرة على تحقيق التعاون بين الباشينغانتاهي والمسؤولين المنتخبين محليًا، على مستوى الهضبة بشكل سليم، ودون الانتقاص من الدور الأساسي للمؤسسة ومنطق عملها.

18. وضع إستراتيجية ستمكن الباشينغانتاهي من ممارسة نفوذ واضح في المجال السياسي، فيما يتعلق بالجهود المبذولة لإضفاء بعد أخلاقي على الحياة العامة والسياسية.

19. تطوير أنشطة ترويجية، على سبيل المثال، تشتمل على فعاليات موسيقية ومسرحية، حول القيم التي

تشجعها المؤسسة، خصوصًا قيم المصالحة.

20. إيجاد إطار للتفاعل مع المجتمع المدني، بما في ذلك منظمات النساء والوسط الأكاديمي ومنظمات حقوق الإنسان والمجموعات الدينية ومنظمات الشباب.

21. نشر النصوص القانونية الرسمية، مثل الدستور، قوانين الأحوال الشخصية والأسرة، قانون الممتلكات، قانون الإجراءات الجنائية، واتفاقية عام 1979 حول إزالة جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وما إلى ذلك.

22. على أفراد الباشينغانتاهي المرسمين والمدربين تقديم المساعدة في تعليم نظرائهم وتدريبهم في المناطق الريفية، لمساعدتهم على إدماج المبادئ والقيم الديمقراطية دون الانتقاص من أخلاقيات وفلسفة المؤسسة.

23. التأكيد على الحاجة إلى حصول مؤسسة الباشينغانتاهي على الموارد المالية اللازمة التي تمكّنها من العمل بشكل كفؤ.

24. أخذ الانتقادات والتوصيات التي عبر عنها عدد من أعضاء المجتمع المدني المعنيين والجهات المانحة بعين الاعتبار، بهدف تعزيز عملية مصالحة حقيقية.

5. 4. للمجتمع الدولي

25. بناء قدرات المؤسسة من خلال التعليم، والدعم المؤسساتي وتقديم الأدوات المعرفية.

26. مساعدة المؤسسة على الانفتاح على التجارب الأفريقية والدولية في إدارة الصراعات، والمساعدة الطوعية المحلية والحكم المحلي.

27. تنسيق التدخلات الهادفة إلى دعم الباشينغانتاهي بهدف تجنب ازدواجية العمل.

28. إدماج القيم التي تدعو إليها الباشينغانتاهي، سواء داخل برامج المساعدة التنموية أو فيما بينها.

29. بالتعاون مع الحكومة والمجلس الوطني للباشينغانتاهي، المشاركة في عملية إعادة تأهيل المؤسسة.

30. تعزيز الآليات غير المأجورة التي تقدمها الباشينغانتاهي في مجالات إدارة الصراع والمصالحة.

المراجع وقراءات إضافية

CARE, ‘Projet Protection de l’Environnement dans les Provinces Karusi et Gitega’ [Project on the protection of the environment in the Karusi and Gitega provinces], Bujumbura, CARE, 2002

Conseil National des Bashingantahe (National Council of Bashingantahe) (CNB), ‘Déclaration du 29 Avril 2006: Mise sur pied de la Commission Vérité et Réconciliation et du Tribunal Spécial au Burundi’ [Declaration of 29 April 2006: the national truth and reconciliation commission and the special tribunal in Burundi], Bujumbura, CNB, 2006 (2006a)

Conseil National des Bashingantahe (National Council of Bashingantahe) (CNB), ‘L’Institution des Bashingantahe hier et aujourd’hui: Arbitrage, médiation, conciliation’ [The institution of bashingantahe yesterday and today: arbitration, mediation, conciiation], Bujumbura, CNB, February 2006 (2006b)

Deslaurier, C., ‘Le Bushingantahe au Burundi’ [The bashingantahe in Burundi], in F. X. Fauvelle and C. H. Perrot, Le Retour des Rois [The return of the kings] (Paris: Khartala, 2003)

Dexter, T. and Ntahombaye, P., ‘Le rôle du système informel de la justice dans la restauration d’un Etat de Droit en situation post-conflit: Le cas du Burundi’ [The role of the informal justice system in the restoration of a state of law after conflict: the case of Burundi], Bujumbura, Centre pour le Dialogue Humanitaire, 2005

HDPR-Shingarugume, ‘Sondage d’opinion sur les attentes de la population vis-à-vis du projet “Réhabilitation de l’institution des bashingantahe”’ [Public opinion poll on public expectations of the ‘Rehabilitation of the Institution of Bashingantahe’ project], Bujumbura, August 2003

International Crisis Group (ICG), Réfugiés et déplacés au Burundi: désamorcer la bombe foncière [Refugees and displaced persons in Burundi: defusing the property bomb], Rapport Afrique no. 70 (Nairobi and Brussels: ICG, 2003)

Ngorwanubusa, J., ‘L’Institution des Bashingantahe et le bel idéal universel de l’honnête homme’ [The institution of bashingantahe and the universal ideal of the honourable man], in La réactualisation de l’Institution des Bashingantahe, Etude pluridisciplinaire, Bujumbura, Université du Burundi, 1991, pp. 285 ff

Ntabona, A., Itinéraire de la sagesse: Les Bashingantahe hier, aujourd’hui et demain au Burundi [The way of wisdom: the Bashingantahe in Burundi yesterday, today and tomorrow] (Bujumbura: Ed. Centre de Recherches pour l’Inculturation et le Développement, 1999), 303 pp.

— ‘Les enjeux majeurs de la réhabilitation de l’institution des Bashingantahe’ [The main stakes in the rehabilitation of the institution of bashingantahe], in Au Coeur de l’Afrique, vol. 1, no. 2 (2002), pp. 3–21

Ntahokaja, J. B., ‘Imigani-ibitito’ [Stories and tales], Bujumbura, Université du Burundi, 1977

Ntahombaye, P., Kagabo, L. et al., Mushingantahe wamaze iki? [The role of the bashingantahe during the crisis], University of Burundi, 2003, 211 pp. (with summary in Kirundi, French and English)

Ntahombaye, P. and Manirakiza, Z., ‘La contribution des institutions et des techniques traditionnelles de résolution pacifique des conflits à la résolution pacifique de la crise burundaise’ [The contribution of traditional institutions and mechanisms of conflict resolution to the peaceful resolution of the Burundi crisis], Unesco, Bujumbura, 1997 (1997a)

Ntahombaye, P. and Manirakiza, Z., ‘Le rôle des techniques et mécanismes traditionnels dans la résolution pacifique des conflits au Burundi’ [The contribution of traditional techniques and mechanisms in the peaceful resolution of the conflicts in Burundi], Unesco, Bujumbura, December 1997 (1997b)

‘Rapport de la Mission Indépendante d’Evaluation du Projet “Appui à la Réhabilitation de l’Institution des bashingantahe”’, BDI/02/B01, 5–25 juillet 2003

République du Burundi, Loi no. 1/016 du 20 avril 2005 portant organization de l’administration Réseau de Citoyens Network Justice et Démocratie (RCN), ‘Etude sur l’harmonisation du rôle des Bashingantahe avec celui des instances judiciaires de base (tribunaux de résidence) dans les provinces frontalières avec la Tanzanie’ [Study on harmonizing the role of the bashingantahe with that of the resident tribunals in the provinces bordering Tanzania], Bujumbura, RCN, December 2002.

الفصل السابع

الاستنتاجات والتوصيات

لوك هويسه

يجمع القسم الأول من هذا الفصل المعلومات التي تمكننا من تحديد موقع ممارسات العدالة التقليدية على سلّم الحكم. ومن ثم ينتقل القسم الثاني إلى تحليل حذر لنقاط قوتها وضعفها، وينتهي الفصل بقائمة من التوصيات للمعنيين على المستويين الوطني والدولي.

1. وجهان للممارسات القائمة على التقاليد

لا بد للتقييم أن يبدأ بالسؤال عن ماهية الأهداف والغايات الموضوعة لمؤسسة ما. يحدد الفصل الأول مجموعتين من الأهداف في حالة ممارسات العدالة التقليدية. تمثل معالجة الناجين والانسجام الاجتماعي ومنع تجدد العنف أهدافًا عامة. أما المساءلة، والمصالحة وقول الحقيقة والتعويض فهي أهداف أداتية تمهد الطريق نحو أهداف أوسع، وبذلك تؤسس الإطار اللازم لبناء عمليات ومؤسسات ديمقراطية فعالة ومستدامة. هل تحقق الآليات الأصلية هذه الأهداف في المراحل الانتقالية من الحرب الأهلية أو الإبادة الجماعية؟ ثم يأتي السؤال حول دور نقاط القوة والضعف في تحديد النتيجة.

