خطاب الكراهية بين جذوره الفردية وأسبابه السوسيوسياسية

أشتد خطاب الكراهية في السنوات الأخيرة في مجتمعات عدة في العالم، وأكثرها وضوحًا في العالم العربي والإسلامي بصورة عامة وفي المجتمعات ذات التنوع القومي والإثني والديني وما يتبعه من مذهبي، وبعد أن كنا نتغنى ونفتخر لهذا التنوع الجميل ونعتبره فسيفساء جميل يرفد الثقافة الوطنية والمجتمع بمصادر التنوع والثراء ويعبر عن التسامح في التعايش وقبول الآخر المختلف، أصبح اليوم من الأسباب التي تهدد السلم المجتمعي وينذر بتفكيك المجتمعات وانكفائها دينيًا ومذهبيًا وإثنيًا. وبالتأكيد فإن الأسباب لا تكمن في ذات التنوع، بل في مجمل السياسات والمنعطفات الخطيرة التي تمر بها المجتمعات العربية والإسلامية، والتي أدت في مجملها إلى تحويل هذا التنوع إلى مجموعات منعزلة تلغي بعضها الآخر عبر التكفير والترهيب والقمع وعدم الاعتراف بالمكونات المجتمعية المختلفة في المجتمع الواحد !!!
والكراهية كما ترد في إحدى تعريفاتها بأنها المشاعر الانسحابية التي يصاحبها اشمئزاز شديد، نفور وعداوة أو عدم تعاطف مع شخص ما أو شيء أو حتى ظاهرة معينة، تعزو عمومًا إلى رغبة في تجنب، عزل، نقل أو تدمير الشيء المكروه، يمكن أن يبنى على الخوف من غرض معين أو ماضي سلبي نتج عن التعامل مع ذلك الغرض، يمكن للناس أن يشعروا بالنزوع أو المشاعر أو الأفكار التي تستلزم الكره، كعلاقة الكره والحب. أحيانا يستخدم لفظ “الكراهية” عرضًا للمبالغة في وصف شيء لا يطيقه شخص ما، مثل شكل معماري معين، حالة طقس، وظيفة معينة وحتى بعض أنواع الطعام. وتستخدم كذلك لفظة الكراهية لوصف إجحاف أو حكم مسبق، تعصب أو إدانة تجاه فئة أو طبقة من الناس وأعضاء هذه الفئة، والكراهية العنصرية والقومية والدينية والمذهبية والسياسية هي من أخطر أشكال هذه الكراهية ومن الممكن أن تسبب في تدمير كل البشر إذا استقرت وتحجرت في عقول الكارهين بدون حل لشفرتها ومسبباتها ووضع برامج شاملة لردعها وحصرها في نطاق محدود!!!.
وإذا كان العنف باعتباره المظهر الصارخ في التعبير عن كراهية الآخر، والذي يقترن باستخدام القوة الفيزيائية، فهو ذلك الآفة الاجتماعية المانعة للوحدة المجتمعية والمحرضة على شيوع القسوة بين الناس ومنع المودة وزرع الأحقاد الفردية والجماعية بين مكونات المجتمع الواحد بكل تنوعانه السياسية والمذهبية والاثنية، وهو لم يكن بشكله هذا يومًا ما فطريًا ومتأصلًا في الطبيعة الإنسانية، بل هو نتاجًا معقدًا لمنظومة من العوامل الاجتماعية والتربوية والحكومية والإعلامية، والتي تعمل جاهدة في صياغة عقل وحيد الجانب لا يرغب في المعايشة والتكيف مع التنوع الفكري والعقلي والثقافي في البيئة المحيطة، ومن هنا صح قول عالم النفس السلوكي “سكينر” إن العنف يبدأ في الرؤوس قبل استخدام الفؤوس.
