لسنا، كبشر، تلك الكائنات المثالية على سلم تراتبيات الحياة، ومهما نظرنا لأنفسنا وكأننا “سوبرمانات”، فهي مجرد نظرة ذاتية تفتقد إلى الموضوعية و”الرأي الآخر” من كائنات لم تتطور أو تتعقلن على طريقتنا. ولعل قدرتنا على البقاء تعود إلى اهتدائنا إلى أهمية التعاون، بالتوازي مع تطور تكاملي لليد والدماغ والحنجرة، عوضًا عن الصراع الوحشي على الموارد. فبالتعاون والتنسيق “خدعنا” الكائنات الأخرى، وجعلناها تتراجع مدحورة أمام أدواتنا الجديدة، حتى وصل الأمر إلى درجة ترويضها ونزع وحشيتها جزئيًا لتشبهنا.
هذا لا يعني أن وحشيتنا لم تعد موجودة، ولكن تم كبتها إلى حد ما لصالح التعاون والسلم الأهلي، لتعود وتظهر بصورة انفجارية وأكثر خطورة من وقت لآخر، بالتوازي مع افتقاد القدرة تدريجيًا على استعمال الكوابح البيولوجية التي تمنع الطرف الأقوى من الإجهاز على الطرف الضعيف، كإرث نتشاركه مع بقية الكائنات، إذ حالما يقوم الخاسر بحركات معينة يُفهم منها الاستسلام، يكف المنتصر عن متابعة القتال ويذهب كل منهما في حال سبيله. وقد تعطلت هذه الإشارات البيولوجية عند الإنسان في حالة القتال عن بعد في أثناء الصراعات/ الحروب الحديثة، ولم تعد تنفع في شيء حتى ولو استُعملت، فما الذي يعنيه أن يحمي المرء رأسه بيده في مواجهة صاروخ أو قذيفة!
وبفضل التعاون بين أفراد الجماعة وإدراك فوائده، كتنظيم اجتماعي بدائي تطور إلى العادات والأعراف والتقاليد في المجتمعات القديمة وإلى الدساتير والقوانين في الدول الحديثة، صار من الممكن حشد القوى ضد الجماعات الأخرى وشن الحروب عليها من وقت لآخر من أجل تأمين المزيد من الموارد. وحتى لا يتم استنزاف الموارد نفسها في هذه الحروب البينية، اكتشفت الجماعات ضرورة الاتفاق على هدنٍ ومعاهدات طويلة أو قصيرة الأجل، كاستراحات بين الحروب تطول أو تقصر، وفيها تعود الجماعات/ الدول إلى حياة الاستقرار والتعاون في ما بينها لتحقيق مصالح متبادلة. كما عمل الانتقال إلى نوع من التعاون بين الأفراد والجماعات إلى كبح الغرائز العدوانية واستبطانها، والتعبير عنها بطريقة مواربة كضرب من الكراهية، أي الرغبة المبطنة والمؤجلة في تدمير الآخر، إلى أن يأتي وقت الانفجار، فتتحول هذه المشاعر العدوانية إلى عنف فاضح.
ومن حسن الحظ أن مشاعر الكراهية هذه أنتجت مشاعر اجتماعية إيجابية نقيضة يمكن اختصارها بالمحبة، والتي يمكن تلمسها في دعوات بعض الأديان واستمرارها في الحركات المدنية التي تدعو إلى حل النزاعات من خلال وسائل سلمية ونبذ ثقافة العنف. ولو أن الأمر سيبقى في المدى المنظور مجرد محاولات تلطيفية لا أكثر، وخطوة متواضعة لإشاعة أجواء من الطمأنينة والسلام، وخاصة حين تتأمن الاحتياجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، حيث يمكن التفكير بما هو أبعد من ذلك من احتياجات عقلية وروحية.
