تقرير مشروع بحثي
الفهرس
موجز تنفيذي
مقدمة
1. الإبادة الجماعية في رواندا: جذور الصراع والبحث عن المصالحة الوطنية
- 1. السياق التاريخي للصراع والإبادة الجماعية في رواندا
- 2. الوضع بعد الإبادة الجماعية والحاجة إلى المصالحة الوطنية
2. آليات المصالحة الوطنية وعملياتها في رواندا
2. 1. الحكم الديمقراطي: حكومة الوحدة الوطنية
2. 2. عودة اللاجئين إلى وطنهم وإعادة إدماجهم
2. 3. الإدماج العسكري
2. 4. الإصلاحات الدستورية والقانونية وسياسة الوحدة الوطنية والمصالحة
2. 5. اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة
2. 6. الرفاه الاجتماعي الاقتصادي
2. 7. محاكم غاشاشا: العدالة المجتمعية
الخلاصة
المراجع
—
موجز تنفيذي
يحفل تاريخ رواندا بالاضطرابات. تميّزت حقبات ما قبل الاستعمار والاستعمار وما بعد الاستعمار بالصراع على السلطة والعنف بين شعبيْ الهوتو والتوتسي. قبل الاستعمار، حكم التوتسي طبقة العمّال المستعبدة من الهوتو، ثم فاقمت القوى الاستعمارية الانقسامات بين المجموعتين من خلال تعزيز استغلال التوتسي للهوتو. وفي عام 1959، أطاحت ثورة الهوتو بالتوتسي وحصلت رواندا على استقلالها في عام 1962 وأصبحت جمهورية بقيادة الهوتو. وأسفرت هذه التوترات عن حرب أهلية (1990-1994) بين حكومة الهوتو والجبهة الوطنية الرواندية التي يقودها التوتسي، وبلغ الصراع ذروته بارتكاب إبادة جماعية استهدفت بشكل خاص التوتسي، بين شهريْ أبريل ويوليو من عام 1994. وهزمت الجبهة الوطنية الرواندية حكومة الهوتو ووضعت بالتالي حدًّا للإبادة الجماعية.
انتصرت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي واستولت على السلطة في يوليو 1994، في بلد حلّ به الدمار. وخلّفت هذه المأساة مجتمعًا منقسمًا تعرّض لصدمة شديدة وبلدًا صُنِّف دولة منهارة. واضطلعت حكومة ما بعد الإبادة الجماعية بمهمة إعادة البناء، الطارئة وإنما الصعبة، لتحقيق الوحدة والمصالحة.
لقد مرّت سبعة وعشرون عامًا منذ انطلقت رواندا، بقيادة الجبهة الوطنية الرواندية، في رحلتها إلى تحقيق المصالحة الوطنية. وترأست الحكومة هذه العملية بالتشاور مع نخب من مناحي الحياة كافة – شملت أعضاء الأحزاب السياسية وكبار القادة الوطنيين وأكاديميين ورجال أعمال وشركاء في التنمية وأفراد من المجتمع المدني.
وبهدف تعزيز المصالحة الوطنية، فضّلت رواندا العمليات والآليات المحلية التي جمعت بين النُهج الشمولية والمحلية القائمة على الثقافة وشملت استجابات قضائية وغير قضائية وقائية وتفاعلية. وشكّلت محاكم غاشاشا القائمة على المجتمع المحلي واللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة الأدوات الأساسية. وتمحورت في المقام الأول الآليات المعتمدة كافة حول الحكومة وانطوت على المشاركة الفردية والمجتمعية الإلزامية. وأُدرجت هذه الآليات في عمليات التيسير التي قامت على تشكيل حكومة شمولية، والإدماج العسكري، وإعادة اللاجئين إلى وطنهم، والإصلاحات الدستورية والقانونية، وبرامج الرعاية الاجتماعية الاقتصادية.
ما زال المجتمع الرواندي في مرحلة التعافي، ولعبت في الواقع ثقافته دورًا هامًا في تسهيل إنشاء آليات مساعدة وضعت أساسًا متينًا للمصالحة الوطنية. لقد أُحرز تقدم على مسار تحقيق الوحدة والمصالحة في البلاد وإعادة إحياء الكرامة الإنسانية والقيم الرواندية. ومع ذلك، تواجه العملية عوائق ما زالت سائدة في المجتمع ناجمة عن إيديولوجية الإبادة الجماعية والتنميط العرقي والجروح النفسية والجسدية التي لم تلتئم بعد والفقر وغياب سياسة التعويض. وطالت الانتقادات الرئيسية على وجه الخصوص الانتقائية في عملية معالجة ظلم الماضي، إذ اقتصرت على الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحكومة المهزومة وأهملت الجرائم التي ارتكبتها الجبهة الوطنية الرواندية.
بناءً على تجربة رواندا في مجال المصالحة الوطنية، قد تساعد الدروس التالية البلدان التي شهدت صراعات عنيفة واسعة النطاق. أولًا، تضطلع الدولة بمسؤولية تمهيد الطريق أمام المصالحة الوطنية وتعزيزها. ثانيًا، تتطلب المصالحة الناجحة تضافر الجهود التي تبذلها الحكومة والجهات الفاعلة غير الحكومية، ويعتمد نجاحها على استخدام آليات ترتكز على سياق المجتمع وثقافته وتقاليده وعاداته. ثالثًا، يتطلب نجاح المبادرات المعتمدة آلية إدماج وتنسيق. رابعًا، المصالحة الناجحة يجب أن تكون شاملة وغير انتقائية. وأخيرًا، من الضروري تتبع تقدم المصالحة بانتظام من أجل مراجعة الآليات والعمليات أو وضع آليات وعمليات جديدة، عند مواجهة أي تحديات قائمة.
مقدمة
عرفت رواندا تاريخًا مضطربًا في حقبات ما قبل الاستعمار والاستعمار وما بعد الاستعمار، لطالما ارتبط فيه العرق بالسياسة ارتباطًا وثيقًا. تسببت الكراهية وما رافقها من صراع على السلطة بين شعبيْ الهوتو والتوتسي باندلاع فصول دورية من العنف بلغت ذروتها بين شهريْ أبريل ويوليو 1994 بارتكاب إبادة جماعية هي من الأكثر وحشية وفتكًا في التاريخ، واستهدفت في المقام الأول شعب التوتسي وقُدِّر عدد ضحاياها بحوالي مليون قتيل.
حصلت الإبادة الجماعية أيضًا في خلال الحرب الأهلية التي استمرت على مدى أربع سنوات (1990-1994) بين حكومة الهوتو برئاسة جوفينال هابياريمانا والجبهة الوطنية الرواندية التوتسية بقيادة بول كاغامي. لم تحل اتفاقية السلام التي وقّعها الطرفان المتحاربان في أغسطس 1993 دون ارتكاب الإبادة الجماعية التي أشعل فتيلها اغتيال الرئيس هابياريمانا من إثنية الهوتو، وقضت بالتالي على اتفاقات السلام وأعادت إشعال الحرب الأهلية. وفي النهاية، هزمت الجبهة الوطنية الرواندية حكومة الهوتو ووضعت حدًا للإبادة الجماعية.
انتصرت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي واستولت على السلطة في يوليو 1994، في بلد حلّ به الدمار. لقد دمرت الحرب الأهلية والإبادة الجماعية النسيج السياسي والاجتماعي الاقتصادي في رواندا، وفقد الناس ثقتهم بالحكومة والمؤسسات الدينية ووسائل الإعلام والجيش والشرطة، إذ تورطت جميعها في الإبادة الجماعية. وخلّفت هذه المأساة مجتمعًا منقسمًا تعرّض لصدمة شديدة وبلدًا صُنِّف دولة منهارة. واضطلعت حكومة ما بعد الإبادة الجماعية بمهمة طارئة وإنما صعبة انطوت على إعادة بناء مجتمع يعاني من الصدمة 1 لتحقيق الوحدة والمصالحة.