وإذا كانت الكراهية في بعض الأحيان مزاجًا كامنًا غير معبر عنه في العلن بسلوكيات مطابقة له، فأن العنف العيني باعتباره معبرًا عن الكراهية بأساليب مختلفة يعتبر لغة التخاطب الأخيرة مع الواقع ومع الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي في ظل ظروف بيئية غير مواتية للحوار المتبادل يسودها الاحتقان وعدم احترام حرية الرأي والرأي الآخر. والعنف من الناحية النفسية هو صورة من صور القصور الذهني حيال موقف معين، والعنف وجه آخر من أوجه النقص التقني في الأسلوب والإبداع في حل ومواجهة معضلة وقد يصل العنف لمرحلة الانهيار العقلي والجنون “فصام العقل” كما قد يكون وسيلة من وسائل العقوبة والتأديب أو صورة من صور تأنيب الضمير على جرم أو خطيئة مرتكبة ولن يتعدى في كل أحواله القصور الذهني والفكري لدى الإنسان وهو في حالة من حالاته اضطراب في إفرازات الغدد الهرمونية في جسم الفرد وعدم تناسب أو انتظام في التوزيع الهرموني داخل الجسم الذي قد ينتج أحيانًا عن سوء في التغذية أو سوء اختيار نوعيتها.
ومن الناحية النشوئية والإنمائية يرى علماء النفس أن الطفل لا يكون قادرًا على إتيان أفعال الخير أو الشر إلا بعد أن تشكل الأنا وينمو الوعي بالذات لديه، وطالما لم يكن للأنا عنده معنى ظلت أفعاله محايدة من الناحية الأخلاقية، لا تقبل إصدار أي حكم أخلاقي بشأنها، بحيث يمكن القول أن للطفل طبيعة، ولكنه لا يمتلك مزاجًا أخلاقيًا. إن الخير والشر هما من الإمكانيات التي تنطوي عليها طبيعة الطفل، ومع تنامي الوعي بالذات تنتقل من الإمكان إلى الفعل، وتفصح عن نفسها في شكل سمات المزاج الثابتة نسبيا. حينئذ فقط يمكن القول عن الشخص بأنه فاضل أو رزيل، عدواني ومسالم، ويصبح الخير أو الشر وظيفة من وظائف الأنا. ويتوقف تشكل هذه الوظائف ونموها على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي خضع لها الطفل، فقد تكون من النوع الذي يساعد على تنامي هذه السمة أو تلك أو من النوع الذي يحول دون ذلك!!!.
وتتأثر عملية التنشئة الاجتماعية بمنظومة من العوامل المتشابكة والمتداخلة، ابتداء من ولادة الطفل ونشأته الأولى في البيت والأسرة متأثرة بعوامل مختلفة كالقسوة وعنف التربية والحرمان الطفولي في إشباع الحاجات المختلفة النفسية منها، كالأمن والأمان والاحترام والاستقلالية، وكذلك الحاجات المادية من تغذية مناسبة وملبس وسكن والخلو من الأمراض المزمنة وغيرها، ثم الدائرة الثقافية والبيئية ومدى غنائها بعوامل التنشئة الايجابية أو العكس، مرورًا بالنظام التربوي والتعليمي باعتباره المصدر لمنظومة القيم والاتجاهات السلوكية المختلفة، ومدى إمكانياته في الاعتراف الفعلي بالشخصية الإنسانية وتنميتها على روح الحوار البناء وتقبل الآراء المغايرة، وكذلك تتأثر عملية التنشئة الاجتماعية بعوامل القهر الاجتماعي العام الذي يتعرض له الأفراد، من اغتصاب للحقوق وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وعدم احترام الأقليات الدينية والعرقية والسياسية والفكرية، وجميعها عوامل مولدة للعنف والعدوان والشر على نطاق واسع وعلى المستوى الفردي والاجتماعي وبمدى خطير يصعب التنبؤ بنتائجه الضارة. ومهما تكن أسباب العنف ودوافعه فهو فعل سلوكي مرفوض حضاريًا وأخلاقيًا وسلوكيًا واجتماعيًا، وهو مؤشر خطير للتفكك الاجتماعي وزرع الخوف والقلق في الطرف الآخر الذي يقع عليه فعل العدوان، إلى جانب كونه وسيلة منبوذة لحل المشكلات لأنه يخلق عنفًا مضادًا فتتسع دائرة العنف كالنار في الهشيم في كل ثنايا ومكونات المجتمع!!!.