ولم يجرِ الأمر على وتيرة واحدة تاريخيًا، فقد يحدث تفاقم ملموس لمستويات الكراهية في ظل الحكم المطلق، بسبب ما يفرزه من صنوف المظالم وما تخلفه من أحقاد، وبما يعاكس ما هدفت إليه التنظيمات الاجتماعية في بداياتها. ومن حسن الحظ، مرة ثانية، أن النظم المطلقة هذه، وبفضل نضالات البشر ودفاع نخبهم عن قيم الكرامة الإنسانية والعدالة خلال مئات السنين، لم تلبث أن تطورت إلى نقيضتها الديمقراطية.
وحتى ننتقل إلى مستوى سياسي أكثر ملموسية، أرى أن مصدر الكراهية الأساسي في وقتنا الراهن هي الأنظمة المستبدة، الدينية والدنيوية، ويصبح الأمر أكثر كارثية وخطورة إن اجتمعت هذه وتلك، فلا تكون ثمة رحمة لا على الأرض ولا من السماء، فتحدث موجات متواصلة من الكراهية كما هو حاصل في بلدان منطقتنا ومنها سورية. إن فهم الأسباب الرئيسة للكراهية يحيلنا إلى البحث عن مخارج وحلول مناسبة، عوضًا عن تشتيت الجهود في معارك جانبية لا تخدم سوى تجار الدم وقوى الاستبداد والاستغلال.
تعمل المنظومات المستبدة الدينية والدنيوية على التفرقة والتمييز وفرض الرأي والإلزام والمراقبة والتدخل في حياة الأفراد الخاصة وضبط حركاتهم وقولبة تصرفاتهم. ومع أن للدين بعدًا آخر، روحيًا، فهو قلما يتجلى في أوقات الصراعات والحروب، والتي لم تنطفئ إلا لتشتعل من جديد. في هذه الأوقات والأجواء تخيم الكراهية على العلاقات بين الأفراد ولو تم تمويهها بالمجاملات أحيانًا. لكن أكثر تجليات الكراهية خطورة تتمثل في ثقافة الموت التي تنتشر في منطقتنا كتهديد للحياة ذاتها، من خلال تقديس الموت بأشكال وحجج شتى. كما أن ثقافة الاستشهاد، كتعبير ملطف من ثقافة الموت، يمكن حصرها في حالة الدفاع عن الأوطان، لا تعميمها لتصبح هدفًا بحد ذاته.
وفي غياب أفق التطور والمخارج ذات الصلة بمصالح الناس، كما في سورية حاليًا، لم تطل أمراض الكراهية الناس العاديين فقط، بل وتحولت إلى أمراض عضال عند “النخب” الاجتماعية والسياسية، حيث تتكثف الكراهية في أذهان هؤلاء ويساهمون في تسويقها على نطاق واسع، عوضًا أن يكونوا طليعة العاملين على الخروج من أسرها إلى ما يساعد على الشفاء منها.
لقد عمل انتشار وسائل التواصل الحديثة على سرعة انتشار المعلومات وتداولها، واستفاد من ذلك أيضًا مسوقو العصبيات على أنواعها، فانتشرت الكراهية بصورة غير مسبوقة، وكان لسورية حصة وازنة منها بسبب انقسام السوريين والحرب متعددة الأطراف والأهداف على أرضهم. لكن حملات الكراهية هذه قد تجاوزت مرحلة الذروة على ما يبدو، فبدأت بالخمود بعد تراجع المعارك على الأرض والاستقطابات الحادة المرافقة لها. وإذا كانت الكراهية هي إحدى تجليات الصراعات والحروب، فلا مخرج عبرها إلا من خلال نقيضها، قيم المحبة والتسامح، والتي ستسود كلما تم تنظيم العلاقات الاجتماعية سياسيًا بما يقلل من المظالم ويحقق بيئة سليمة لينمو فيها الفرد، بعيدًا عن القيود التي تسبب له أي نوع من الإعاقة الذهنية، وهذا ما يجب أن تنشده وتعمل على تحقيقه دولة المواطنة والقانون.
_____
(*) منير شحود: كاتب سوري، دكتور في الطب، دكتوراه فلسفة في الطب، مدرس في عدة جامعات سورية وعربية، مؤلف ومترجم عدد من الكتب.