خطاب الكراهية

“خطاب الكراهية” وتعاظم وتيرته مع توسّع انتشار شبكات التواصل الاجتماعى هو من أصعب الظواهر الاجتماعيّة فى العصر الحديث. وقد اضطرّ الأمين العام للأمم المتحدة إلى وضع استراتيجيّة لمناهضته نظرًا “للتوجّهات المقلقة المتمثّلة فى تزايد كره الأجانب، والعنصرية والتعصّب، والعنف تجاه النساء، ومعاداة السامية، والكراهية ضد المسلمين في جميع أنحاء العالم”، بحيث بات يشكّل في كلّ مكان “تهديدًا للقيم الديمقراطية والاستقرار الاجتماعى والسلام”. هذا مع اعترافه بأنّ مناهضة هذا الخطاب مسألة حساسة وصعبة دون التعرّض للحريّات العامّة وفى مقدّمتها حريّة التعبير

وقد كان الفيلسوف ميشيل فوكو قد بيّن أنّ “خطاب الكراهية ليس ترجمةً بسيطة للصراعات وأنظمة الهيمنة، بل هو غاية الصراع والوسيلة التى يتمّ الصراع عبرها”. لقد استخدمته النازيّة في الماضى لاستنهاض الشعب الألماني من أزمته وفرض هيمنتها عليه ثمّ على أوروبا. وكذلك استخدمته الصهيونيّة بالمقابل، وما زالت، لبسط سيطرتها على أرض فلسطين وطرد الشعب الفلسطينى منها رويدًا رويدًا. ولكنّ خطاب الكراهية ليس حكرًا على مشاريع الهيمنة الاستعماريّة.

فها هو الإعلام الفرنسى يضع أمام مستمعيه ومستمعاته يوميًا وفي بداية نشراته أقوال “خطاب كراهية” لمتحدّرٍ من أصول جزائريّة يستنهض “الهويّة الفرنسيّة” ضدّ اللاجئين واللاجئات. علمًا أنّ فرنسا كانت من أقلّ الدول الأوروبيّة استقبالًا لهؤلاء اللاجئين واللاجئات، ومشكلتها الاجتماعيّة ليست معهم بل مع أبناء الجيل الثالث المتحدّر من أصول مغربيّة عربيّة ومسلمة، الذين يحملون الجنسيّة الفرنسيّة ولكن لم يعرف المجتمع الفرنسى كيف يدمجهم فى هويّته… أو يدمج هويّتهم ضمنه. وانتهى الأمر بوصول أكبر نسبة تاريخيّة من اليمين المتطرّف إلى البرلمان الفرنسى.

هكذا إنّ “خطاب الكراهيّة” يدلّ أيضًا على عجزٍ بنيوى مجتمعى. عجزٌ عن تصوّر المجتمع لواقعه والتطوّرات التى يعيشها. هكذا يختلق “مؤامرات” وهميّة ويخلق “مخاطر” مفترضة لا يُمكن تجاوزها من قبل فئات معيّنة من مجتمعه. هكذا تستفيد قوى مهيمنة من هذا العجز الذى يصيب جزءًا من المجتمع بغية تحويل الانتباه عن إشكاليّات الهيمنة الحقيقيّة كي تأخذ إلى وضع هذه المؤامرات والمخاطر الوهميّة وسيلةً للزجّ فى صراعٍ لا أفق له.

منذ عشر سنوات استقبلت تركيا أعدادًا كبيرة من اللاجئين واللاجئات… سورييّن وعراقيين وأفغان وغيرهم. وشكّلوا فى بعض المناطق جزءًا مشهودًا من السكّان، خاصّةً في جنوب شرق الأناضول على الحدود مع سوريا والعراق. لكنّها لم تعرف تنامى “خطاب كراهية” ضدّهم سوى مؤخّرًا. بالطبع، هناك دور أساسي في ذلك للأزمة الاقتصاديّة المتمثّلة بالارتفاع الكبير لمستويات التضخّم. لكنّ “خطاب الكراهية” استنبط إشكاليات ضمن المجتمع التركى. فقد عاش فى السنوات الأخيرة الرفض “الوقح”، حسب التعبير التركي، لإدماجه الموعود ضمن الاتحاد الأوروبي لأنّه “مختلف” و”مسلم” فى أغلبيته. في حين يرى اليوم كيف اندفعت أوروبا للحرب من أجل دمج الشعب الأوكرانى “السلافيين” في أوروبا لأنّه يُفترض أنّهم “شقر وذوو عيون زرقاء”. ثمّ انخرط الأتراك لوهلة ضمن حلم “عثماني” جديد، متناسين أنّ الامبراطوريّة العثمانيّة كانت متعدّدة القوميّات والأديان والمذاهب. واليوم يتداعى هذا الحلم ويعود المجتمع ليواجه أنّ في تركيا اليوم قوميّتين أساسيّتين، تركيّة وكرديّة… مع أخرى عربيّة أضعف.