أما بالنسبة لثقافة العنف والكراهية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم وعلى المستوى الفردي والمجتمعي والسياسي فهو لا يخرج عن الإطار العام الذي تمت الإشارة إليه، ولكن بخصوصية أعمق وتركيز شديد هو نتاج معقد لمنظومة العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتي ألقت بضلالها الكثيف في تشكيل هذا السلوك المعرقل لنهضتها في مختلف المجالات. فإذا استثنينا العمق التاريخي ـ الثقافي في نشأة العنف والعدوان والمتمثل في الصراعات السياسية منذ نشأة الدولة الإسلامية الكبيرة والصراعات التي جرت في أكنافها، وحتى ما قبل ذلك التاريخ، والتي أسست للعنف والعنف المتبادل والتي أدت في مجملها إلى انقسام الأمة الإسلامية والعربية إلى فرق وأحزاب متقاتلة، والتي لا زالت آثارها ماثلة ومؤثرة بشدة اليوم في حاضر الأمة ومشهدها السياسي، وإذا أبعدنا أيضا عن السياق جوهر تأثيرات المجتمعات العربية الأبوية البطريركية وتأسيسها للعنف والتسلط ضد المرأة الزوجة والمرأة الإنسانة والأخت، وإشاعة قيم الذكورة التي تنزل القصاص بقيم الأنوثة وتفرض قيودها وقيمها كيف ومتى ما تشاء، وتفرض قيم الإكراه والقسر والتقيد وعدم المساواة بالعنف والقوة، وهو نقيض قيم المساواة والرحمة، وجميعها تؤسس للعنف وإعادة توليده في رحم الأسرة أولًا، ثم لاحقًا وعلى أساسه في عقول أفراد المجتمع وقياداته، فإن العنف في العقود الأخيرة نشأ مستشريًا على خلفية فكرية ودينية وسياسية، وهو ذو أبعاد جمعية خطيرة لرسم صورة المستقبل!!!.
لقد سيطرت لعقود طويلة حكومات عربية ذات طبيعة اقصائية متمثلة بحكومات الحزب الواحد ذو المسحة القومية الشوفينية والوطنية الزائفة والبعض منها متلبس بلباس الدين، وقد شنت حروبًا داخلية ضد كل الأفكار والتنظيمات السياسية المغايرة لتوجهاتها، مستخدمة ذرائع الحفاظ على الوطن والوطنية وإنجاز “التنمية” الاقتصادية والاجتماعية تحت قيادتها التاريخية والحكيمة والمخلصة للوطن هي وحدها فقط، مما حصر وكرس مفهوم الوطن والوطنية والبناء الاجتماعي بجهة سياسية واحدة تدعي المقدرة الفريدة في قيادة المجتمع، وقد ترتب على ذلك القيام بحملات العنف والاعتقال والإبادة الجماعية لكل من يخالفها في الآراء والتوجهات السياسية وتخوين المعارضة السياسية والتشكيك بوطنيتها وزجها في غياهب السجون والمعتقلات، مما أسست إلى ظاهرة العنف والعنف المتبادل لحماية النفس من قبل الطرف الآخر الضحية. وقد لعبت لديها الهواجس الأمنية وافتعال الأعداء في الداخل والخارج جل اهتمامها مستنزفة موارد البلاد المالية لزرع الرعب والتنكيل بالشعب لأغراض البقاء في الحكم مهما بلغت تضحيات الشعب، كما استخدمت كافة قدراتها الحكومية من مؤسسات إعلامية ومنظمات سياسية رسمية موالية لها وحتى مؤسساتها الدينية من أجل تعبئة الناس وغسل أدمغتهم لأغراض احتكار السلطة والبقاء فيها وإشاعة الفساد الإداري والأخلاقي والمالي وممارسة الالتفاف والتلفيق والخداع والكذب كآلية للبقاء في الحكم، وخلق منظومة قيمية موالية لمنظومة الحكم، مما أدى هذا إلى خلق حالات من الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع المختلفة، وخاصة بين الشرائح المنتفعة من النظام والشرائح الأخرى المتضررة منه!!!.