يذكر تقرير للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي حول أنظمة العدالة غير الرسمية في أفريقيا جنوب الصحراء عددًا من نقاط قوة مثل تلك الترتيبات:

إنها متاحة للسكان المحليين والريفيين من حيث إن إجراءاتها تتم باللغة المحلية، وعلى مسافة قريبة، وبإجراءات بسيطة لا تتطلب خدمات المحامين، ودون التأخير المرتبط بالنظام الرسمي.

في معظم الحالات، يكون نوع العدالة المقدم، والذي يستند إلى المصالحة والتعويض والترميم وإعادة التأهيل، أكثر ملاءمة للناس الذين يعيشون في مجتمعات يرتبط أفرادها بعلاقات وثيقة، والذين ينبغي أن يعتمدوا على التعاون الاجتماعي والاقتصادي المستمر مع جيرانهم…

إنها تساعد في تثقيف جميع أفراد المجتمع المحلي فيما يتعلق بالقواعد التي ينبغي اتباعها، والظروف التي يمكن أن تؤدي إلى انتهاكها، وكيفية تسوية الصراعات التي يمكن أن تنشأ.

إن حقيقة استخدامها لأحكام غير السجن تؤدي إلى تخفيف فعال من ازدحام السجون، ويمكن أن تسمح بتحويل المبالغ المخصصة للسجون في الموازنة لغايات التنمية الاجتماعية، وتسمح للمرتكب بالاستمرار بالمساهمة بالاقتصاد وأن يدفع تعويضًا للضحية، وتمنع اقتلاع الأسرة الاجتماعي والاقتصادي من مكان سكنها تقدم هذه القائمة من نقاط القوة إشارات إلى عوامل تحافظ على المصداقية المحلية للممارسات التقليدية، على سبيل المثال، وتوفر إمكانية الوصول السهل إلى الشكل المناسب من تسوية النزاعات في المجتمعات المحلية التي يرتبط أعضاؤها بعلاقات وثيقة. كما أنها تشير إلى ملامح تزيد من فعاليتها، مثل بساطة الإجراءات، الحد من التأخير، والتكاليف المنخفضة. مشكلة هذه القائمة، أنها تقدم النموذج وليس الواقع. هذا علاوة على أنها لا تركز على سياق مبررات الصراع. ولهذا فإن هذا القسم يبدأ بوصف العقبات، والعراقيل والنواقص في البلدان التي مزقتها الحرب والتي تشكل جزءًا من مشروعنا.

بالنظر أولًا إلى نقاط الضعف وليس إلى نقاط القوة، يمكن أن نتجنب توقعات لا أساس لها.

1. 1. العقبات والنواقص

يشكل التعويض، كما يشير مؤلفو دراسات الحالات في هذا الكتاب، بعدًا مهمًا لمعظم الأنظمة الأصلية للعدالة والمصالحة. يتوجب على المرتكب أو قبيلته دفع الأضرار للضحية أو لمجتمعه. لكن طبيعة الصراع في هذه البلدان، كانت تعني أن الضحايا في كثير من الأحيان لا يعرفون من هو المسؤول عما حدث لهم. في مثل هذا الوضع، سيكون هناك صعوبة في أداء الطقوس. إضافة إلى ذلك، حتى إذا كان من الممكن تحديد الضحية والمرتكب، فإن دفع التعويض سيكون مستحيلًا، في كثير من الأحيان، بالنظر إلى الفقر المطلق الذي فرضته الحرب عليهم جميعًا.

يظهر المثال، أن المشكلة توجد في مجالين أساسيين يتمثلان في أن الآليات التقليدية لها نطاق عمل وأثر محدودين؛ وأن ظروف العمليات إشكالية.

1. 1. 1. محدودية النطاق

في فصلهما حول موزمبيق (الفصل الثالث)، يلاحظ فيكتور أغريجا وبياتريس دياس -لامبرانكا أن طقس روح الغامبا يعد ظاهرة إقليمية، وأن الأعضاء المسيحيين في المجتمع المحلي يسخرون منه، وأنه ينطوي أيضًا على تحامل ضد النساء. وهكذا، فإن المؤلفين يحددان ثلاثة عوامل تحدد الفضاء الاجتماعي الذي يكون فيه هذا الطقس قابلًا للتطبيق، أي العرق والدين والنوع الاجتماعي.

العِرق

تغطي الأوبوشينغانتاهي في بوروندي والغاتشاتشا في رواندا جميع المجموعات العرقية على مستوى البلاد. من ناحية أخرى، فإن الآليات القائمة على التقاليد في موزمبيق وسيراليون وشمال أوغندا لها خصوصية ثقافية، وبالتالي فهي غير مرنة تقريبًا. يكتب جيمس لاتيغو في الفصل الرابع حول ممارسات الآشولي في شمال أوغندا أنه «من الصعب، في كثير من الأحيان، بالنسبة للأشخاص الذين لا ينتمون إلى ثقافة معينة أن يستجيبوا بإيجابية لممارسات العدالة التقليدية. ليس هناك هامش واسع ولا إمكانية لتغيير أو تعديل القواعد الموضوعة لتناسب ظروفًا معينة ». على الأرجح، فإن طقس ماتو أوبوت، على سبيل المثال، ليس متاحًا كي يستخدم كتقنية عدالة ومصالحة، ويطبق على حالة الجرائم المرتكبة بين زعماء الآشولي وجيش الرب للمقاومة والناجين من غاراتهم في مقاطعتي تيسو ولانغو المجاورتين. كما أن هناك اختلافات ثقافية بين المجتمعات المحلية الآشولية المختلفة. وهكذا، فإن نطاق الآليات الأصلية مقيد بشكل كبير في البلدان ذات التنوع العرقي، حيث طورت كل مجموعة أنظمتها المعقدة الخاصة بها في تسوية النزاعات. في حالة سيراليون، يلاحظ جو آلي في الفصل الخامس أنه على مدى سنوات، حدث اختلاط في الأعراق في منطقة مندي، حيث إن الممارسات التقليدية القائمة قد لا تكون مناسبة لمعالجة النزاعات بين أشخاص من المندي وأشخاص من غير المندي.

الدين

في وصفه الأنثروبولوجي لحالة أميليا في وسط موزمبيق (انظر الفصل الثالث)، يبين فيكتور أغريجا أن تطبيق مقاربة روح الغامبا مستحيل لأن والدها، وهو مسيحي، يرفض المشاركة. ويكتب أغريجا: «مشكلة المجموعات الدينية المسيحية هي أنها لا تشجع الممارسات والخطابات التي تعود لدراسة الماضي العنيف، أو تطالب بأي شكل من أشكال المسؤولية للأشخاص الذين كانوا ضالعين في الصراعات المرتبطة بالحرب…

تعتمد المجموعات الدينية المسيحية في غورونغوزا بشكل كامل على الصفح الأحادي الجانب، حيث إن الله يعتبر الأكثر أهمية في تسوية الصراعات ». في شمال أوغندا أيضًا، يرفض بعض المؤمنين المسيحيين الممارسات التقليدية بشكل مطلق، رغم ظهور تقنيات جديدة تنزع للتهجين مع المعتقدات والطقوس المسيحية.

النوع الاجتماعي

تخضع الأنظمة القائمة على التقاليد في تسوية النزاعات عادة لهيمنة الرجال. تأتي أكثر التقييمات انتقادًا من فيكتور أغريجا. الانحياز في النوع الاجتماعي في محتوى الغامبا واضح جدًا: ›النساء اللاتي قُتلن خلال الحرب الأهلية في موزمبيق لا يستطعن العودة كأرواح إلى عالم الأحياء للمطالبة بالعدالة، ووحدها أرواح الرجال يمكنها أن تفعل ذلك. وبهذا المعنى، ورغم أن أرواح الماغامبا تكسر صمت الماضي، فإن العدالة التي تقدمها بنيويًا تساعد في تعزيز السلطة الأبوية في بلد يصارع من أجل المساواة بين الجنسين‹. في بوروندي، لا يسمح للنساء بأن يصبحن أعضاء في الأوبوشينغانتاهي بصفتهن الشخصية. يمكنهن المشاركة فقط في المداولات بصفتهن زوجات أو أرامل لأعضاء المؤسسة. كما أن نظام العدالة في سيراليون منحاز بقوة ضد النساء، خصوصًا في العلاقات بين الزوج والزوجة.