انقضت سبعة وعشرون عامًا منذ انطلقت رواندا، بقيادة الجبهة الوطنية الرواندية، في رحلتها إلى تحقيق الوحدة والمصالحة. وتهدف ورقة المعلومات الأساسية هذه إلى تقديم تحليل سياقي لتجربة رواندا في مجال المصالحة الوطنية من خلال الإجابة على أربعة أسئلة متداخلة ومترابطة: (1) ما النتائج التي أسفرت عنها المصالحة الوطنية في رواندا ولماذا شكّلت خطوة ضرورية؟ (2) وما الآليات التي وُضعت لتعزيز المصالحة الوطنية في رواندا، ولماذا ومن وضعها، وكيف نُفِّذت الآليات المعتمدة؟ (3) وما هي إنجازات الآليات المعتمدة وتحدياتها؟ (4) وما هي الدروس السياسية والاجتماعية التي يمكن استخلاصها من تجربة رواندا في المصالحة الوطنية؟(1)
للإجابة على الأسئلة المطروحة أعلاه، يستعرض القسم الأول من الورقة تاريخ النزاع والإبادة الجماعية في رواندا بإيجاز ويتناول النظرة إلى المصالحة الوطنية كأساس لبقاء البلاد. ويعرض القسم الثاني الآليات التي وضعتها حكومة ما بعد الإبادة الجماعية وتفضيلها للعمليات المحلية التي جمعت بين النُهج الشمولية وتلك القائمة على الثقافة التي تنطوي على مشاركة مجتمعية إلزامية. أما القسم الأخير والختامي فيستعرض الإنجازات الرئيسية التي حققتها رواندا وأبرز التحديات التي واجهتها على مسار المصالحة الوطنية، ونلفت إلى أن هذه العملية ما زالت طويلة ومعقدة ومتقلبة. ويقدّم هذا القسم أيضًا دروسًا للبلدان الأخرى الخارجة من النزاعات، ويشدد بشكل خاص على الجهود المتضافرة التي تتطلبها المصالحة الوطنية الناجحة والتي تبذلها الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية في إطار استغلال الثقافة الملائمة للبلد.
تعتمد الورقة البحثية من الناحية المنهجية على تحليل الوثائق. وتضمنت العملية دراسة دقيقة للوثائق الرواندية ذات الصلة المتعلقة بالمصالحة الوطنية تحليل المحتوى . وشملت المواد الهامة الوثائق السياسية والقانونية، والبرامج الوطنية، والاستراتيجيات والتقارير السنوية، وتقارير التقييم، بالإضافة إلى تقارير بحثية أخرى وبخاصة المنشورات التي راجعها الأقران.
1. الإبادة الجماعية في رواندا: جذور الصراع والبحث عن المصالحة الوطنية
1. 1. السياق التاريخي للصراع والإبادة الجماعية في رواندا
يحفل تاريخ رواندا بتمازج امتد على قرون بين ثلاث فئات إثنية: غالبية من الهوتو وهم من المزارعين 85%، وأقليات من التوتسي وهم من مربي الماشية/ الرعاة 14%، ومجموعة صغيرة من التوا وهم من الصيادين الجامعين والخزّافين 1%(2) وتجدر الإشارة إلى أن الصراعات وقعت دائمًا بين التوتسي والهوتو وتعرّضت مجموعات مثل التوا للتهميش. في ظل النظام الملكي، يكشف تاريخ رواندا قبل الاستعمار عن حروب متعاقبة استمرت على مدى قرون بين القبائل، واتساع الطبقة الحاكمة التوتسي وهيمنتها على طبقة العمال المستغَلين (الهوتو).
رسّخت القوى الاستعمارية الانقسام والكراهية بين التوتسي والهوتو من خلال اعتماد استراتيجية “فرق تسد”.
استعمرت ألمانيا رواندا في عام 1885، ثم أصبحت المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى إقليمًا خاضعًا للوصاية البلجيكية. وأدخل المستعمرون البلجيكيون تغييرات هيكلية إلى العلاقات بين الهوتو والتوتسي أدّت إلى تعزيز هيمنة التوتسي واستغلالهم للهوتو، وزاد ذلك من عدائية الهوتو تجاه التوتسي. ومنحت الإدارة البلجيكية التوتسي وضعًا شبيهًا بالوضع الأوروبي وأعلنت تفوقهم فكريًا على الهوتو. وأدى تفضيل الإدارة الاستعمارية البلجيكية للنخبة من التوتسي إلى استخدامها كمديرة لسياساتها القاسية، فازداد الاستغلال الذي تعرض له الهوتو وازداد امتعاضهم – ليس من أسيادهم المستعمرين، وإنما من نظام التوتسي الملكي.
تغير الوضع في خمسينيات القرن الماضي عندما دخلت نخبة التوتسي في حرب ضد المستعمرين البلجيكيين مطالبة بالاستقلال، فدعم البلجيكيون الهوتو في تحول سياسي فاضح. وفي عام 1959، تمرد الهوتو ضد نظام التوتسي الملكي وأطلقوا شرارة “الثورة الاجتماعية”. ونجحت الثورة بطرد التوتسي من السلطة وأُلغي النظام الملكي التوتسي وذهب عديد من أفراد نخبة التوتسي إلى المنفى(3).
حصلت رواندا على استقلالها في عام 1962(4) وأصبحت جمهورية بقيادة الهوتو. وحافظت حكومتا الهوتو المتعاقبتان على نظام الهوية العرقية الذي وضعه البلجيكيون واعتمدتا سياسة التمييز ضد الأقلية من التوتسي التي بقيت في البلاد، في خطوة انتقامية نتجت عن سنوات من الخضوع والاستغلال في عهد الحكم البلجيكي/التوتسي. وهمّشت حكومتا الهوتو التوتسي عن طريق نظام حصص الأغلبية والأقلية في وظائف القطاع العام وفي المدارس.
وفي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، واجهت رواندا المكتظة بالسكان أزمة اقتصادية ترافقت مع نظام الهوتو السياسي الشديد الاستبداد والمطالبة بنظام متعدد الأحزاب. وشكّل التوتسي المنفيون وأولادهم الجبهة الوطنية الرواندية، واجتاحوا رواندا من أوغندا في 1 أكتوبر 1990، وأعادوا إلى الذاكرة الاستغلال والإخضاع الذي تعرّض له الهوتو في ظل هيمنة التوتسي. وسعت حكومة الهوتو إلى التصدي لغزو التوتسي من خلال تكثيف العدائية العرقية والدعاية ضد التوتسي.
بعد عام 1992، وُقّعت سلسلة من اتفاقات وقف إطلاق النار وعُقدت محادثات سلام في فرنسا ودول أفريقية معنية أخرى. وأفضى ذلك إلى توقيع اتفاق أروشا للسلام(5) في 4 أغسطس 1993 بين حكومة رواندا والجبهة الوطنية الرواندية. ولكن مفاوضات أروشا شكّلت خير مثال على فشل حلّ النزاع. لقد اعتُبرت آنذاك عملية السلام هذه حلاً ناجحًا ومثاليًا للنزاع على الورق ليس إلا. وهدفت هذه الاتفاقات إلى إنهاء الصراع المسلح وإلى تتويج عملية تحقيق الديمقراطية الداخلية في آن.
اغتيل الرئيس جوفينال هابياريمانا، وهو من إثنية الهوتو، في 6 أبريل 1994، في حين تأجل مرارًا وتكرارًا تنفيذ اتفاقات أروشا للسلام وتشكيل حكومة جديدة تضم أعضاء من الجبهة الوطنية الرواندية والمعارضة الوطنية. وأدى ذلك إلى ارتكاب الإبادة الجماعية واشتعال الحرب الأهلية مجددًا بين الجبهة الوطنية الرواندية والقوات المسلحة التابعة للحكومة الرواندية. حصدت الإبادة الجماعية أكثر من مليون ضحية(6)، معظمهم من التوتسي الذين كانوا يعيشون في البلاد، فض عن أفراد المعارضة من الهوتو، والمعترضين على الإبادة الجماعية أو الذين حموا التوتسي. وساهم التأخير في نشر بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا، بالإضافة إلى تكثيف الاستقطاب العرقي في حقبة ما بعد أروشا، في انهيار الاتفاقات وارتكاب الإبادة الجماعية. لم يتدخل المجتمع الدولي على الرغم من الأدلة التي أثبتت الإبادة الجماعية المخطط لها، وخفضت الأمم المتحدة عديد قوات حفظ السلام بعد مقتل عشرة من جنود حفظ السلام البلجيكيين. واستؤنفت الحرب الأهلية وانتهت بانتصار الجبهة الوطنية الرواندية التي وضعت حدًا للإبادة الجماعية.
وفرّ أعضاء الحكومة المهزومة إلى جمهورية زائير السابقة وتنزانيا ودول أخرى، وكذلك فعل حوالى مليوني مدني من الهوتو، وعاد حوالى خمس مئة ألف من التوتسي المنفيين إلى رواندا. وشكّلت الجبهة الوطنية الرواندية التي يطغى عليها التوتسي حكومة جديدة في 19 يوليو 1994، برئاسة بول كاغامي.
