من حق الأجيال الصغيرة اليوم أن تُحترم براءتها وحقها في عدم الظن السيء بالآخر، ومن حقها أن لا يُصوَّر لها الآخر الذي تعيش معه في ظل عولمة تلاشت فيها الحواجز الزمانية والمكانية، على أنه شيطان يجب أن يُلعن ليلًا ونهارًا، وأن تُقْطع جميع أشكال التعاملات معه ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعلميًا، إن لم يَحترم ذلك الحق.
لقد مضى القائمون على المناهج الدراسية في توظيفها كوسيلة لزرع الخوف من الآخر، والاستعداد للنيل منه متى حانت الفرص. فنحن نساهم في تحويل أجيال تُناصر السلام والمحبة، إلى أجيال تنشد النزال والحرب، وتجعل من العنف وسيلة للحياة. لذا، فالأمر يعني الكثير. فميثاق اليونسكو يؤكد أهمية التنشئة السلمية التي تقود إلى بناء مجتمعات آمنة، حيث جاء في مقدمته: “لما كانت الحرب تنشأ في عقول الناس ففي عقولهم أيضًا يجب أن تبنى معاقل السلام”.
متى يصبح الآخر شيطانًا في المناهج الدراسية؟ هذا هو السؤال الذي لا بد أن نسلط عليه الضوء، من أجل مراجعة مضامين المناهج الدراسية في مختلف دول العالم؛ حتى يجري تنقيتها من المعلومات غير الدقيقة، التي تُقدَّم عن دول أو مجتمعات أو شعوب أو حضارات أو أديان أو أعراق معينة، تختلف عنا في أنماط حياتها أو ثقافتها أو معتقداتها. وبدلًا من تصوير هذا التنوع والاختلاف أنه كنز إنساني لا بد من الحفاظ عليه واحترامه، يجري تصوير هذا الاختلاف على أنه إشكالية كبرى تتطلب إلغاء الآخر والتعامل معه بعنف، ومصادرة حياته إن لزم الأمر. وبدلًا من توظيف هذا التنوع لبناء قيمة التسامح التي تقود إلى التعارف والتعاون والحوار، ومِن ثَمّ إلى مزيد من الفضول إلى معرفة الآخر، يجري توظيف الأمر لبناء قيمة الصراع مع هذا المختلف في كل شيء.
فعن أي تربية نتكلم إن كانت ستُذْكي الصراع في النفوس الصغيرة؟ وعن أي تربية نتكلم إن كانت تحض الأطفال على تطوير مشاعر الكراهية، بدلًا من أن تعمل على زراعة بذور المحبة في أنفسهم؛ لتسهم في تقليل الحروب والصراعات الطائفية في عالمنا؟
إن التربية لا بد أن تتحمل مسؤولياتها عن بناء عالم تسوده المحبة والسلام، من خلال نأي الأفكارِ الأيديولوجية والإقصائية عن المناهج الدراسية، والصفاتِ غير الموضوعية عن الآخرين؛ من أجل بناء عالم بلا حروب، وأجيال بلا كراهية، ومجتمعات بدون صراع. فإن أخفقت المدرسة في تحقيق مستويات متقدمة في معايير التقييم العالمية، يمكن أن يعوَّض ذلك في مراحل دراسية لاحقة. لكن، إن أخفقت هذه المدرسة في بناء أجيال متعايشة مُحبة لبعضها بعضًا، فمن سيعوِّض الدمار الذي سوف ينشأ نتيجة هذه الاختلافات؟ إنها مسألة مرتبطة بالحياة والحفاظ عليها، أكثر من ارتباطها بسوق العمل وسبل رفده بالكفاءات المهنية، مع أنه لا يمكن التقليل من أهمية هذا الهدف.
وقد كشفت بعض الدراسات أن المبالغات والتحيُّزات التي تُستخدم خاصة في كتب التاريخ، تقود إلى تكوين صور سلبية عن الآخر؛ ما يولد مشاعر كراهية مقيتة له. فعلى سبيل المثال، تُستخدم عبارات مثل “قتلوا الأطفال والنساء والشيوخ”، وعبارة “قاموا بقتل كل سكان المدينة حتى الأطفال”، و”ذبحوا جميع من كانوا فيه”؛ إذن يتعلم الطالب من دروس التاريخ أن هناك ثأرًا لا بد أن يأخذه الجيل الحالي، من أبناء الجيل الذي قام بكل هذه الجرائم البشعة بحق بلادهم وأجدادهم، بدلًا من أن يتعلم أن ما جرى يجب أن ينظر إليه على أنه دروس لا بد من الاستفادة منها في الحاضر، من أجل تجنب الخسائر الفادحة التي يمكن أن تنتج من هذه الصراعات.
لذا، تؤكد فوزية العشماوي ضرر الصور السلبية التي تروِّجها المناهج الأوروبية أو العربية والإسلامية عن الآخر، وهي ترى أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على مؤلفي المناهج، وترى أنهم لا بد أن يتجنبوا إصدار أحكام خاطئة وغير دقيقة في الأحداث التاريخية، تكون عادة مبنية على “أحكام تقديرية مسبقة تعكس وجهة نظرهم وموقفهم المسبق المتعنت” تجاه الآخر؛ ما يقود إلى انحراف المدرسة عن رسالتها الحقيقة في بناء شخصية متزنة وموضوعية.
(*) سيف بن ناصر المعمري: دكتور فلسفة التربية، أستاذ مناهج الدراسات الاجتماعية بكلية التربية في جامعة السلطان قابوس، له العديد من الكتب والأبحاث المُحكّمة.
(*) المصدر “تعددية”، منشور وفق سماح النشر المحدود (مشاع إبداعي)، مستوى 3.