لقد تم إحداث تغييرات مؤخرًا. في سيراليون، يمكن أن يكون هناك تمثيل للنساء في حالات تسوية النزاعات. يلاحظ جو آلي أن بعض آليات السعي لمعرفة الحقيقة ترأسها نساء. طبقًا لأسومبتا نانيوي- كابوراهي في دراسة حالة بوروندي (الفصل السادس)، فإن جهود زيادة مشاركة النساء تتعرض للعرقلة بسبب ردود الفعل المحافظة من الرجال. ويخلص بيرت إنغليير (انظر الفصل الثاني) إلى استنتاج مفاده أن النساء اضطلعن بأدوار مهمة في مجريات الغاتشاتشا في رواندا. إلاّ أن نظام المحكمة هذا يظل “منحازًا ضد النساء بسبب عدم قدرته على معالجة الجرائم الجنسية. وقد تم إحداث تغييرات للسماح للنساء بتقديم إفاداتهن في الجرائم الجنسية، على سبيل المثال، من خلال الجلسات المغلقة. لكن طبيعة ترتيبات الغاتشاتشا، التي تحتم اللقاءات وجهًا لوجه، تجعل من الصعوبة بمكان معالجة هذه الجرائم”.

نواقص أخرى

تنزع آليات العدالة التقليدية إلى إقصاء الشباب. ينظر إلى الشباب على أنهم غير ناضجين أو لا يتمتعون بالخبرة الاجتماعية والمعرفة الكافية بالتقاليد المحلية. يعتقد جو آلي أن الاعتماد المفرط على الحكماء يتسبب في هذا النوع من الإقصاء.

هناك مصدر آخر للإقصاء ذو طابع سياسي، أي النزعة لحماية جرائم معينة أو مرتكبين معينين من أبعاد المساءلة والتعويض في الممارسات الأصلية. تفتقر محاكم الغاتشاتشا الرواندية للسلطة التي تمكّنها من التعامل مع العنف الذي ارتكبته الجبهة الوطنية الرواندية، التي يهيمن عليها الباتوتسي ضد الباهوتو. في شمال أوغندا، كان القادة الكبار لجيش الرب للمقاومة خارج نطاق مراسم ال ماتو أوبوت. وهذا ينطبق على معظم أفراد الجيش الأوغندي.

أخيرًا، فإن بعض هذه الصراعات تجاوزت الحدود الوطنية أو باتت تتغذى على دعم بلدان الجوار. هذا أيضًا، يحد من نطاق عمل الأدوات التي نوقشت هنا. كما يكتب جيمس لاتيكو حول طقوس ال ماتو أوبوت، فإن ضعفًا جوهريًا في تطبيقها كعلاج هو أنها ›مفاهيميًا، تقدم تمرد جيش الرب للمقاومة على أنه شأن آشولي محلي.

في الواقع، فإن هذه الحرب فيها بعد وطني ودولي كامن بداخلها. إن ديناميكيات الصراع وتركته، كما في سيراليون، تتجاوز الآليات المحلية القائمة على التقاليد، سواء من حيث الأراضي والمناطق أو من حيث الأشخاص الضالعين فيها.

1. 1. 2. شروط صعبة في إجراء العمليات

سؤالان يؤديان إلى هذا الجزء من تقييمنا. أولًا، هل هذه الأدوات الأصلية قادرة على التعامل مع جرائم الحرب، والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية؟

ثانيًا، هل لديها القدرة على استعادة سنوات وأحيانًا عقود من الدمار المادي والاجتماعي لبيئاتها؟

نطاق الاعتداءات والجرائم

أنظمة العدالة التقليدية مصممة على للتعامل مع عدد صغير نسبيًا من الجرائم. إيرين بينز، وهي باحثة تعمل على آليات العدالة غير الرسمية في المجتمعات المحلية في شمال أوغندا، تقتبس “دراسة أجريت عام 2005 على العدالة التقليدية وإعادة الاندماج عبر فيها عشرات الحكماء في سائر أنحاء آشولي لاند، وبشكل شبه إجماعي، عن رأيهم بأنه ليس من المنطقي تطبيق ماتو أوبوت على أساس حالة بعد حالة، حيث إن عددًا كبيرًا من الناس كانوا قد قتلوا، ولذلك كان من الصعب تتبع من قتل من، وأية قبائل ينبغي الانخراط معها”. مؤلفو هذا الكتاب، لا يعارضون اللجوء إلى المقاربة القائمة على التقاليد للعدالة والمصالحة بعد المرحلة الانتقالية. على العكس تمامًا. لكنهم يعبرون أيضًا عن شكوك الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات في آشولي لاند. كما يكتب جيمس لاتيغو، فإن نظام العدالة التقليدي الآشولي، في تصميمه الأصلي “ليس مصممًا كطريقة لمقاضاة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لأنه في آشولي لاند في الحقبة ما قبل الاستعمارية لم تحدث مثل تلك الجرائم. من هنا، فإنه غير مناسب تمامًا للتطبيق بوصفه إجراء المصالحة الوحيد بالنسبة لمرتكبي الأعمال الإرهابية من جيش الرب للمقاومة”. كما يستنتج جو آلي، بأن هذه الآليات يمكن فقط أن تكون مكملة لجهود أنظمة العدالة الجنائية الوطنية والدولية.

بيئة جريحة

تصف دراسات الحالات الآثار المدمرة للمجازر الجماعية والحرب الأهلية والقمع، على الشكل والمحتوى والمكانة والإمكانات الكامنة للأدوات القائمة على التقاليد في مجتمعاتها. يتفاوت نطاق ودرجة العنف والقمع، لكن جميع البلدان تتشاطر تجربة حدوث شرخ عميق في تقاليدها. إن الظروف المادية والقيود السياسية غير ملائمة بالمرة. إضافة إلى ذلك، فإن النسيج الاجتماعي قد تفكك، ما أدى إلى إلحاق ضرر كبير بالبيئة الطبيعية للممارسات التقليدية.

العقبات المادية

لقد عاش عدد كبير من السكان الضحايا والمرتكبين العائدين ولا زالوا، يعيشون في مخيمات للاجئين، وهي بيئات مصطنعة إلى درجة يصعب فيها استخدام طقوس التطهير، وإعادة الإدماج والمصالحة بشكل فعال.

كما أن اقتلاع العائلات من مَواطنها الأصلية يشكل عقبة أخرى. في سيراليون، تجعل هجرة أعداد كبيرة من الشباب إلى المدن من الممارسات التقليدية أمرًا أقل فعالية. إضافة إلى ذلك، فإن البيئات الحضرية ليست البيئة الطبيعية للإجراءات الطقسية المستخدمة في المجتمعات المحلية، كما تبين تجربة محاكم الغاتشاتشا في كيغالي. علاوة على ذلك، فإن الموارد اللازمة لإنجاز بُعد التعويض في هذه الطقوس ليس موجودًا بسبب الفقر المدقع.

القيود السياسية

يلاحظ جو آلي، أن مقاربات القمة إلى القاعدة لبناء السلام التي تم تبنيها من قبل حكومة سيراليون والوكالات الدولية، على حد سواء، جعلت من الآليات القائمة على التقاليد غير ذات جدوى. يجادل الفصل الذي يتعلق برواندا بأنه ورغم أن السلطات المحلية لا تنشط علنًا في عملية الغاتشاتشا، “فإنها تشكل إطارًا تعمل داخله الغاتشاتشا. طبقًا لتصورات الهوتو، فإن هذا يعني في كثير من الأحيان أن مزيج الغاتشاتشا، بإشارتها إلى الماضي ما قبل الاستعماري، ووجود بنية سلطة منشغلة بالحركة السياسية العسكرية التي يهيمن عليها أفراد أقلية التوتسي، تعد عودة إلى الفترة الاقطاعية عندما كان الخدم الهوتو خاضعين للأسياد التوتسي في جميع نواحي الحياة”.

تآكل رأس المال البشري

لقد أدت الحرب الأهلية والإبادة الجماعية بعد نهايتهما إلى انعدام ثقة متبادل في المجتمعات المحلية الصغيرة، وهذا قد يقلص الاستعداد للمصالحة. لقد تم انتهاك المحرمات وتدنيس الأماكن المقدسة. وقد تعرضت شرعية الزعماء التقليديين لضرر كبير، خصوصًا في علاقتهم مع الأجيال الشابة. لقد اختفى التفاعل الاجتماعي العفوي للشباب تقريبًا، خصوصًا في حالة الأطفال المخطوفين. كيف يمكن للمعالجين

والحكماء أن يؤدوا الطقوس بنجاح إذا كان هناك تشكيك بسلطتهم.