1. 2. الوضع بعد الإبادة الجماعية والحاجة إلى المصالحة الوطنية
عندما استولت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي على السلطة، كانت رواندا قد صُنِّفت دولة منهارة. فقد تعرضت البنية التحتية بأكملها، من المدارس والمستشفيات إلى المصانع والدوائر الحكومية، للدمار أو النهب شبه التام. وانهارت قدرة الحكومة الإدارية إذ قُتل موظفو الدولة أو فروا إلى المنفى. وتشرد السكان كافة بعدما فروا إلى البلدان المجاورة أو نزحوا داخليًا.
انهار النظام العام بالكامل، وزالت وكالات إنفاذ القانون والمؤسسات القضائية الوطنية عن الوجود، وتوقف نظام العدالة عن العمل. وتقوّضت مصداقية الدولة نفسها إذ شاركت معظم المؤسسات (المؤسسات العامة والجيش والشرطة) ومعظم المجتمع المدني أيضًا الكنائس والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام في الإبادة الجماعية.
أُصيب المواطنون بالصدمة واليأس. مر التوتسي الذين عاشوا في رواندا بتجارب مؤلمة للغاية وشعروا أن المصالحة صعبة جدًا، وعاش الآخرون الذين عادوا من المنفى بعد الإبادة الجماعية تجارب صعبة ومؤلمة أيضًا. فقد غادر هؤلاء أو آباؤهم رواندا بعد المذابح السابقة ثم عادوا إلى بلد مدمَّر. ولكن أدرك الكثيرون منهم أن الأمل الوحيد في بناء مجتمع فعال يكمن في المصالحة(7).
واجهت بالتالي حكومة ما بعد الإبادة الجماعية تحدي إعادة بناء النسيج السياسي والاجتماعي الاقتصادي في البلاد وتحقيق المصالحة الوطنية. وفي إطار التعامل مع إرث الإبادة الجماعية والحرب الأهلية، “لم تشكّل الوحدة الوطنية والمصالحة بديلاً، بل الخيار الوحيد للبقاء”، على حد تعبير الحكومة الجديدة(8).
في الواقع، اندرج هدف المصالحة بالنسبة للحكومة في إطار السياسة الوطنية للتنمية المستقبلية في البلاد. وتحقيقًا لهذه الغاية، حفّز بشكل أساسي عملية إعادة الإعمار بعد الإبادة الجماعية توقعان: (1) إنشاء دولة قادرة وشرعية تتمتع بالمصداقية، (2) وتعزيز وحدة الشعب والمصالحة بين مختلف أطيافه. وصيغت بالفعل هذه التوقعات ووافق عليها الأطراف في اتفاقات أروشا للسلام(9) التي وُقعت، قبل الإبادة الجماعية، في عام 1993 بين الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي وحكومة الهوتو. وأكدت مبادئ الاتفاق الرئيسية على تقاسم السلطة من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة اللاجئين إلى وطنهم وإعادة إدماجهم، والإدماج العسكري، وإنشاء لجنة وطنية للوحدة والمصالحة، فض عن الإصلاحات السياسية والقانونية.
تربط السياسة الوطنية للوحدة والمصالحة بين مفهوميْ “الوحدة” و”المصالحة” ولا تفصل بينهما، وتعِّرف الوحدة والمصالحة بـ “ممارسة توافقية بين مواطنين يملكون جنسية مشتركة ويتشاركون الثقافة عينها ويتمتعون بحقوق متساوية؛ ومواطنين يتصفون بالثقة، والتسامح، والاحترام المتبادل، والمساواة، والتكامل، ويتمسكون بالحقيقة ويضمدون جراح بعضهم بعضًا الناجمة عن تاريخهم المظلم، بهدف إرساء أسس التنمية في إطار السلام المستدام”(10).
ويؤكد هذا النموذج على مسؤولية الدولة في بناء ثقافة حقوق قائمة على مفهوم الهوية المشتركة الشمولي.
2. آليات المصالحة الوطنية وعملياتها في رواندا
فضلت رواندا العمليات والآليات المحلية التي جمعت بين النُهج الشمولية والمحلية القائمة على الثقافة لتعزيز المصالحة الوطنية. وشكّلت لهذه الغاية محاكم غاشاشا واللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة الأدوات الأساسية. تمحورت في المقام الأول الآليات المعتمدة كافة حول الحكومة وانطوت على المشاركة الفردية والمجتمعية الإلزامية.
2. 1. الحكم الديمقراطي: حكومة الوحدة الوطنية
أطلقت الجبهة الوطنية الرواندية على حكومتها اسم حكومة الوحدة الوطنية عند تشكيلها في 19 يوليو 1994، تجسيدًا للمصالحة الوطنية التي اعتبرتها من أولوياتها الشاملة، وأكدّت تقيّدها باتفاقات أروشا للسلام التي أُبرمت قبل الإبادة الجماعية (1993) والتي نصت على تشكيل حكومة شاملة بموجب مبادئ تقاسم السلطة والحوار.
أ – تقاسم السلطة والشمولية
ارتكزت سياسة الوحدة الوطنية والمصالحة على شعار “رواندا واحدة لجميع الروانديين”(11). وأفادت حكومة ما بعد الإبادة الجماعية التي ترأستها الجبهة الوطنية الرواندية أنه نظرًا للإبادة الجماعية التي تسبب بها الشقاق العرقي، شكّل إنشاء جنسية رواندية شاملة كهوية موحِّدة الحل الوحيد لإرث الكراهية العرقية والعنف الذي امتد على سنوات. وزعمت أيضًا حكومة الجبهة الوطنية الرواندية أنه على الرغم من انتصار الجبهة الوطنية الرواندية في الحرب، فقد تقيّدت بمبدأ “الفائز لا يحصل على كل شيء” الجوهري الذي قامت عليه اتفاقات أروشا في عام 1993. إلا أن العملية لم تتبع بالضبط مبدأ اتفاقات أروشا في ما يتعلق بكيفية تقاسم السلطة. فالحكومة التي تهيمن عليها الجبهة الوطنية الرواندية لم تضم إلا الأحزاب السياسية التي لم تشارك في الإبادة الجماعية. وأنشأت أيضًا الجبهة الوطنية الرواندية منتدى للأحزاب السياسية وطلبت من الأطراف كافة العمل في إطار هذا التحالف الذي ترأسه. ويشدد النقاد على أن هذه الاستراتيجية هدفت إلى الحفاظ على “السيطرة الكاملة على المشهد السياسي”(12).
ب – الحوار ومجلس الحوار الوطني
قامت خطوة الحوكمة الأولى بعد الإبادة الجماعية على تنظيم حوار وطني لمناقشة الصراع في رواندا والاتفاق على آليات إعادة الإعمار. فجمعت منتديات الحوار الوطني نخبًا من مناحي الحياة كافة – وشملت أعضاء الأحزاب السياسية (من مختلف الإيديولوجيات السياسية) وكبار القادة الوطنيين وأفراد المجتمع المدني (الأكاديميين ورجال الأعمال والشركاء في المجتمع المدني والتنمية…). وتضمنت التوصيات الرئيسية إنشاء الهياكل/ المؤسسات التالية: لجنة وطنية للوحدة والمصالحة ومحاكم غاشاشا ومجلس الحوار الوطني أموشييكيرانو باللغة الكينيارواندية، والمشاركة في الإصلاحات القانونية والسياسية ذات الصلة. وتأسس في المقام الأول مجلس الحوار الوطني – أموشييكيرانو كمنصة لتوفير منتدى للروانديين من مختلف الفئات الاجتماعية لمناقشة الوحدة الوطنية والمصالحة وغيرهما من القضايا الاجتماعية والإنمائية التي تؤثر في البلاد. وهدف بشكل أساسي إلى تعزيز عملية تحقيق الوحدة والمصالحة من خلال تحويل النزاعات عن طريق الحوار والتوافق على أساس أربع ركائز: التاريخ والشهادات والمسامحة والشفاء(13).