لبنان استقبل لاجئات ولاجئين سوريين بنسبةٍ أكبر لسكّانه. “خطاب الكراهية” قديم ومتأصّلٌ فيه بين فئات مجتمعه. خطاب ضمني غالبًا يعزّزه جهلٌ بتنوّع المجتمع اللبنانى وموروثاته، يواكبه جهلٌ بالمجتمع السورى وموروثاته. وغالبًا ما يبرز أقوى وأقسى بين من كان سوريّا وتجنّس لبنانيًّا. زعماء الطوائف يُستنهَضون «خطاب الكراهية» بين الشعب اللبنانى في زمن الانتخابات، كي يَبقى هؤلاء على هيمنتهم على مؤسّسات الدولة وبالتالي على اقتسام الريوع. أمّا “خطاب الكراهية” تجاه الشعب السورى فليس جديدًا، ويرتبط فى كيفيّة نشوء البلدين وانقسام مجتمعٍ كان واحدًا وإن متعدّدًا. هكذا هاجر كثيرٌ من موارنة حلب إلى لبنان سابقًا واختاروا أن يكونوا لبنانيين وفى ذاكرتهم “الطوشة” (المعمعة) التى حدثت عام 1861، في حين اختار شيعيّون يقطنون في قرى وادى العاصى السوريّة قرب القصير أن يبقوا لبنانيين ويستفيدوا من الإصلاح الزراعي الذى جرى فى أوائل الستينيات. طرابلس ترتبط اجتماعيًّا بحمص ودمشق والساحل السورى ورفضت فى البداية، ضمن أقضية أربعة، الانضواء ضمن إطار الدولة اللبنانيّة. إلاّ أنّ القصف الذى تعرّضت له من قبل الجيش السورى جعل لبنانيّتها تضاهى… بكفيّا.

بعد الحرب الأهليّة، تغذّى “خطاب الكراهية” تجاه السوريين من تواجد الجيش السوري في لبنان ومن انبطاح القادة اللبنانيين أمام ضبّاط الأمن السوريين. فانصبّت “الكراهيّة” حينها على العمّال السوريين البسطاء، ذوى الأصول الريفيّة، الذين كانوا يأتون بمئات الآلاف موسميًّا للعمل بقطاعات البناء والزراعة والصناعة. فكان خطابًا “طبقيًّا” بمعنى ما، أرباب عمل تجاه عمّال يرضون بالمهانة من أجل بضعة دولارات، ولبنانيّون أضحوا “حضريّين” في طبيعتهم رغم تعلّقهم بقراهم مقابل “فلاّحين” من السهول.

لكنّ هذا لم يمنع لبنان من استقبال اللاجئات واللاجئين السوريين الهاربين من الحرب في بلادهم بأعدادٍ كبيرة. لقد توزّعوا على المناطق اللبنانيّة خاصّةً انطلاقًا من علاقات القربى وعلاقات العمل السابقة. لم يكن جميعهم مناهضين للسلطة السورية القائمة، بل تهجّروا من مدنهم وقراهم بسبب الحرب والدمار، وكذلك من القتال الذى أخذ في بعض المناطق طابعا “أهليّا”.

لم يعُد “خطاب الكراهية” تجاه السوريات والسوريين في لبنان إلاّ مؤخّرًا بعد سنتين ونصف على الانهيار المالي. لقد فشلت «الثورة» التى أطلقها الشعب اللبناني على من أضاع اقتصادهم ومدخّراتهم ومستقبل أبنائهم وبناتهم. وتفكّكّت هذه “الثورة” رغم تصميمها على مناهضة جميع أمراء الحرب، “كلّهم يعني كلّهم”، للعودة للمهاترات الطائفيّة، ثمّ للانتقال نحو توجيه تهمة تسبّب اللاجئين بالأزمة المالية. “خطاب كراهية” متعدّد الاتجاهات كصدى لفشل المجتمع اللبناني في تغيير واقع حكمه رغم قسوة الأزمة التي أُخِذَ إليها، ولا يفيد سوى فى استمرار تدهور أوضاع لبنان وبقاء من يهيمنون عليه فى السلطة. وما يزيد “الطين بلّة” هو انخراط بعض المؤسّسات الدينيّة فى تغذية “خطاب الكراهية”.

لتعُد اللاجئات واللاجئون السوريوّن إلى سورية. ولتقُم الحكومتان اللبنانيّة والسوريّة بمسئوليّاتهما تجاههم. ولتسجّل كلاهما المواليد الجدُد كي يكتسبوا “هويّة”. ولتتوقّف كلاهما عن التلاعب بحريّاتهم. وليتمّ إعمار القرى والبلدات التى خرجوا منها. ولتتوقّف الولايات المتحدة وأوروبا عن العقوبات الاقتصاديّة وعن منع إعادة الإعمار.

هذا غير متوقّع على الأمد القريب. ولكنّه حتّى لو حصل لن يحلّ مشكلة لبنان الحاليّة. فستتوقّف المساعدات الدوليّة بالعملة الصعبة للبنان لاحتواء اللاجئين واللاجئات، وسيخسر لبنان يدًا عاملة رخيصة ترضى بالاستغلال لأنّ لا أفق لها. في حين سيستفيق الشعب اللبنانى ويتساءل: وماذا بعد؟

لا مستقبل للبنان دون سورية. ولا مستقبل لسورية دون لبنان.

(*) سمير العيطة: رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب.

(*) يُنشر بإذن خاص من الكاتب

https://bit.ly/3EQGIaf

سمير العيطة
سمير العيطة
المقالات: 1