1. 2. نقاط القوة

بدأ هذا الفصل بإلقاء نظرة عامة موجزة على نقاط القوة الكامنة في الممارسات القائمة على التقاليد. إلاّ أن هذا القسم المتعلق بالعقبات والنواقص طرح شكوكًا وأسئلة حول أدائها الفعلي أو المحتمل في البلدان التي ابتليت بالحرب الأهلية والإبادة الجماعية. نتحول الآن إلى إلقاء نظرة أكثر تمحيصًا على هذه الصورة القاتمة ونبين الآثار الإيجابية التي يمكن أن تكون لهذه الأدوات في سياق التعامل مع تركة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

1. 2. 1. المساءلة

تعد المساءلة أحد الأهداف الأداتية لمعظم سياسات العدالة الانتقالية. وتشكل إجراءات الملاحقة القضائية المنهجية أكثر الطرق مباشرة لتحديد الذنب والعقوبة. يجادل الفصل الأول أن هذه الإستراتيجية موضع شكوك كبيرة في السياقات التي تكون فيها عمليات تغيير النظام عملية حساسة و/أو معقدة. من شأن إجراء محاكمات على نطاق واسع أن يعرض للخطر السلام الهش أو يجعل من المستحيل وضع حد للصراع العنيف، كما هو الحال حاليًا في شمال أوغندا. إلا أن العفو العام الشامل أو الصمت المفروض ليس خيارًا مقبولًا في السياسات. تفقد العملية شرعيتها إذا انطوت على إفلات واضح من العقاب. كما أن ثقافة الإنكار (كما هو الحال في موزمبيق) لن تسهل استعادة العلاقات المنقطعة أو معالجة الضحايا. ثمة اعتقاد متزايد بأن الآليات غير الحكومية يمكن أن تشكل بديلًا (مؤقتًا في كثير من الأحيان) للمحاكمات. إنها أقل تهديدًا للقوى التي تخشى الملاحقات القضائية. إضافة إلى ذلك، فإنها تنطوي على الاعتراف بالمسؤولية. كما أن قربها من الضحايا والناجين يعتبر ميزة أخرى، حيث يصبح من الممكن أن يرى الأشخاص أنه تم تحقيق عدالة جزئية، على النقيض من الإجراءات والنتائج التي تفرزها المحاكم الجنائية البعيدة. يلاحظ بيرت إنغليير، أن المحاكم الرسمية في رواندا هي “مؤسسات بعيدة مكانيًا ونفسيًا” بالنسبة للفلاح العادي.

1. 2. 2. كشف الحقيقة

قد لا تكون لجان الحقيقة أكثر الخيارات ملاءمة في المجتمعات التي لا يكون فيها الكشف العلني عن الحقيقة متجذرًا في الثقافة المحلية. تشير دراسات الحالات في بوروندي ورواندا وسيراليون، إلى أن هذه تعد مشكلة في تلك البلدان. تحديدًا لأنها متجذرة في القيم والتقاليد الراسخة محليًا، فإن الممارسات الطقسية المجتمعية قد تكون ملائمة أكثر لخلق مناخ جماعي يفتح القلوب والعقول ويكشف عن أجزاء من الحقيقة.

1. 2. 3. المصالحة

يعد الفصل الذي كتبه فيكتور أغريجا عن طقوس روح الغامبا في وسط موزمبيق، دليلًا قويًا على المصالحة التي يمكن لمثل هذه الممارسات أن تحققها. ويعتقد أن للباشينغانتاهي في بوروندي نفس الأثر المحتمل، رغم أنها لم تستثمر بعد في سياق التعامل مع تركة مؤلمة للغاية. لقد نجحت طقوس التطهير وإعادة الإدماج، خصوصًا إذا كانت تتعامل مع مقاتلين سابقين وأطفال مختطفين عائدين هنا وهناك في استعادة العلاقات العائلية والقبلية. إلاّ أن ثمة شكوكًا فيما يتعلق بقدرة مجريات الغاتشاتشا في رواندا على تحقيق المصالحة. طبقًا لدراسة الحالة التي أجراها بيرت إنغليير، فإن محاكم الغاتشاتشا تقلد المؤسسة القديمة دون أن تكون لها نفس القدرة على تحقيق المصالحة الحقيقية.

توفر ممارسة روح الغامبا فضاءات اجتماعية، حيث يمكن العمل على الماضي. هذه الناحية العلاجية، لا تقتصر على المراسم المحددة التي يصفها فيكتور أغريجا. هناك آليات أخرى قائمة على التقاليد، يمكن أن تفتح مثل هذه الفضاءات العلاجية. إضافة إلى ذلك، فإن الوصول إليها لا يقتصر على الضحايا. العديد من الناجين، بمن فيهم المرتكبين، يشاركون في هذه السيناريوهات الطقسية.

1. 2. 4. ترميم العلاقات المجتمعية

بعد وجود صراع مدمر، تعد هذه العملية بالغة التعقيد. يجادل مؤلفا دراستي الحالتين المتعلقتين ببوروندي وموزمبيق، بأن الآليات المحلية تتمتع بالقدرة على تجديد رأس المال الاجتماعي المتضرر. ثمة قيمة مضافة في إيجاد حالات ينشأ فيها تفاعل اجتماعي عفوي بين الناس حول ما هو جيد وما هو سيء. أخيرًا، فإن أدوات مثل الأوموشينغانتاهي قادرة، من حيث المبدأ، على التعامل مع المفرزات الجانبية للحروب الأهلية، والتي غالبًا ما تنسى، مثل الصراع على الممتلكات عند عودة اللاجئين وازدياد حدة العنف الزوجي.

ثمة إشكالية أكبر في الحكم على ما إذا كانت هذه الأدوات مؤهلة بما يكفي لمنع العودة إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. في غورونغوزا، وسط موزمبيق، ظل العنف على مستوى المجتمعات المحلية غائبًا. طبقًا لفيكتور أغريجا، فإن هذا نتيجة للطقوس التي يناقشها في فصله. لكن في أماكن أخرى، فإن جميع الحالات حديثة جدًا بحيث يصعب تقييم إنجازاتها على المدى المتوسط والطويل.

2. تحليل حذر لنقاط القوة والضعف

لقد أضفت دراسات الحالات المقدمة في هذا الكتاب واقعية على النقاشات الجارية حاليًا، حول دور الممارسات القائمة على التقاليد في مجتمعات ما بعد الصراع. مؤلفو هذا الكتاب، يرون نقاط القوة والضعف. القسم الأول من هذا الفصل أوجز الحجج التي قدموها. فيما يلي محاولة للوصول إلى مجموعة

مما يمكن تسميته استنتاجات حذرة. سيستخدم تحليلنا معيارين في تقييم الأداء الفعلي والمحتمل للآليات موضع الدراسة. المعيار الأول هو الفعالية، أي أثر هذه الآليات من حيث تحقيق الآثار المرجوة. والمعيار الثاني هو الشرعية، أي درجة مصداقيتها، محليًا ودوليًا.

2. 1. الفعالية النسبية

تعتمد فعالية المؤسسة الاجتماعية، إلى حد كبير، على مدى قدرتها على التأثير في السلوك وفي مستقبل مجتمع من المجتمعات. ولذلك، فإن السؤال هو ما إذا كان وصول الأدوات القائمة على التقاليد واسع، بما فيه الكفاية، لتحقيق ما يكفي من العلاج وإصلاح ما تخرب في المجتمع وتحقيق السلام الدائم بعد الصراع العنيف. ثمة عدد من الظروف التي تحد من نطاق الأدوات التقليدية للعدالة. إنها ذات خصوصية ثقافية، ونتيجة لذلك، فإنها تقتصر دائمًا على المجتمعات المحلية والعرقية والدينية والمناطقية التي تطبق فيها. في حالة شمال أوغندا، على سبيل المثال، نجح الآشولي في استخدام تراثهم الثقافي للتكيف مع تركة العنف الدموي واسع الانتشار.

إلاّ أن جرائم حرب ارتكبت في كثير من الأحيان بين الآشولي واللانغي، وبين سكان الشمال وسكان الجنوب في البلاد. في تلك الحالات، لا يمكن الوصول إلى بعض الضحايا أو المرتكبين لإخضاعهم لطقوس الماتو أوبوت الآشولية. كما يتوقع ظهور نتيجة مماثلة عندما يكون الصراع قد اكتسب بُعدًا دوليًا. إضافة إلى ذلك، فإن أشكال الإقصاء المتعمد للمعنيين يقلص من نطاق العمل، حيث يمكن أن يتم تهميش النساء والشباب. الأكثر من ذلك، أن الممارسات القائمة على التقاليد ليست منيعة على الاستغلال السياسي، ما ينتج عنه أن تكون فئات معينة من المرتكبين (على سبيل المثال أصحاب الرتب المتوسطة والعليا في الجيش أو قادة المتمردين) تتم حمايتهم من بُعدي المساءلة والتعويض في الآليات غير الحكومية.