وفقًا لمبادئ دستور عام 2003 بصيغته المعدلة، تنص المادة 168 على مجلس الحوار الوطني كحدث سنوي يُنظم لمرة واحدة في السنة ويترأسه رئيس الجمهورية(14). نص الدستور على أن يجمع مؤتمر الحوار الوطني رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان وحكام المقاطعات وممثلي مختلف الفئات المعنية وأفراد آخرين يحددهم رئيس الجمهورية. ويُعد إذًا من المنتديات التي يجتمع في خلالها رئيس الجمهورية مع الروانديين من الفئات كافة لتبادل الأفكار ومناقشة القضايا المتعلقة بوضع الدولة ووضع الحكومة المحلية والوحدة الوطنية.
2. 2. عودة اللاجئين إلى وطنهم وإعادة إدماجهم
بعد الإبادة الجماعية، تعيّن على الحكومة تلبية الحاجة الملحة إلى ضمان الأمن والاستقرار من خلال إعادة ملايين اللاجئين إلى وطنهم ومساعدتهم على الاستقرار وإعادة إدماجهم (حالات جديدة وقديمة). توزع اللاجئون بشكل خاص على البلدان المجاورة (زائير سابقًا – جمهورية الكونغو الديمقراطية حاليًا وبوروندي وتنزانيا وأوغندا وكينيا) ولكن كثر أيضًا النازحون داخليًا. وتوافقت أعمال إعادة الإدماج هذه مع اتفاقات أروشا للسلام المبرمة في عام 1993 ولكن لم يعُد بعد جميع اللاجئين إلى وطنهم في عام 2022. وشملت العملية برامج التأهيل الوطنية المعروفة باسم معسكرات الإنغاندو ل إعادة التأهيل الوطنية والتي يتعيّن على جميع العائدين الجدد والنازحين المشاركة فيها، بهدف التخفيف من مخاوفهم عند العودة إلى مجتمعاتهم(15). وأعادت بالتالي هذه العملية جمع الناس والمجتمعات ومكنتهم من استعادة الأمل في عيش حياة طبيعية.
2. 3. الإدماج العسكري
يُعد نموذج التكامل العسكري الرواندي فريدًا من نوعه. لقد أُدمج المقاتلون “الأعداء” السابقون في الجيش الوطني الجديد – أي قوات الدفاع الرواندية، بالتوافق مع اتفاقات أروشا للسلام المبرمة في عام 1993. ونُفذ الإدماج العسكري أيضًا من خلال مفهوم الإنغاندو الرواندي التقليدي، أو معسكرات (إعادة) التأهيل الوطني أو المدارس المخصصة لتعلم فضائل الوحدة والوطنية.
يختلف هذا النوع من ورش عمل حل المشاكل، التي ينفذها الروانديون أنفسهم، عن نماذج الإدماج العسكري التقليدية في مجال بناء السلام، إذ تركز على (1) نزع السلاح القسري عن طريق تدخل خارجي عادة وبتفويض من الأمم المتحدة أو (2) التسريح الذي يستثني المقاتلين الأعداء السابقين أو 3 الإدماج العسكري القائم على وساطة طرف ثالث. شمل الإدماج العسكري في رواندا التدريب على الوحدة والمصالحة كعملية إعادة تأهيل. وتضمنت حسنات المصالحة تعزيز الاستقرار والمصالحة الأولية بين الأطراف المتنازعة (المقاتلين المتحاربين السابقين).
2. 4. الإصلاحات الدستورية والقانونية وسياسة الوحدة الوطنية والمصالحة
بالإضافة إلى وضع سياسة وطنية للوحدة والمصالحة، تُعد الإصلاحات الدستورية والقانونية أساسية لتحقيق المصالحة الوطنية. لقد وفرت أساسًا مؤسسيًا وقانونيًا ملائمًا للمبادرات الوطنية والمحلية.
أ – الإصلاحات الدستورية والقانونية
كانت حكومة ما بعد 1994 على يقين أن رواندا لم تملك قط دستورًا ينص على القيم والمبادئ التي تسمح ببناء مجتمع موحَّد. يُلزم الدستور الجديد الصادر في 4 يونيو 2003 الحكومة بالتقيّد بتعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة، ويحظر مث أي شكل من أشكال الانقسام والتمييز بين الروانديين المادة 11)(16). وشملت التحديثات الهامة التي نص عليها دستور عام 2003، إنشاء مؤسسات مختلفة تُناط بها مسؤولية المساعدة في حل المشاكل الرئيسية التي تواجهها البلاد: مثل محاكم غاشاشا المجتمعية، ومجلس الحوار الوطني – أموشييكيرانو، ومدرسة التأهيل الوطنية – إتوريرو، ومعسكرات التأهيل الوطنية – الإنغاندو، والعمل المجتمعي – أموغاندا. ولعبت الوحدة والمصالحة دورًا أساسيًا في هذه الحالات كافة. ونصت بشكل خاص المادة 178 من الدستور على إنشاء اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة كآلية لتنسيق جهود المصالحة كافة على المستويين الوطني والمحلي وتكاملها.
نُفذت أيضًا الإصلاحات القانونية الرئيسية بشكل فعال وشملت: قانون معاقبة التمييز والطائفية(17)، ومرسوم العفو الرئاسي، وإلغاء عقوبة الإعدام(18)، والقانون الذي يشجع المنتهكين على الاعتراف بانتهاكاتهم والتوبة وطلب السماح(19)، وقانون معاقبة إيديولوجية الإبادة الجماعية(20).
ب – سياسة المصالحة الوطنية
في أغسطس 2007، أُعلن رسميًا عن سياسة وطنية للوحدة والمصالحة. تشكل هذه السياسة مشروع هندسة اجتماعية طموحة ترى الحكومة التي ترأسها الجبهة الوطنية الرواندية أنها ستبني هوية رواندية موحدة وستعزز المصالحة بين الناجين من الإبادة الجماعية ومرتكبيها. يشار في هذه السياسة التي تربط دائمًا بين الوحدة والمصالحة ولا تفصل بينهما، إلى المصالحة الوطنية باسم “الوحدة الوطنية والمصالحة”، ومن هنا جاءت تسمية “سياسة الوحدة الوطنية والمصالحة”.
يقوم هدف السياسة العام على “بناء رواندا موحَّدة يتمتع فيها جميع المواطنين بحقوق متساوية وبحرية المشاركة
الجماعية في حكم بلادهم وتنميتها”. وتشمل الأهداف المحددة لهذه السياسة: (1) مكافحة أي شكل من أشكال الانقسام والتمييز، (2) ومكافحة إيديولوجية الإبادة الجماعية (3) وتوعية الروانديين على المستويات كافة من أجل السعي إلى تحقيق وحدتهم وتقديرها، (4) وتمكين الروانديين ليتمتعوا بالقدرة على تحليل مشاكلهم وإيجاد الحلول المناسبة، (5) وتعزيز ثقافة السلام، (6) وتعزيز قيم الثقافة الرواندية التي تساهم في التماسك الاجتماعي ورفاه الروانديين(21).
وتشمل الاستراتيجيات لتحقيق هذه الأهداف: أ – إدماج الوحدة والمصالحة في خطط عمل مختلف المؤسسات ب – وتبادل المعلومات والمشاركة بانتظام في حوارات استشارية حول الوحدة والمصالحة، ج – والتأهيل الوطني لجميع الروانديين، والبحوث المتعلقة بعملية المصالحة المؤشرات ، والشراكات، والمشاورات المجتمعية، ومكافحة الفقر والجهل، والشفاء النفسي، فض عن رصد أنشطة المصالحة وتقييمها.
حظرت هذه السياسة رسميًا تسميات الهوية “العرقية” مثل الهوتو والتوتسي والتوا، بالإضافة إلى أي إشارة إليها.
ولكن يرى الكثيرون من النقاد والمعلقين أن هذه الخطوة تنم عن تناقض، إذ أقنعت الحكومة في عام 2008 الأمم المتحدة بتغيير اسم الإبادة الجماعية رسميًا إلى “الإبادة الجماعية المرتكبة بحق التوتسي”.
2. 5. اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة
كُلِّفت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة بضمان تكامل جهود المصالحة الوطنية والمحلية كافة وتنسيقها(22). تأسست اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة، التي تشبه إلى حد ما لجنة الحقيقة والمصالحة، في مارس 1999 بهدف العمل بطريقة تشاركية والسماح للروانديين من جميع مناحي الحياة بتشكيل سبل ووسائل تحقيق الوحدة والمصالحة والتأثير فيها، وتوفير منصة يعرض من خلالها الروانديون وجهات نظرهم حول ما فرّق بينهم في الماضي وحول كيفية بناء رواندا موحَّدة تصالح سكانها.