كما يلعب اليوم الخطاب الديني المتطرف بشقيه التكفيري والسياسي دورًا خطيرًا في زرع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع، سواء من ذات الدين الواحد عبر إشاعة الفرقة بين طوائفه ومذاهبه المتنوعة، وكذلك بين المجتمع المتعدد الديانات عبر فرض أجندة دينية وسياسية – دينية وحيدة الرؤى، مما يحرم الآخرين من حق التمتع بممارسة حقوقهم الدينية وحريتهم في المعتقد، ويخلق بيئة مواتية للعنف والعنف المضاد تراق فيه دماء الملايين من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة. وبما أن الكراهية والعنف منبوذ ومدان في كل القيم والأديان السماوية وغير السماوية فأن اللجوء إلى تأويلات متشددة ومتحيزة ومزاجية بل ومصلحيه للنص المقدس وللأحداث التاريخية والافتراضات العبثية لنيات الآخرين المغايرين في الدين أو المذهب واستحضار الجانب المؤلم والمشكل في التاريخ، ويجري هذا متزامنًا مع الفتاوى التي تصدر يوميا في الخفاء والعلن من دعاة الدين لأيقاظ وإلهاب روح الكراهية والتحريض والعنف بين الناس وضرب وحدتهم الوطنية في الصميم، وهكذا يتحول العنف من قيمة منبوذة في الدين والسياسة إلى واجب ديني “الهي” وسياسي له الأولوية في عقول المتطرفين على بناء الوطن ونهضته. وقد لعبت آثار ما يسمى “بالربيع العربي” دورًا تخريبيًا في إشعال نار الفتنة الدينية والمذهبية بين أبناء المجتمع الواحد، وزج هذه المجتمعات في آتون الصراعات الاقليمية ذات الصبغة الطائفية المدمرة.
وكذلك نظرية المؤامرة في السلوك اتجاه الآخر هي الأخرى تؤسس للكراهية والتحامل والعنف بين أفراد المجتمع الواحد، وكذلك في النظر إلى العالم الخارجي، دول ومجتمعات وأفراد، وقد نشأ سلوك المؤامرة في داخل المجتمعات الذي تجسده انعدام الثقة بالآخر والشك في نية أفعاله حتى وان كانت “حسنة” على خلفية انعدام الثقة التاريخي بين النظام السياسي وبين الشعب بصورة عامة، وبين النظام السياسي والأحزاب السياسية خارج النظام، وينشأ نتيجة لذلك فكرًا وسلوكًا إسقاطيًا، أي ما أفكر به أنا هو الصحيح وأتوقعه من الطرف الاخر وبالتالي يجب أن أقوم بضربة استباقية قبل أن يبدأ بها الطرف الاخر، مما يعزز اتجاه الكراهية والعدوان بين المنظومة المجتمعية بمكوناتها المختلفة!!!.
ويشكل تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأسباب القوية في زرع الكراهية والعنف في البنية المجتمعية، فانتشار الفقر وتدني مستوى الحياة وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وخدمات عامة، وكذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والحضارية بين مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة منها، واستشراء الفساد بمختلف مظاهره الإدارية والمالية والأخلاقية، وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واستئثار الحكم وحاشيته بالثروة الوطنية، جميعها عوامل تأسس للكراهية والحقد والعنف بين مكونات المجتمع!!!.
أن العنف والكراهية الناتجة من الأسباب المجتمعة والمذكورة أعلاه تفضي إلى اضطراب في منهجية التفكير النقدي البناء وقصور في الفكر الجدلي الذي تجسده حالة العجز في الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة، والعجز في الجمع بين المميزات والعيوب لمسألة ما سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية وسيطرة المستوى السطحي من التفكير الذي يشكل قناعًا يخفي الحقيقة، وإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل، وطغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية والعودة إلى المستوى الخرافي، والى الحلول السحرية والغيبية، والى الإرهاب باعتباره واجبًا “مقدسًا” أو حلًا قسريًا للأزمة النفسية والسياسية.
ومن هنا تأتي أهمية العمل على أكثر من صعيد وعلى أكثر من جبهة للحد من العنف وسلوك الكراهية، وخاصة في ظروف التغير العاصف الذي يمر به اليوم العالم العربي ولكي لا نخسر ما تبقى لنا، فهناك جبهة بناء المؤسسات الديمقراطية، وجبهة إعادة البناء الاقتصادي والتأسيس الحديث للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، وهناك جبهة الإعلام والتركيز على ما هو مشترك وايجابي بين الأديان وشعوب المنطقة، وكذلك الجبهة التربوية والتعليمية وإعادة بناء نظم التعليم على أسس الحداثة ومعطيات العلم والتقدم التقني، وهناك أيضًا إعادة صياغة لعلاقة الدين بالدولة بما يؤمن احترام الدين وعدم استخدامه في السياسية وكذلك إعلان القطيعة مع كل موروث مسبب للفتنة ويسئ للمبادئ العامة للدين ووظيفته الفطرية.

(*) د. عامر صالح:  أكاديمي وباحث عراقي، دكتوراه فلسفة في التربية وعلم النفس.

(*) يُنشر بإذن خاص من الكاتب

https://bit.ly/45ZJ6Y4

عامر صالح
عامر صالح
المقالات: 1