كما أنها ستكون أقل فعالية إذا كانت الظروف المحيطة غير ملائمة. لقد أظهرت دراسات الحالات، بشكل مقنع، كيف أن الحرب والإبادة الجماعية والقمع لها آثار مدمرة على قدرات الزعماء التقليديين في أداء طقوس العدالة والمصالحة. كما يلقي هذا التطور شكوكًا على قدرتها على تعديل التصميم الأصلي للآليات، لتتناسب مع مهمة التعامل مع الانتهاكات واسعة الانتشار لحقوق الإنسان.

كما أن تقييم الأداء الفعلي و/أو المحتمل لهذه الأدوات يتطلب أيضًا أن نعطي ما يكفي من الاهتمام لبعض الأوجه الأوسع لطريقة عملها. ما الذي تحققه على المستوى الجزئي (الضحايا والمرتكبون الأفراد) وعلى المستوى المتوسط (القبائل والمجتمعات المحلية) وعلى المستوى الكلي (المستوى الوطني والإقليمي والدولي)؟ في العديد من الحالات، لا نمتلك حتى أكثر البيانات أساسية التي يمكن أن نحتاجها في التعامل مع الإجابة على هذا السؤال. كما أن هناك مشكلة أثرها بعيد المدى. وهذه قضية في غاية الصعوبة، حيث إن معظم الحالات حديثة جدًا بحيث يصعب تقييمها من هذا المنظور بالتحديد، وقد تكون حالة موزمبيق استثناء من ذلك.

رغم ذلك، فإن الفصول السابقة شملت أيضًا أمثلة عن الفعالية النسبية للآليات التقليدية. بعض الطقوس، مثل طقوس التطهير في سيراليون وشمال أوغندا، يبدو أنها نجحت في إعادة إدماج ومصالحة الضحايا الناجين والمقاتلين السابقين، خصوصًا الأطفال الجنود السابقين. في موزمبيق، ورغم الإهمال الواضح للحكومة للحاجة لسياسة في مجال العدالة الانتقالية، فإن “الناجين من الحرب الذين يعيشون في المراكز السابقة للحرب الأهلية في غورونغوزا لم يلجأوا إلى الانتقام العنيف… ولا سايروا السلطات الرسمية، التي حثت الناجين على “الصفح والنسيان”. بدلًا من ذلك، وبوحي من حكمتهم الثقافية، فإن الناجين في غورونغوزا تمكنوا من تطوير آليات اجتماعية ثقافية خاصة بهم لتحقيق المعالجة والعدالة والمصالحة بعد الحرب الأهلية” (الفصل الثالث). تسرّع مجريات الغاتشاتشا في رواندا من معالجة القضايا المتراكمة المتعلقة بالإبادة الجماعية هناك. الأهم من ذلك، أنه يمكن للآليات التقليدية أن تشكل أدوات مؤقتة في الحالات التي لا توجد فيها سياسة عدالة انتقالية رسمية، أو يتم تأخيرها أو تعطيلها بسبب القيود السياسية. طبقًا لدراسة الحالة في بوروندي، فإن أعضاء الباشينغانتاهي كانوا نشطين بعد الحوادث المروعة بين الباهوتو والباتوتسي عام 1993. في رواندا، عقدت اجتماعات الغاتشاتشا مباشرة بعد انتهاء الإبادة الجماعية. وقبل سنوات من تحديد الحكومة لسياستها في هذا المجال. وأخيرًا، فإن أدوات مثل ممارسة الغامبا في موزمبيق أظهرت أن هذه الأدوات قادرة على التعامل مع الآثار المنسية غالبًا للحرب الأهلية، مثل الصراعات على الممتلكات عند عودة اللاجئين وزيادة العنف الزوجي.

2. 2. الشرعية الجزئية

في رواندا، يعد حضور اجتماعات الغاتشاتشا على المستوى المحلي إجباريًا لجميع السكان البالغين. يلاحظ الفصل الثاني أنه، وبعد أن حل الإجهاد، “باتت الغرامات والإجراءات القسرية تحل محل المشاركة الطوعية”. بالفعل، فإن القوة والتخويف تقنيات تستخدم في كثير من الأحيان لزيادة فعالية مؤسسة اجتماعية ما. الوصاية والمحسوبية، وتحقيق الالتزام من خلال التخصيص الشخصي للسلع والخدمات، يعد بديلًا “أكثر نعومة”. إلاّ أن الشرعية، أي أن تكون الممارسات ذات مصداقية ومبررة وتستحق الثقة، تعد مصدرًا أقوى للالتزام. إن الشرعية لا توفر فقط دعمًا لفعالية مؤسسات مثل الممارسات القائمة على التقاليد، بل إنها تضمن بقاءها أيضًا.

وتعد درجة مصداقيتها، محليًا ودوليًا، المعيار الثاني لتقييمنا.

2. 2. 1. على المستوى المحلي

تقدم جميع دراسات الحالات صورة مختلطة عن موقع آليات العدالة والمصالحة من حيث شرعيتها. في غورونغوزا، وسط موزمبيق، تعد الغامبا جزءًا من تطوير تقليد محلي راسخ لتسوية الحسابات مع تاريخ العنف الفردي والجماعي (الفصل الثالث). إنها تحظى بمصداقية عالية. إلاّ أن مؤلفي الفصل الثالث يدركون بأنه من منظور سياسي فإنها ›لا تستجيب لفشل مؤسسات الدولة في تقديم إجراءات المساءلة كجزء من عملية العدالة الانتقالية في أعقاب الحرب الأهلية‹. بيرت إنغليير، يكتب أن الروانديين العاديين يفضلون محاكم الغاتشاتشا على المحاكم الوطنية والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في التعامل مع جرائم الإبادة الجماعية. إلاّ أن معظم الباهوتو لم يعودوا ينظرون إلى مؤسسة الغاتشاتشا على أنها تلتزم بمعايير العدالة والإنصاف.

لقد دعمت مبادرة السلام في شمال أوغندا، وهي شبكة من الجمعيات، بقوة استخدام الماتو أوبوت وطقوس التطهير. والحجة، هي أن الناجين من الحرب الأهلية يثقون بهذه الممارسات بدرجة كبيرة. منظمات محلية غير حكومية أخرى تختلف مع هذا الرأي. تشير هذه المنظمات إلى مسوح أجريت في مخيمات المهجرين والتي تشير نتائجها إلى أن شرعية التقنيات المحلية جزئية فقط، حيث إنها لا تلبي احتياجات الناس للمساءلة. أسومبتا نانيوي-كابوراهي مقتنعة بأن أغلبية السكان في بوروندي يرون في الأوبوشينغانتاهي أداة تسوية نزاعات ذات مصداقية، حتى في سياق التعامل مع الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية في البلاد؛ لكنها تلقى ازدراء من معظم الدوائر السياسية المعاصرة في البلاد. في سيراليون، ينظر إلى طقوس التطهير وإعادة الاندماج، خصوصًا عندما تتعامل مع الأطفال الجنود السابقين، على أنها ذات مصداقية، لكن في الوقت نفسه هناك شكوك كبيرة حول دورها في التعامل مع القضايا الأكثر تعقيدًا في تركة الحرب.

كما أن الغموض في النظرة المحلية، يرتبط على نحو وثيق بالمشكلة الأوسع المتمثلة في سلطة الزعماء التقليديين التي لحقت بها أضرار كبيرة. أضف إلى ذلك، أن مكانتها تعرضت للخطر بسبب الاستعمار والهجرة إلى المدن ومناورة المؤسسة السياسية الوطنية.

2. 2. 2. المجتمع الدولي

لقد كُتبت القوائم التي تعدد نقاط ضعف آلية العدالة غير الرسمية غالبًا من منظور غربي، فيما يتعلق بسيادة القانون. والتصور العام، هو أن القواعد المرتبطة بها غير دقيقة في كثير من الأحيان وغير مكتوبة، وأن الضمانات الإجرائية غير كافية. اعتبرت هذه الناحية الإجرائية في فجوة الشرعية، في أشكالها الحكومية وغير الحكومية، إشكالية جدًا. إضافة إلى ذلك فإن العديد من اللاعبين على الساحة الدولية مقتنعون بأن هذه الأدوات لا تحترم الواجب، طبقًا للقانون الدولي، بالملاحقة القضائية لجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

لا تزال المناظرة الساخنة حول المشكلة الثانية دون تسوية. يجادل بعض المشاركين بأن مجتمع ما بعد العنف قد يحجم عن واجب الملاحقة القضائية إذا لم يتم تحقيق شروط معينة. العفو العام الشامل غير مقبول. ولذلك، ينبغي لجميع الإستراتيجيات البديلة أن تحتوي بُعد المساءلة. ينبغي على المرتكبين أن يعترفوا وأن يعبروا عن الندم. وينبغي أن يضمن هذا كشف الحقيقة والميل نحو المصالحة. كما ينبغي لإعادة توطين الضحايا أن يكون جزءًا من هذا الإجراء. وأخيرًا، ينبغي أن يشارك الناجون في قرار اللجوء إلى أدوات غير الملاحقة القضائية. ومن هذا المنظور، فإن شرعية الممارسات القائمة على التقاليد تعتمد على مدى تلبية هذه الشروط. تشير المعلومات المجموعة في القسم 1 من هذا الفصل، إلى وجود عناصر مساءلة وقول الحقيقة والتعويض والمصالحة.