بدأت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة عملها بطريقة حكيمة. فقد جمعت مجموعات من الأشخاص وسألتهم عما يحتاجون إليه من أجل المصالحة. يمكن تحديد ثلاث مزايا أو فوائد في هذه العملية: أولاً، تفاعل الناس مع فكرة المصالحة، وثانيًا، جرى تمكينهم للمساعدة في تحديد ما يحتاجون إليه لتحقيق المصالحة، وثالثًا، أصبحوا مخططين وجهات فاعلة في آن من خلال التعبير عن آرائهم ومن ثم العمل بفعالية مع بعضهم بعضًا وفي إطار العملية. ويضطلع هذا الأمر بأهمية إذ لا يمكن للآخرين تحقيق المصالحة أو فرضها بل يمكنهم تسهيلها ليس إلا.
نظمت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة عددًا كبيرًا من الاجتماعات وورش العمل والمؤتمرات والأبحاث حول موضوع الوحدة والمصالحة والاعترافات الرمزية الجماعية، على غرار النصب التذكارية للإبادة الجماعية وإحياء ذكراها والإصلاحات التعليمية. أما في ما يتعلق بالتأهيل الوطني، استندت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة إلى المؤسسات الثقافية القائمة على المجتمع والتضامن لحل النزاعات أو التحول، ولا سيما معسكرات الإنغاندو (معسكرات إعادة/ التأهيل الوطني) وإتوريرو (أكاديمية إعادة/ التأهيل الوطني) وندي أمونيارواندا (أنا رواندي).
* يشير الإنغاندو إلى لحظة فريدة في الثقافة الرواندية، يضطر فيها السكان من كبار السن أو الشباب إلى مغادرة قريتهم والذهاب إلى مكان منعزل للتفكير ومناقشة المشاكل الأساسية التي يواجهها المجتمع (مثل المجاعة والصراع…). وبعد الإبادة الجماعية والحرب الأهلية، أُعيد إحياء معسكرات الإنغاندو لإنشاء مدرسة للتأهيل الوطني مخصصة لتعلم فضائل الوحدة والوطنية. استمر استخدام الإنغاندو كنوع من ورش عمل حل المشاكل ومساحة للتفاعلات الدينامية بين الناس وأداة للتماسك الاجتماعي والوحدة والإدماج، إلى جانب دورها في إدماج اللاجئين والإدماج العسكري وقبل استبدالها بالإتوريرو (مدرسة التأهيل الوطني). وتوسعت أيضًا هذه المعسكرات لتشمل طلاب المدارس والجامعات، وكذلك موظفي الدولة. وشكّلت بالتالي الإنغاندو مدرسة عرّفت المشاركين على سير الحياة اليومية في البلاد، ومساحة تساعد على فهم أهمية التعايش السلمي والإدماج الاجتماعي الاقتصادي، وقدّمت أيضًا بنظر الناجين نوعًا من العلاج ومكانًا للشفاء. ساعدت الإنغاندو المشاركين في التغلب على الخوف المتبادل والتشكيك بالآخر والكراهية والرغبة في الانتقام، وفي التحدّث عن التاريخ والصراع الذي قسّم الروانديين، وتقبّل المسؤولية عن أي ضرر أُلحق بالآخر، وتوضيح التصورات السلبية عن الآخر، والاتفاق على ما يخبئه المستقبل لهم.
* تُعد الإيتوريرو نوعًا أوسع نطاقًا من الإنغاندو، أسسها مجلس الوزراء في 12 نوفمبر 2007 كمبادرة محلية للتأهيل الوطني مستوحاة من الثقافة الرواندية. شكّلت الإيتوريرو تقليديًا مدرسة استُخدمت لتعليم القيم الأخلاقية وتنمية القدرة على التعامل مع المشاكل المجتمعية. تُتوّج العملية عمومًا بحفلات مرحة، أي أنشطة ترفيهية اجتماعية يؤدي في خلالها المشاركون أغان ورقصات ثقافية ويتشاركون الطعام والشراب. تُنظَّم الإيتوريرو، وهي أكثر تقدمًا من معسكرات الإنغاندو، على جميع مستويات الإدارة، من المستوى المحلي إلى المستوى المركزي، وفي بلدان الشتات أيضًا، وتهدف إلى إعادة ترسيخ ثقافة خدمة الوطن من دون مكافأة مالية، وزيادة مستويات الوعي بالوحدة والمصالحة، وتشجيع الحس الوطني والوحدة والمسؤولية باعتبارها سمات تساهم في التقدم والتماسك الاجتماعي والسلام والمصالحة.
تستهدف الإتوريرو جميع الروانديين وتتضمن مناهج مختلفة تتلاءم مع مختلف الشرائح السكانية، ومن بينهم الأطفال من سن السابعة وما فوق. يحصل الأطفال على تدريب في قراهم ليصبحوا مواطنين مسؤولين ومنتجين عندما يكبرون. وتشمل الفئة الإلزامية الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 35 سنة والذين أنهوا تعليمهم الثانوي. وتحظى الفئات السكانية الأخرى بفرصة المشاركة وفقًا لخلفياتها المهنية وأولويات الخدمة المحددة. بالمقارنة مع البلدان الأخرى، اعتمدت رواندا نموذجًا مختلطًا طوعيًا وإلزاميًا لفئات مختلفة من المشاركين. وفي ما يتعلق بتأثير الإتوريرو في الوحدة والمصالحة، يتعهد الإنتوري خريجو الإتوريرو بأن يكونوا قدوة في مجتمعاتهم حيث يتولون مسؤولية تدريب الآخرين بشأن المسائل المتعلقة بالمصالحة الوطنية(23).
* تشكّل ندي أمونيارواندا مرحلة هامة أخرى للجنة الوطنية للوحدة والمصالحة على مسار تحقيق الوحدة والمصالحة في رواندا. وتشير إلى برنامج ندي أمونيارواندا القائم على الحوار (تُترجَم حرفيًا بـ “أنا رواندي”) للتأكيد على “المواطنة المشتركة” و”وحدة” الروانديين في المقام الأول، قبل أي إشارة إلى هويات “عرقية”. يوفر البرنامج منتدى للروانديين من مختلف الفئات الاجتماعية من أجل مناقشة القضايا المتعلقة بالوحدة الوطنية والمصالحة والتنمية. ومن خلال التركيز على المواطنة المشتركة – أي المواطنة كمصير مشترك – تعيد المبادرة إحياء الرابط الذي يجمع بين الروانديين والتضامن بينهم، إذ لا يوجد بديل مقبول للعيش معًا.
* يندرج أيضًا الحفاظ على الذكرى ضمن عملية المصالحة ويُنفذ من خلال النصب التذكارية وإحياء ذكرى الإبادة الجماعية، باعتبارها تجسيدًا مؤسسيًا للذاكرة الجماعية. تضم الكنائس – التي شهدت مذابح كثيرة – عددًا من النصب التذكارية. وخُصص أيضًا يوم حداد وطني على ضحايا الإبادة الجماعية لإنعاش الذاكرة الجماعية وترسيخها. وعلى المستوى الوطني، يقع الخيار في كل سنة على موقع جديد تُستخرج منه جثث الضحايا لتُمنَح دفنًا رسميًا، ويترأس رئيس الجمهورية المراسم التي تُبَث عبر التلفزيون والراديو الحكومييْن. ويُحتفل أيضًا باليوم التذكاري في مختلف أنحاء البلاد على المستويات الإدارية الدنيا، ويُخصَّص أسبوع واحد في شهر أبريل للحداد المكثف ويمتنع في خلاله السكان عن إقامة الحفلات أو الاحتفالات من أي نوع كانت. وتمدد جمعيات الناجين من الإبادة الجماعية أنشطة إحياء الذكرى حتى 4 يوليو، أي تاريخ انتهاء الإبادة الجماعية رسميًا بانتصار الجبهة الوطنية الرواندية. طالت الانتقادات الشائعة الطابع الانتقائي للنصب التذكارية والاحتفالات لأنها لا تراعي إلا الضحايا من التوتسي، ولا تشمل الضحايا من الهوتو، ولا الجرائم الأخرى، لا سيما تلك المنسوبة إلى الجبهة الوطنية الرواندية.
2. 6. الرفاه الاجتماعي الاقتصادي
شملت الحلول الدائمة للوحدة والمصالحة برامج التنمية الاجتماعية الاقتصادية السريعة القائمة على المجتمع. وشكّل الحد من الفقر الأولوية الرئيسية الثانية لحكومة الجبهة الوطنية الرواندية بعد تعزيز المصالحة الوطنية. وفي حال غذّى الفقر وعدم المساواة اللذان يُشكلان معًا “العنف الهيكلي”، ديناميات الإبادة الجماعية، كما أفاد بيتر أوفين(24)، يفرض ذلك اعتماد التنمية الاقتصادية كأساس ضروري “للوحدة الوطنية والمصالحة”. وأدركت أيضًا اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة أن المصالحة ليست ممكنة من دون التركيز على استراتيجيات الحد من الفقر(25). وصُممت بالتالي مشاريع التنمية الجديدة كفرص للجمع بين الروانديين وإعادة توحيدهم على المستوى المحلي، وتشير إلى إجراءات الحماية الاجتماعية التي تعزز الأهداف الاجتماعية الاقتصادية المشتركة. وتشير الآليات إلى أموغاندا (العمل المجتمعي) وبرامج الحماية الاجتماعية التي تستهدف الفقراء.
أ – أموغاندا (العمل المجتمعي)
استندت الحكومة إلى أشكال التعاون التقليدية مثل أموغاندا، وهو عمل تطوعي تقليدي يهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المجتمعية بشكل جماعي. وهدفت الحكومة إلى ترسيخ حس الاعتماد على الذات بكرامة لدى الروانديين وقام هذا العمل المجتمعي على مبدأ حل مشاكل رواندا من قبل الروانديين أنفسهم عن طريق تضافر الجهود. يُعد أموغاندا عم مؤسسيًا وإلزاميًا للروانديين كافة ومن بينهم رئيس الجمهورية والقادة السياسيين الآخرين وعناصر قوات الأمن. يُنفَّذ البرنامج مرة واحدة في كل شهر (في يوم السبت الأخير من الشهر) ويفرض على الجميع المساهمة بالعمل المجاني لمدة ساعتين تقريبًا في الصباح. وينطوي على عمل جماعي على مستوى المجتمع المحلي لتحقيق مجموعة من الأهداف المجتمعية تشمل إعادة تأهيل الجسور وقنوات المياه، وبناء المنازل للفقراء، والمدارس والمراكز الصحية، وحماية البيئة. يربط أموغاندا العائلات ويشكّل آلية ترسخ التماسك الاجتماعي. تعلم الناس من خلال أموغاندا الابتسام مجددًا: يتبادل الأصدقاء والأعداء الدعابات والأفكار ويحوّلون النزاعات في نهاية المطاف بشكل بنّاء.
ب – برامج الحماية الاجتماعية
يحظى الأشخاص المستضعفون، ومن بينهم الناجون من الإبادة الجماعية والأيتام والأشخاص من ذوي الإعاقات والعائدون والأقليات والمهمشون والأرامل وكبار السن والفقراء، بمساعدة خاصة من خلال برامج الحماية الاجتماعية المختلفة، ضمن إطار برنامج أمورينج رؤية 2020، أُطلق البرنامج في عام 2008 ويشمل: 1 – الدعم المالي المباشر الذي يستهدف الأشخاص الذين يعانون من فقر مدقع أو الأسر التي تفتقر إلى القدرة على العمل أو فرص العمل، مثل ذوي الإعاقة، والأسر التي يعيلها أطفال، وكبار السن، وأطفال الشوارع، واللاجئين، 2 – والأشغال العامة التي توفر فرص عمل لمختلف فئات الفقراء القادرين على القيام بالعمل، 3 – وحزم الائتمان تقدم خدمات مالية (قروض مالية صغيرة) للأشخاص الذين يعانون من فقر مدقع، 4 – وصناديق مساعدة الناجين من الإبادة الجماعية – خصصت حكومة الوحدة الوطنية 5% من إجمالي الإيرادات السنوية لمساعدة الناجين من الإبادة الجماعية، وذلك للتعويض عن الأضرار التي سببتها الإبادة الجماعية.
ج – إصلاحات التعليم
أسفرت الإبادة الجماعية والحرب الأهلية عن تدمير شبه كامل لنظام التعليم. وبعد الإبادة الجماعية، تعيّن على الحكومة المشكّلة حديثًا الاستجابة لحالة الطوارئ التعليمية التي أثارتها أحداث عام 1994 ، ولا سيما من خلال دعم التعليم (صندوق الدعم) للمستضعفين، كما اضطرت أيضًا إلى معالجة إرث النظام التعليمي الذي كان قائمًا على عدم المساواة والتمييز العرقي والإثني منذ إعداده في عهد الاستعمار.
أُلقيت على عاتق حكومة ما بعد الإبادة الجماعية مهمة ضخمة لم تقتصر على إعادة الإعمار فحسب بل شملت أيضًا بناء نظام تعليم عادل وفعال وقادر على مكافحة عدم المساواة، مع العلم أن رواندا لم تحظَ قط بنظام مماثل. استلزم هذا النهج إصلاحًا جذريًا للتعليم الرواندي، إذ يمكن استخدام التعليم لتنمية السلام والديمقراطية والتسامح وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية، تمامًا كما يمكن استخدامه كأداة لتعزيز الانقسام وزيادة الكراهية بين الفئات المختلفة.
اتخذت الحكومة الرواندية خطوات كبيرة منذ الإبادة الجماعية في ظل أصعب الظروف من أجل إصلاح التعليم. وهدفت سياسة التعليم لما بعد عام 1994 إلى تصويب الظلم التعليمي السابق بطريقة تعزز الوحدة الوطنية والمصالحة من خلال إعطاء الأولوية للإنصاف في توفير التعليم والوصول إليه. وصممت الحكومة أيضًا على تشجيع الثقافة الإنسانية القائمة على الإدماج والاحترام المتبادل في التعليم. وشملت الخطوات الهامة إلغاء تصنيف المتعلمين والمعلمين وفق الانتماء إلى الهوتو أو التوتسي أو التوا(26). وتطلّب الأمر تعليم مجموعة جديدة من القيم شملت: 1 – تسليط الضوء على أوجه الشبه بين الروانديين وسياسة الشمولية، 2 – وتعزيز المسؤولية الفردية، 3 – والتركيز على المستقبل التقدمي، 4 – وضمان ملاءمة المنهج وقابلية تطبيقه في الحياة اليومية.
2. 7. محاكم غاشاشا: العدالة المجتمعية
شكلت محاكم غاشاشا الأداة الرئيسية الثانية، إلى جانب اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة، لتنفيذ سياسة الوحدة والمصالحة في رواندا. سُجن مباشرة بعد الإبادة الجماعية في عام 1994 حوالي 200000 مشتبه فيه متورط(27). وأعادت الحكومة إنشاء نظام غاشاشا التقليدي للعدالة في عام 2001، في محاولة للتعامل مع السجون المكتظة والقضايا المتراكمة التي تنتظر المحاكمات. وارتكز على نظام محلي غير رسمي قام على العدالة التشاركية والتصالحية وجلس في إطارها الناس، ولا سيما شيوخ المجتمع المحلي، معًا في غاشاشا (“العشب” أو “المرج”) لتسوية نزاعاتهم بهدف تحقيق المصالحة بين الأطراف المتنازعة. تقليديًا، كان الشيوخ يجتمعون عندما يُلحق شخص ما الأذى بشخص آخر في المجتمع لسماع ما حدث واتخاذ قرار بشأن العقوبة التي تُعد بمثابة تعويض، من أجل السماح للجاني بالعودة إلى المجتمع.