إلاّ أن جهات معنية دولية أخرى، لا تعترف بأي استثناءات للواجب الدولي للملاحقة القضائية. المنظمات غير الحكومية الكبيرة مثل هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، أكثر إفصاحًا عن هذا الرأي.

لقد تركز النقاش مؤخرًا، كما هو متوقع، على عملية السلام في شمال أوغندا وتدخّل المحكمة الجنائية الدولية. بعض أولئك الذين يفضلون العفو المشروط، من خلال الطقوس المحلية، فيما يتعلق بقادة جيش الرب للمقاومة يشيرون إلى المادة 53 (1 ج)، (2 ب) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وطبقًا لهؤلاء، فإن المادة توفر فرصة لقبول الممارسات المحلية كبديل. المشكلة، هي أن هذا التفسير يستند إلى فكرة ›مصالح العدالة‹، وهو مفهوم تقني ومنتشر.

في المؤتمر الذي عقد حول “بناء مستقبل قائم على السلام والعدالة” (نورمبيرغ، حزيران/يونيو 2007) طرح الفكرة الجيدة التي تقول، إن الشرعية ليست قضية إشكالية فقط في الآليات القائمة على التقاليد. يعلق التقرير الصادر عن المؤتمر، أنه منذ فترة طويلة جدًا ›اعتبرت المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة قضية الشرعية مسألة مهمة فقط فيما يتعلق بالمجتمع الدولي وليس فيما يتعلق بالمكونات المحلية”. كما يلاحظ، أن المحكمة الجنائية الدولية ›ينبغي أن تردم الفجوة في الشرعية التي يمكن أن توجد فيما يتعلق بالسكان المتأثرين”.

2. 3. الملخص

هل تقدم أدوات تسوية الصراع بين الشعوب الأصلية قيمة مضافة في المراحل الانتقالية؟ الجواب هو “نعم” حذرة. إنها لا تتمتع بالفعالية الكافية، وليس هناك ضمانات محلية ودولية على شرعيتها. إلا أن دراسات الحالات، أظهرت أن الممارسات القائمة على التقاليد يمكن أن تكون مفيدة في المجالات الحاسمة المتمثلة في المساءلة بعد الصراع ومعرفة الحقيقة والمصالحة. وبالتالي، يمكن توقع آثار إيجابية فيما يتعلق بالأهداف الأكثر عمومية للعدالة الانتقالية، والمتمثلة في المعالجة وإصلاح المجتمع.

ليس هناك مكان في العالم الحقيقي جرت بشأنه نقاشات للنماذج الحكومية في العدالة بعد المرحلة الانتقالية كما جرت في شمال أوغندا في سياق اليوم. لقد لخص جيمس لاتيغو، مؤلف دراسة الحالة في هذا الكتاب (الفصل الرابع)، وبشكل مقنع، الدور المحتمل للأدوات التقليدية في تسوية الصراع. “ليس من المفيد تمجيدها بوصفها العلاج الوحيد ولا إهمالها على أنها شيطانية بالنسبة للأشخاص الساعين للمساعدة في إنهاء معاناتهم. من الحكمة الاعتراف بالقدرة الإيجابية للطقوس والمعتقدات التقليدية، ليس بوصفها تتعارض أو تتنافس مع مقاربات أخرى بل بوصفها مكملة لها. ليس من المنطقي كذلك، تجاهل أو إهمال الوسائل التقليدية التي ثبتت فعاليتها في الماضي. ومن ناحية أخرى، فإنها لا يمكن أن توفر العلاج لجميع الشرور”.

في عام 2005، انضمت شبكة محلية من المنظمات غير الحكومية (منتدى مقاطعة غولو للمنظمات غير الحكومية)، والمركز الثقافي للآشولي (كير كوارو آشولي) وأحد المراكز البحثية الكندية (معهد ليو للقضايا العالمية) في جهد مشترك لتلخيص النقاش الجاري. ويخلص التقرير المشترك إلى وجود ثنائية مزدوجة زائفة، تتمثل في المقاربات المحلية مقابل المقاربات الدولية والعدالة مقابل السلام. إن هذ التعارض مضلل، لأن الممارسات التقليدية يجري تعديلها لتتناسب مع الرؤية الغربية للعدالة المنصفة و”في بعض الحالات بدأت مراسم التطهير وغيرها من الطقوس تضع الأساس للعدالة”. إن إزالتها من مجموعة أدوات العدالة الانتقالية ليس خيارًا.

إيرين بينز، التي راقبت على نحو وثيق العديد من المآزق التي تظهر في شمال أوغندا، تكتب: “وهكذا فإن محادثات جوبا تمثل فرصة تاريخية لتحقيق السلام في البلاد؛ كما أنها توفر فرصة فريدة للشروع في التعرف على كيفية جعل المقاربات المحلية للعدالة والمصالحة تسهم في صياغة المقاربات الدولية. وقد يتطلب هذا تعديل بعض أوجه العدالة المحلية التي تحقق المعايير الدولية، لكنه يتطلب أيضًا تعديل الإستراتيجيات الدولية لتتلاءم مع الوقائع الاجتماعية – الثقافية والاقتصادية المحلية”. يذكرنا هذا الرأي بالعديد من التحديات التي تنتظرنا، إذا أراد المعنيون المحليون والدوليون أن يقوموا بجدية بتعديل وتبني الممارسات القائمة على التقاليد في تعاملهم مع تركة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية والقمع. في هذا السياق بالذات، يقدم الجزء 3 من هذا الفصل قائمة أولية بالتوصيات.

3. توصيات في مجال السياسات

حتى الآن، كان هذا الفصل وصفيًا. إلاّ أن هذا الكتاب يهدف أيضًا إلى تقديم طرق يمكن من خلالها تحسين أداء الممارسات القائمة على التقاليد في سياق مجتمعات ما بعد الصراع. توصيات السياسات الآتية تركز على هذا الطموح. كذلك فإن نطاق هذه التوصيات محدود، حيث إنها تستند إلى خمس دراسات حالات تغطي جزءًا واحدًا من قارة واحدة. رغم ذلك، فإننا نأمل بأنها ستسهل عملية اتخاذ القرار في مجال العدالة خلال وبعد عملية الانتقال السياسي.

إن الهندسة الاجتماعية في هذا المجال عملية معقدة. ينبغي أن تهدف إلى تعزيز، وعندما يكون ذلك ممكنًا، زيادة نقاط قوة ممارسات العدالة والمصالحة بين السكان الأصليين. ينبغي أن تستغل الفرص الموجودة، مثل الاهتمام المتنامي بهذه الأدوات. وينبغي السعي للحصول على أجوبة للمشاكل المتعلقة بكيفية التغلب على نواقصها ونقاط ضعفها الحالية إلى أكبر درجة ممكنة. إضافة إلى ذلك، فإن جميع بلدان ما بعد الصراع تقريبًا تجمع الأدوات التقليدية مع إستراتيجيات أخرى في التعامل مع تركة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية؛ وهذا بدوره يطرح أسئلة صعبة. كيف يمكن، وكيف ينبغي، لهذه الإستراتيجيات

أن تتفاعل؟ بشكل خاص، كيف يمكن للممارسات الشخصية وتلك القائمة في المجتمعات المحلية أن تعيش جنبًا إلى جنب مع الأشكال التي تنظمها الدولة و/أو المنظمات الدولية للعدالة الجزائية ومعرفة الحقيقة؟

باختصار، فإن تحدي إدماج آليات العدالة الانتقالية في إستراتيجيات العدالة الانتقالية والمصالحة الأوسع تتطلب الخيال، إجراء مشاورات موسعة، بناء الإجماع وبناء القدرات، الدعم التقني، وإجراء البحوث والوقت. لقد وضعنا قائمتنا بالتوصيات على أنها خطوة واحدة في تلك العملية المعقدة.