هدفت إعادة إحياء نظام غاشاشا إلى جمع أفراد المجتمعات المحلية وإشراكهم ليشهدوا ويحددوا الوقائع ويؤكدوا عليها ويحققوا العدالة. كُلفت محاكم غاشاشا، تحت شعار “العدالة التصالحية” الرسمي، بمحاكمة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بين 1 أكتوبر 1990 و31 ديسمبر 1994 . في الواقع، ينص “قانون غاشاشا” على إنشاء آلية غاشاشا من أجل “تحقيق العدالة والمصالحة في رواندا”، وتصميمها “لإعادة بناء المجتمع الرواندي ليس بهدف العقاب فحسب”(28). وأصبحت المشاركة في غاشاشا إلزامية وجرى تغريم الأفراد و/أو سجنهم في بعض الأحيان في حال توانوا عن المشاركة. واضطلعت غاشاشا بمهمة كشف الحقيقة، والإسراع في وتيرة المحاكمات، والقضاء على ثقافة الإفلات من العقاب من خلال معاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية، والإفراج عن الأبرياء، وتقديم التعويضات، وتوفير مساحة للحوار وتعزيز المصالحة الوطنية. دخل نظام غاشاشا حيّز التنفيذ رسميًا لمدة 10 سنوات من 18 يونيو 2002 إلى 18 يونيو 2012، وضم 10000 محكمة نظرت في 1958634 قضية شملت حوالى 1003227 متهمًا(29). وترأس هذه المحاكم مواطنون عاديون أُطلق عليهم اسم “إنيانغاموغايو”، أي “الأشخاص النزهاء”، وانتخبهم أفراد المجتمع وبلغ عددهم 260000 فرد أُطلق عليهم رسميًا تسمية “قضاة غاشاشا”(30). ويرى هالر أن هذا العدد الكبير من القضاة المنتخبين في نظام غاشاشا يجسد “ربما أكبر تجربة في مجال العدالة الشعبية في التاريخ الحديث”(31). وعلى نحو مماثل، يصف كلارك هذا العدد الكبير بأنه “فريد من نوعه بين الهياكل القضائية في حقبة ما بعد الصراع في العالم من حيث المشاركة الجماهيرية في تحقيق العدالة(32). ولكن تعرضت محاكم غاشاشا لانتقادات لأنها استُخدمت كوسيلة لتحقيق عدالة المنتصر الانتقائية، إذ لم تُحاكم إلا مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية من الهوتو وتغاضت عن الجرائم التي ارتكبتها الجبهة الوطنية الرواندية المنتصرة التي يطغى عليها التوتسي.
الخلاصة
تُعد رواندا حالة فريدة ومعقدة تزامنت فيها الإبادة الجماعية والحرب الأهلية والجرائم المروعة ذات الصلة نتيجة قرون من العداء والانقسام بين شعبيْ الهوتو والتوتسي. وما زال المجتمع الرواندي يتعافى ويعيد بناء نفسه اليوم من جرّاء هذا الماضي الخلافي. ومع ذلك، أحرزت رواندا تقدمًا على مسار تحقيق الوحدة والمصالحة في البلاد وإعادة إحياء الكرامة الإنسانية والقيم الرواندية.
لعب سياق البلد وثقافته وعاداته دورًا هامًا في تسهيل وضع آليات فعالة بنت أساسًا متينًا للمصالحة. وأكدت تجربة رواندا بشكل خاص على مسؤولية الحكومة في تعزيز المصالحة. وتمحورت بشكل عام الآليات المعتمدة كافة حول الحكومة، ولكنها ترافقت مع مشاورات وطنية وانطوت على مشاركة إلزامية، فردية ومجتمعية. ولعبت أيضًا الحلول المحلية المجتمعية التي جمعت بين النُهج المحلية الثقافية والشمولية لتحويل الصراع وحل المشاكل وفتحت المجال للحوار على مستوى المجتمع، دورًا أساسيًا. وعلى نحو مماثل، اتسمت الآليات المعتمدة بمنظور رجعي وتطلعي وتضمنت مراحل أ – استيجابية ب – وتدابير وقائية. وشملت هذه الآليات مجموعة من العمليات القضائية وغير القضائية بطريقة فريدة أيضًا (محاكم غاشاشا مثلًا) فضلًا عن آلية لإدماج (أي اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة) جهود المصالحة الوطنية والمحلية. وترافقت هذه الآليات المختلفة مع إرادة سياسية قوية وحققت انتصارات هامة في عملية المصالحة الوطنية في رواندا.
الإنجازات والتحديات في إطار المصالحة الوطنية في رواندا
حوّلت الآليات المعتمدة كافة الوحدة والمصالحة إلى حقيقة في رواندا. تُظهر مراجعة المؤشرات من دراسات مقياس اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة أن مستويات المصالحة عالية جدًا أكثر من 90%(33). ولكن يعتبر الكثيرون من المراقبين والمعلقين أن التقدم الإحصائي يشير ربما إلى المصالحة السياسية “الضعيفة” ليس إلا، والتي تتمثل بالاستقرار والتعايش المجتمعي. وإذا صحّ ذلك، فما زال الطريق طويل أمام تحقيق المستوى الأعمق من المصالحة “المتينة” الذي ينطوي على شفاء الأفراد والعلاقات.
وضعت الآليات المعتمدة أساسًا متينًا مهّد الطريق أمام تحقيق مصالحة وطنية شاملة ومستدامة. وساعد أيضًا إنشاء آلية للإدماج والتنسيق اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة في تحقيق ذلك. تبيّن مث في ضوء التقرير الذي أعدّه معهد العدالة والمصالحة 2005 أنه “خلافًا لآليات المصالحة الأخرى في أفريقيا والعالم، نشرت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة مفهوم المصالحة الوطنية والسياسات على مستوى المجتمع. ووضعت نهجًا مبتكرًا لإعادة ترسيخ الوحدة بين الروانديين وتوطيدها من خلال الحوار والعدالة الانتقالية والتعليم والتعبئة والتوعية والتدريب. وأرست أيضًا أسسًا متينة من أجل إضفاء الطابع المؤسسي على المصالحة”(34). وتجدر الإشارة إلى تصنيف رواندا الذي تغيّر من دولة منهارة إلى دولة ومجتمع مدني قادريْن وفعاليْن. واستعاد الروانديون الحس الوطني/المشترك بالهوية والكرامة من خلال البرامج التي تعطي الأولوية لإدماج الروانديين وكرامتهم، مثل إلغاء الهويات العرقية المزيفة التي تسبب الانقسامات وتعزيز الانتماء الرواندي (ندي أمونيارواندا).
على الرغم من الإنجازات المذكورة أعلاه، واجهت عملية المصالحة الوطنية في رواندا عددًا من التحديات. فإيديولوجية الإبادة الجماعية والتنميط العرقي 35 والفقر والجروح النفسية والجسدية التي لم تلتئم بعد ما زالت سائدة في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، ما زالت إعادة الممتلكات أو التعويض عن تلك التي نُهبت أو دمرت في أثناء الإبادة الجماعية تشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق الوحدة والمصالحة على مستوى المجتمع المحلي، على الرغم من تشديد السياسة الوطنية للوحدة والمصالحة على مكافحة جميع أشكال الظلم والقضاء على ثقافة الإفلات من العقاب من خلال ضمان سيادة القانون. وأخيرًا، طالت الانتقادات الرئيسية انتقائية عملية معالجة ظلم الماضي، إذ اقتصرت على الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحكومة المهزومة وأهملت جرائم الجبهة الوطنية الرواندية. وإن استياء المواطنين من عدم قدرة الآليات المعتمدة على معالجة هذه القضايا الهامة يعرقل المصالحة الوطنية.
الدروس المستخلصة
كل نزاع فريد من نوعه وتتطلب معالجته مراعاة طبيعته. لذلك، لا تتوفر بشكل عام صيغة “واحدة تناسب الجميع” أو “طرق مختصرة سهلة” لتعزيز المصالحة الوطنية. ولكن يمر الناس بتجارب مشتركة في مختلف الثقافات والسياقات إذا ارتكبوا عنفًا شديدًا في حالات النزاع و/أو عانوا منه و/أو كانوا شاهدين عليه. وبغضّ النظر عن طبيعة الحرب أو الخلفية العرقية أو الدين المعني، تتوفر الأرضية المشتركة في المسعى إلى المصالحة. وبناءً على تجربة رواندا في مجال المصالحة الوطنية، تساعد على ما يبدو الدروس المترابطة التالية البلدان التي شهدت صراعات عنيفة واسعة النطاق:
* تضطلع الدولة بمسؤولية تمهيد الطريق أمام المصالحة الوطنية وتعزيزها من الضروري تقديم قدوة أو “ربط القول بالفعل” من خلال تشكيل حكومة شاملة وديمقراطية والإدماج العسكري في حالات الحرب الأهلية مثلًا
من أجل ضمان الفعالية. ويتطلب ذلك إرادة سياسية قوية من جانب حكومة ما بعد العنف (الجديدة)، إذ لا ينبغي أن يحصل الفائز على كل شيء.
* تتطلب المصالحة الوطنية الناجحة تضافر الجهود التي تبذلها الدولة/الحكومة والجهات الفاعلة غير الحكومية. يجب أن يتضمن ذلك مساحة آمنة للحوار بين الجهات الفاعلة هذه التي تمثّل المستويات الوطنية (العليا) والمتوسطة (النخب) والمجتمع المحلي/المحلية (القاعدة الشعبية). تشير تجربة رواندا مع مؤتمرات القمة الوطنية المحلية وإنشاء مجلس الحوار الوطني أموشيكيرانو إلى الدور الأساسي الذي تلعبه المشاركة الفعالة من قبل الجهات الفاعلة من مناحي الحياة كافة، من القمة إلى القاعدة الشعبية – ومن بينها مؤسسات الدولة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، وعامة الناس. ويجب على الجهات الفاعلة هذه الاتفاق على الأهداف الأساسية للمصالحة الوطنية، وأولوياتها، وآليات تنفيذها. تشمل أفضل المزايا في هذه الحالة الرؤية المشتركة للماضي والمستقبل التي يقبلها الجميع، أي تاريخ مشترك ومستقبل مشترك.
* يعتمد نجاح المصالحة الوطنية على استخدام آليات ترتكز على سياق المجتمع وثقافته وتقاليده وعاداته في رواندا مثلًاً، شكلت ثقافة البلد وعادات التضامن والمشاركة المجتمعية في حل المشاكل على مستوى القرية نهجًا عمليًا. وتساعد بالتالي الحلول المحلية وتشكل بديلاً للآليات الشمولية أو الليبرالية في تعزيز المصالحة. تُعد آليات غاشاشا في رواندا درسًا للمجتمعات المنقسمة. في الواقع، تمثل محاكم غاشاشا شكلاً فريدًا من أشكال العدالة التصالحية نظرًا لطبيعتها اللامركزية والأهمية التي تُعلَّق على مشاركة المجتمع بأكمله والمشاركة المحلية(36).
* يتطلب نجاح المبادرات المعتمدة آلية إدماج وتنسيق، كما كان الحال مع اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة في رواندا. لم تكن هذه اللجنة “لجنة الحقيقة والمصالحة”، بل آلية كُلِّفت بتنسيق ورصد وإدماج الجهود كافة المبذولة على المستوييْن الوطني والمحلي بهدف تعزيز المصالحة. ويتعيّن بالتالي على الجهات الفاعلة المشاركة في المصالحة الوطنية أن تدرك أن المصالحة الوطنية ما زالت عملية طويلة ومعقدة ودينامية يتوقف نجاحها على اعتماد نهج شامل ومتكامل.
* المصالحة الناجحة هي المصالحة الشاملة إن الأساليب الانتقائية (مثل تعمّد مراعاة بعض المظالم لإلحاق الضرر بالآخرين) مصيرها الفشل. يجب مراعاة جميع القضايا والعوامل المتعلقة بالنزاع والعنف والإصغاء ( إلى جميع الأطراف (الضحايا/الناجين والجناة والشهود والمارة). لا بد من أن تجسّد الجهود الوطنية المبادرات والنُهج الشعبية تجاه المصالحة و/أو أن تتوافق معها.
* من الضروري الحرص على التتبع المنتظم لتقدم المصالحة من خلال البحث وتبادل الخبرات بين أصحاب المصلحة، من أجل مراجعة الآليات والعمليات أو وضع آليات وعمليات جديدة، وبالتالي مواجهة أي تحديات قائمة.
—
المراجع
Abu-Nimer, Mohammed (2001). Reconciliation, Justice, and Coexistence: Theory & Practice. Lanham, Boulder, New York, Toronto, Oxford: Lexington Books.
Clark, Phil. (2010). The Gacaca Courts, Post-Genocide Justice and Reconciliation in Rwanda: Justice without Lawyers. New York: Cambridge University Press.
Gasanabo, Jean Damascène; Simon, David. J., and Ensign, Margee. M. (2014). Confronting Genocide in Rwanda: Dehumanization, Denial, and Strategies for Prevention, Kigali: CNLG.
IDEA (2003). Reconciliation after Violent Conflict. International Institute for Democracy and Electoral Assistance (IDEA), Stockholm.
Institute for Justice and Reconciliation (2005). Évaluation et étude d’Impact de la Commission Nationale pour l’Unité et la Réconciliation.
Lambourne, Wendy (2001). “Justice and Reconciliation: Postconflict Peacebuilding in Cambodia and Rwanda” (pp. 311-337). In Abu-Nimer Mohammed. Reconciliation, Justice, and Coexistence: Theory & Practice. Lanham, Boulder, New York, Toronto, Oxford: Lexington Books.
Ministry of Education (1996). Education Sector Policy. Kigali.
Ministry of Youth, Culture and Sports, and Ibuka Association (2004). Prevent and Banish Genocide forever, through universal active solidarity. International Conference on Genocide, Intercontinental Hotel, Kigali.
National Service for Gacaca Courts (2012). Report Summary. Kigali.
NURC (2000). Report on the National Summit of Unity and Reconciliation, October 18-20, Kigali.
NURC (2000). The 1st National Summit report on Unity and Reconciliation, Kigali.
NURC (2002). Second National Summit on Unity and Reconciliation in Rwanda. Report. Kigali.
NURC (2007). Ingando: Impact Assessment on Unity and Reconciliation of Rwandans, Kigali.
NURC (2007). National Policy of Unity and Reconciliation, Kigali.
NURC (2009). 15 Years of Unity and Reconciliation process in Rwanda: The ground covered to-date. Kigali.
NURC (2009). Itorero Strategic Plan 2009-2012, Kigali.
NURC (2010). Rwanda Reconciliation Barometer. Kigali.
NURC (2014). Unity and Reconciliation Process in Rwanda: 20 years after the 1994 Genocide perpetrated against Tutsi. Kigali.
NURC (2015). Rwanda Reconciliation Barometer. Kigali.
18
NURC (2020). National Policy of Unity and Reconciliation, Revised version, Kigali.
NURC (2020). Rwanda Reconciliation Barometer. Kigali.
Peace Agreement between the Government of the Republic of Rwanda and the Rwandese Patriotic Front (1993). Available at: https://ucdpged.uu.se/peaceagreements/fulltext/Rwa%2019930804.pdf
Prunier, Gerard (1995). The Rwanda Crisis 1959 – 1994, History of a Genocide. London: Hurst and Company.
Republic of Rwanda (2020). National Policy of Unity and Reconciliation, Kigali.
Reyntjens, Filip (1996). Rwanda: Genocide and Beyond. Journal of Refugee Studies, 9 (3), pp. 241-251.
Staub, Ervin (2003). The Psychology of Good and Evil: Why Children, Adults, and Groups Help and Harm Others. Cambridge: Cambridge University Press.
Staub, Ervin (2012). The Challenging Road to Reconciliation in Rwanda. January 17. Available at: https://www.e-ir.info/2012/01/17/the-challenging-road-to-reconciliation-in-rwanda/
Thompson, Susan (2013). Whispering Truth to Power: Everyday Resistance to Reconciliation in Post-genocide Rwanda. Madison, WI: The University of Wisconsin Press.
Uvin, Peter (1998). Aiding Violence: The Development Enterprise in Rwanda. West Hartford, CT: Kumarian Press.
Uvin, Peter (2003). “The Gacaca Tribunals in Rwanda”. In IDEA, Reconciliation after Violent Conflict. International Institute for Democracy and Electoral Assistance (IDEA), Stockholm.
Vansina, J., (2004). Antecedents to Modern Rwanda: The Nyiginya Kingdom, New York: University of Wisconsin Press.
(*) منشورات معهد الجامعة الأوروبية (EUI)/ مركز روبيرت شومان
(*) المؤلف إزيكيل سينتاما: هو من مواليد رواندا ويعمل حاليًا لصالح جامعة كوفنتري كزميل باحث في مجال السلام والصراع في مركز الثقة والسلام والعلاقات الاجتماعية حيث عمل سابقًا كأستاذ مساعد وزميل في برنامج ماري كوري للأبحاث (2019 – 2021 ). يحمل سينتاما شهادة دكتوراه في أبحاث السلام والتنمية ويملك خبرة تزيد عن 15 عامًا في التدريس والبحث في مجال السلام والصراع في رواندا (جامعة رواندا) وفي السويد (جامعة لينيوس وجامعة غوتنبرغ). غطت خبرته البحثية ومنشوراته رواندا وإسرائيل وفلسطين ومقدونيا والجزائر ومنطقة البحيرات الكبرى الأفريقية، وتشمل اهتماماته في مجال البحث بناء السلام، والتعليم من أجل السلام، والعدالة الانتقالية، والمصالحة.
(*) يُنشر بموجب سماح “الانتفاع الحر المتاح بموجب ترخيص بالمثل 3.0“