3. 1. قواعد عامة

1. في أعقاب تغيير النظام أو الحرب الأهلية، لا ينبغي قصر المقاربة والإجراءات المتبعة على “إعادة البناء الصلبة” (الاستقرار الاقتصادي، نزع السلاح وتفكيك المجموعات المسلحة، وإصلاح القطاع الأمني وما إلى ذلك)، بل ينبغي إعطاء الاهتمام الكافي لجملة من اجراءات “إعادة البناء الناعم” المتوافرة (العدالة التصالحية من خلال الممارسات غير الرسمية، البرامج التي تستهدف الناجين والمصالحة واستعادة السلطات التقليدية المحلية).

2. عند تبنّي أو تشجيع الآليات والممارسات القائمة على التقاليد، كجزء من إستراتيجية عدالة انتقالية وطنية شاملة، ينبغي مثاليًا أن تستخدم كأدوات مكملة للهيكليات القضائية الرسمية وليس إدخالها تحت سيطرة الدولة.

3. ينبغي تطوير واستخدام مبادرات تعكس النزعة الأوسع لتصور عام “للتعامل مع الماضي”، كجزء لا يتجزأ ولا غنى عنه في أية عملية تفاوض لتحقيق السلام.

4. ينبغي إيجاد روابط وثيقة بين أدوات العدالة الانتقالية والتحديات الأوسع للحكم والتحول الديمقراطي.

5. ينبغي الانتباه إلى التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والدولية التي تلعب دورًا في اتخاذ القرارات، فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية بشكل عام والممارسات القائمة على التقاليد بشكل خاص.

6. ينبغي تطوير وتنفيذ إصلاحات سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تعالج الأسباب الجوهرية للصراعات التي تتسبب في العنف المفرط أو التي أدت إلى ذلك في الماضي.

7. تخصيص ما يكفي من الوقت والجهد لإجراء تقييم حذر وسياقي للبحث في أفضل طريقة لمزج الإستراتيجيات الحكومية وغير الحكومية المختلفة والمتاحة في العدالة والمصالحة. كما ينبغي فهم واستغلال جميع المقاربات المختارة بوسائل تجعلها تكمل بعضها بعضًا وبشكل منسق، بدلًا من أن تعمل ضد بعضها البعض.

8. ينبغي فهم المرحلة، بمعنى القيام بقراءة تفصيلية وكاملة للقوى التي تمارس نفوذا،ً سواء على الأجندة الانتقالية بمجملها أو على خيارات سياسات العدالة الانتقالية المحددة.

9. ينبغي القبول بالحاجة لإجراءات مؤقتة، إذا كان من المستحيل التخطيط لسياسات العدالة والمصالحة، وتنفيذها مباشرة بعد المرحلة الانتقالية. في السياقات التي تكون فيها هذه السياسات متاحة، ينبغي دعم دور الآليات القائمة على التقاليد بصفتها بديلًا لا يستغنى عنه على المدى القصير.

10. ينبغي الانتباه في الوقت نفسه إلى أهمية الإجراءات المصممة لإحداث الأثر على المدى البعيد.

11. ينبغي جعل الامتلاك المحلي للسياسات والإستراتيجيات هو القاعدة.

12. ينبغي إعطاء الأولوية لمصالح ووجهات نظر المجموعات الأكثر هشاشة من السكان (الأطفال، المهجرين داخليًا واللاجئين).

13. ينبغي منح الناجين والإناث من ضحايا الحروب فرصًا تكميلية، من شأنها أن تمنحهم صوتًا ونفوذًا في الصياغة الكلية للسياسات في مرحلة ما بعد الصراع.

14. وضع أجندة سياسية تستند إلى المعارف الاجتماعية – الثقافية المحلية والدولية لمعالجة التحيز الجنسي في العديد من الممارسات القائمة على التقاليد.

3. 2. للمعنيين المحليين

15. ينبغي إطلاق مبادرات مصممة لتعزيز العدالة الإجرائية للآليات التقليدية لتسوية النزاعات والصراعات.

16. ينبغي الانخراط في الجهود لتحسيس المفوضية الأفريقية والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وغيرها من الهيئات الإقليمية المعنية بالحاجة للاعتراف بدور التقنيات الأصلية في إدارة الصراع وتحديثها.

17. ينبغي تكثيف الجهود لتعزيز الوعي وفهم دور آليات العدالة والمصالحة التقليدية بين الوكالات الدولية بشكل عام، والمنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان بشكل خاص. في هذا السياق، ينبغي التأكيد على درجة الحقيقة والمساءلة والتعويض التي يمكن أن تقدمها، وعلى فعاليتها النسبية وشرعيتها بالمقارنة مع أدوات العدالة (الجنائية) “الرسمية” الكلاسيكية.

18. ينبغي زيادة المشاورات الموسعة مع الشرائح المعنية (بما في ذلك مخيمات المهجرين والبيئات الحضرية) حول خيار سياسات العدالة الانتقالية بشكل عام، واستخدام الممارسات القائمة على التقاليد بشكل خاص.

19. ينبغي توفير الفضاءات الاجتماعية، حيث يمكن للضحايا والمرتكبين الاجتماع لمعالجة مظالمهم وصراعاتهم المتعلقة بالحرب.

20. ينبغي بذل المحاولات لضمان ألاّ يكون الدور الذي تلعبه الآليات التقليدية في تسوية النزاعات “العادية” مرتبطًا بشكل مباشر بتركة الصراع العنيف، وضمان عدم تقويض فعاليتها من خلال تعديلها جذريًا لتتناسب مع غايات العدالة الانتقالية دون إجراء المشاورات المحلية المسبقة المناسبة.

21. ينبغي تطوير إستراتيجية تواصل تهدف إلى المساعدة على استعادة سلطة ونزاهة الزعماء التقليديين، و/أو آليات العدالة والمصالحة التقليدية التي يمكن أن تكون قد فقدتها في أوساط مجتمعاتها المحلية خلال فترة الصراع.

22. مع استعداد اللاجئين والمهجرين داخليًا للعودة إلى أماكن سكنهم الأصلية، ينبغي السعي لإعادة إحياء الخصائص الجوهرية لآليات العدالة والمصالحة التقليدية (على سبيل المثال التعليم الذي يتم تلقيه في المنزل وفي المجتمع المحلي، من خلال التعاليم المرتبطة بالطقوس المستخدمة).

23. ينبغي الانتباه إلى حقيقة أن الناجين غالبًا ما يجلبون معهم صراعاتهم المرتبطة بالحرب الأهلية، والتي لم تتم تسويتها (النزاعات على الممتلكات والعنف الزوجي) إلى المحاكم التقليدية غير الرسمية. ينبغي تطوير برامج تدريب للقضاة المحليين والزعماء التقليديين والمعالجين حول المبادئ الأساسية للعدالة

الانتقالية. كما ينبغي إشراك المجتمع الدولي في توفير التمويل والمساعدة التقنية لهذه البرامج.

3. 3. للمعنيين الدوليين

3. 3. 1. قواعد عامة

24. ينبغي احترام “قواعد الانخراط” الآتية: معرفة القوى السياسية والثقافية والتاريخية العاملة في المجتمع الانتقالي؛ والقبول بأن عملية التعافي بعد الصراع ينبغي أن تكون ›مملوكة‹ محليًا في المقام الأول؛ وينبغي إظهار الحساسية لقضايا مثل التوقيت والإيقاع المناسبين للتدخلات الخارجية الهادفة لدعم مثل تلك العمليات.

25. الاستمرار في برامج التعليم والتواصل التي تعزز الفهم المحلي والدولي، على حد سواء، للنطاق الكامل للإستراتيجيات المتاحة للعدالة الانتقالية.

26. الأخذ بعين الاعتبار الحاجة الملحة للتنسيق بين الوكالات والمنظمات في وضع برامج ما بعد الصراع. إن غياب هيكلية أو إطار واضح لتنسيق البرامج والإجراءات المتخذة على الأرض، يمكن في أحسن الأحوال أن يعقد أثرها، وفي أسوأها أن يقوضها كليًا.

27. معرفة المزيد حول نطاق الآليات والممارسات التقليدية المتوافرة في سياقات محددة في مراحل ما بعد الصراع. يمكن لهذه المعرفة أن تسهم في تسهيل تطبيق معايير وأعراف القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي، مع إبداء الحساسية للسياق المعني.

28. عند تيسير وضع الأجندة الإصلاحية لجهاز العدالة، ينبغي الانتباه بشكل كاف لوجود المؤسسات الأصلية العاملة خارج إطار الدولة. كما ينبغي تيسير إعداد مراجعة لقطاع العدالة غير الرسمي.

29. ينبغي إقامة برامج مباشرة لبناء القدرات في مجال العدالة الانتقالية بشكل عام، والدور المحتمل للآليات والممارسات التقليدية بشكل خاص، بغية طرح مبادرات للتواصل بين جنوب – جنوب وتبادل الخبرات.

30. تشجيع إجراء مراقبة خارجية تستند إلى مراجعة النظراء للممارسات القائمة على التقاليد.

3. 3. 2. للأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية

31. ينبغي إعادة هيكلة البرامج المدعومة دوليًا لقطاع العدالة في بلدان ما بعد الصراع، على سبيل المثال، تلك التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان والبنك الدولي، بطرق تفضي إلى إدماج قطاع العدالة غير الرسمي. تطبيق نفس المقاربة على أعمال مراقبة وتقييم قطاع العدالة.

32. ينبغي دراسة تأسيس لجنة دولية من الخبراء مهمتها توضيح (أ) بشكل عام، كيفية تحقيق اعتراف أفضل بآليات العدالة والمصالحة التقليدية بموجب القانون الدولي، من حيث إسهامها في الوصول إلى الحق بمعرفة الحقيقة، والواجب بالملاحقة القضائية والحق بالتعويض؛ (ب) وبشكل خاص، كيف أن فكرة ›مصالح العدالة‹، كما يعرّفها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يمكن أن يستوعب هذه المساهمة الهامة بالمسعى الدولي لمعرفة الحقيقة، وتحقيق العدالة والمصالحة.

3. 3. 3. للبلدان والمنظمات الدولية غير الحكومية

33. ينبغي جمع المعلومات المتعلقة بالأثر الفعلي والمحتمل لآليات العدالة والمصالحة التقليدية، التي ستفضي إلى تحليل الحد الأدنى للتكلفة مقابل المنفعة، واتخاذ قرارات في التمويل تستند إلى معايير الفعالية المقارنة والشرعية. لا يزال هناك حاجة لإجراء المزيد من الأبحاث في هذا المجال؛ وينبغي أن تحصل هذه الأبحاث على مزيد من دعم المانحين في المستقبل.

34. ينبغي تقديم الدعم المالي واللوجستي للجهود التي تبذلها بلدان ما بعد الصراع، لزيادة نقاط القوة الفعلية للممارسات الأصلية للعدالة والمصالحة والتغلب على نواقصها ونقاط ضعفها الحالية.

3. 4. أخيرًا

35. إن السياقات والأوضاع المحلية تتفاوت. ينبغي ›ترجمة‹ هذه التوصيات بقراءتها من منظور الحالة موضع الدراسة، وكذلك الأخذ بعين الاعتبار معايير مثل المرحلة الراهنة من الصراع (مستمر أو انتهى)؛ درجة تدويل الصراع؛ طبيعة تركة العنف؛ نمط المرحلة الانتقالية؛ ودرجة شرعية العدالة القائمة على التقاليد وممارسات المصالحة.

المراجع

Baines, Erin K., ‘The Haunting of Alice: Local Approaches to Justice and Reconciliation in Northern Uganda’, International Journal of Transitional Justice, vol. 1 (2007), pp. 91–114

Baines, Erin et al., ‘Roco Wat I Acholi. Restoring Relationships in Acholi-land: Traditional Approaches to Justice and Reconciliation’, Vancouver and Gulu: Liu Institute for Global Issues, Gulu District NGO Forum and Ker Kwaro Acholi, September 2005, available on the Liu Institute for Global Issues website, <http://www.ligi.ubc.ca>

Building a Future on Peace and Justice: Report on Major Findings of the Workshops, Nuremberg, 25–27 June 2007, <http://www.peace-justice-conference.info/download Zeid_Synthesis.pdf>

Penal Reform International (PRI), Access to Justice in Sub-Saharan Africa: The Role of Traditional and Informal Justice Systems (London: PRI, 2002)

نبذة عن المؤلفين:

جو آ. د. آلي أستاذ مساعد في التاريخ وعميد كلية الآداب، كلية فوراه باي، جامعة سيراليون. يحمل بكلوريوس(بدرجة الشرف) وماجستير في التاريخ من جامعة سيراليون، ودكتوراه في التاريخ الأفريقي وشهادة في الدراسات الأفريقية من جامعة ويسكونسن في ماديسون، الولايات المتحدة الأميركية. الدكتور آلي أحد أبرز كتّاب النصوص المدرسية في سيراليون، ومن ضمن أعماله المنشورة: A New History of Sierra Leone, Sierra Leone Since Independence: History of a Post-Colonial State and A Concise Guide to Writing College and Research Papers. كما نشر العديد من المقالات في دوريات محكمة.

بياتريس دياس-لامبرانكا حصلت على درجة الماجستير في الفلسفة وتعليم اللغة الفرنسية من جامعة روين، فرنسا. أجرت بحوثًا ميدانية موسعة على الحياة الاجتماعية للنساء الناجيات من الحرب الأهلية في

وسط موزمبيق.

لوك هويسه يحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والاجتماعية. حتى تقاعده عام 2000، كان أستاذًا لعلم اجتماع القانون في كلية الحقوق جامعة لوفن، بلجيكا. لقد كتب ودرّس، بشكل واسع، باللغات الهولندية والإنكليزية والفرنسية حول الأبعاد المختلفة للعدالة بعد المراحل الانتقالية )في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي المراحل الانتقالية ما بعد الشيوعية في شرق ووسط أوروبا وفي أفريقيا(. وقد عمل استشاريًا لحكومات ومنظمات غير حكومية في بوروندي وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وزمبابوي، وعمل رئيس تحرير مشارك لكتاب : Reconciliation After Violent Conflict: A Handbook (Stockholm). 2003, International IDEA

فيكتور أغريجا زميل في المعهد الهولندي للدراسات المتقدمة في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية NIAS. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايدن، هولندا، حول التقاطعات بين الأنثروبولوجيا الطبية والقانونية. يركز بحثه، متعدد الاختصاصات، على التبعات بعيدة المدى للحرب الأهلية في موزمبيق وتوافر الموارد المحلية للانخراط في المصالحة والعدالة والمعالجة في مرحلة ما بعد الحرب.

بيرت إنغليير درس الفلسفة والأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في الجامعة الكاثوليكية في لوفن، بلجيكا. عمل استشاريًا لدى البنك الدولي في رواندا والصين، ويجري حاليًا أبحاثًا حول تجربة وتصور العمليات الانتقالية والعدلة الانتقالية على المستوى المحلي في رواندا وبوروندي. تمول أبحاثه من قبل مؤسسة فلاندرز للأبحاث، ويستضيفه معهد سياسات وإدارة التنمية ومركز أبحاث السلام والدراسات الإستراتيجية في الجامعة الكاثوليكية في لوفن.

جيمس أوجيرا لاتيغو زميل باحث في معهد ماركوس غاردي لعموم أفريقيا وزميل في المركز الدولي للعدالة الانتقالية. عمل سابقًا مديرًا لمبادرة السلام في شمال أوغندا الممولة من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهو الآن مدير برنامج مجلس الذاكرة التاريخية والمصالحة في أوغندا، ويشغل منصب أمين لجنة المصالحة الوطنية في المجلس، وينشط في إجراء البحوث على المعارف والثقافة الأفريقية الأصلية.

أسومبتا نانيوي-كابوراهي نائب رئيس المجلس الوطني للباشينغانتاهي. وهي نشطة في المعركة من أجل توسيع حقوق النساء وإدماجهن بشكل أكثر فعالية في الباشينغانتاهي. تعمل أستاذة جامعية واستشارية مستقلة مع عدد من المنظمات الدولية. لقد ركزت أبحاثها على الظروف الاقتصادية للنساء والأطفال كضحايا لعنف الحرب. وتشارك الآن في عملية صنع السلام في بوروندي كمسؤولة عن برنامج النوع الاجتماعي في مكتب الأمم المتحدة المحلي.

مارك سولتر، مدير مشروع هذا الكتاب، وهو مسؤول برامج رفيع المستوى في وحدة تقييم وتحليل الديمقراطية في المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات. وقد أدار سابقًا عمل المؤسسة حول قضايا المصالحة في عدة مناطق، بما في ذلك جنوب آسيا، غرب أفريقيا، أميركا اللاتينية، وغرب البلقان. عمل سابقًا مديرًا للتواصل في معهد الحياة والسلام في أوبسالا، السويد. في عام 2006 أطلق عملية تأسيس شبكة موارد المصالحة، وهي موقع للموارد والاجتماعات على الإنترنت للمجتمع العالمي لصناع سياسات المصالحة والعاملين في هذا المجال.

——————

(*) منشورات المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات

(*) نٌشر بإذن خاص من المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات

https://bit.ly/3S9NZKj

المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات
المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات
المقالات: 1