خطاب الكراهية حطب الحرب

في أي بلد، وفي أي ملّة أو مدينة أو حتى قبيلة، كثيرًا ما تبدأ الحرب بكلمة وتنتهي بكلمة، وفيما بينهما تستمرُّ وتستعِرُ بالكلمات. فالخطاب الذي يُلغي الآخر، ويُقصي المنافس، ويُهين الخصم، يكبر ويتكاثر. مثله كمَثل البركان، يبدأ بخيط دخان، وينتهي بمحرقة. ومَن يتبنّ خطاب الكراهية في الأزمات والحروب، فكمَن يُطفئ النيران بمادة البنزين.

إن التراشق بالكلمات كالتراشق بالرصاص، إن لم يَقتل فإنه يُمهّد للقتال، ويعمل على ديمومته. وليس كل من ينجو من تأثيره، يكون بالضرورة بخير. فالكثير مُعاقون/ات نفسيًا أو جسديًا أو معنويًا أو اجتماعيًا، بسبب هذا الصراع اللفظي، الذي قد يتحوّل في أحيان كثيرة من سياسي إلى عنصري وطائفي، حتى ديني. وكالثأر، تتّسع دائرته كلّما دام، ليتحوّل إلى منصّة لتبادل النيران.

لا نزال نتذكر -على سبيل المثال- الحرب الكلامية بين بعض زعماء الدول العربية، في قمم عربية سابقة، كيف مهّدت لحروب طاحنة، أسقطت دولًا وأنظمة. أيضًا لا نزال نعيش اليوم واقعًا بائسًا وتجربة مُرّة، نتيجة خطاب الكراهية، الذي أطلقته بعض النُّخب على إثر اندلاع أحداث “الربيع العربي”، وتلقّفته الكثير من الجماهير بشغف، ليتحول إلى حديد ونار على أرض الواقع.

في اليمن، وعبر تجربة بسيطة وخاطفة، للاطلاع على الصحف والمواقع الإلكترونية اليمنية، قبل “عاصفة الحزم”؛ نجد كمًا هائلًا من الألفاظ التي تُهين وتُحقِّر الخصم، والنعوت المثقلة بالسلبية والازدراء، وأيضًا الكثير من المصطلحات التي عملت على تطييف الأزمة اليمنية، وحوّلتها من صراع سياسي على السلطة، إلى الحشد والتّمترس خلف أُطر مذهبية. ومع اندلاع الحرب، انجرّت العديد من المؤسسات الإعلامية العربية، والنُّخب أيضًا، لتبنّي فكرة الخطاب الطائفي، والتعاطي مع الحرب في اليمن.

لقد انعكست الأحداث في اليمن على اللغة الإعلامية والمشهد الإعلامي، كما انعكس بالضبط خطاب الكراهية على الأحداث ذاتها؛ ما أدّى إلى تأجيج المشاعر الطائفية تحديدًا، مع ما يتضمّن هذا التأجيج من رفض للآخر، والحضّ والتحريض بناءً على خصائص، كالعنصر أو اللون أو النطاق الجغرافي أو الانتماء القبلي أو الأصل القومي أو الجنس أو الإيديولوجيا السياسية أو المذهبية.

ما يحدث في اليمن ليس جديدًا؛ إنما هو امتداد للخطاب الطائفي في أكثر من بلد عربي، وحلقة في سلسلة الجرائم والفظائع على المستوى العالمي، التي أفرزها خطاب الكراهية، بدءًا من رواندا إلى البوسنة وكمبوديا، وليس انتهاءً بما جرى أخيرًا في العراق وجمهورية أفريقيا الوسطى وسريلانكا ونيوزيلندا ونيس في فرنسا. لكن الضحية هذه المرة، هي المواطن اليمني، الذي يجد نفسه ميتًا على إثر تفجير مسجد أو مدرسة، لأسباب سياسية أو مذهبية. وإنْ نجا، يتخندق مع هذا الطرف أو ذاك، تحت تأثير نفس الخطاب الذي تصدح به المنابر الإعلامية والدينية، ويُردّده الشعبويّون/ات بلا سقف.

المقصود بخطاب الكراهيَة -كما تقول الباحثة اللبنانية في تحليل الخطاب، الدكتورة جوسلين نادر-، هو: “ذلك الخطاب الذي يسعى إلى التخويف، والحض على العنف والتحيّز ضد شخص أو مجموعة أشخاص بناءً على خصائص مختلفة: عِرق، دين، جنس… إلخ. وهو بهذا المعنى يتناقض مع مبادئ السِّلم الأهلي، ويتسبّب بتفكّك المجتمع، وبنشوء مختلف أنواع النزاعات”.

إننا في ظل الثورة الرقمية الواسعة والمتطورة، التي جعلت من مواقع التواصل الاجتماعي المنصّة الاجتماعية الأولى، فضلًا عن وسائل الإعلام التقليدية التي لا يزال التلفزيون هو المهيمن فيها – أمام خيارين: إمّا أن نستمر في التعاطي مع خطاب الكراهية بكافة أشكاله وصُوره، وخصوصًا الشحن المذهبي الذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بميول القوى السياسية المتصارعة وأجندتها، أو أن نجنح نحو ترشيد الخطاب، بما يمهد الطريق لحوار سياسي واجتماعي وثقافي، مبنيّ على قيم المواطنة وحقوق الإنسان وفضائل التنوع، في سبيل تحقيق السّلم الأهلي والعيش المشترك.

لا بد هنا من التفريق بين خطاب الكراهية والنقد السياسي، وبين التحريض على العنف والمطالبة بالعدالة والمساواة والإصلاحات؛ حيث إنه في إمكاننا عبر: خطبة، أو نشرة، أو تغريدة، أو عنوان، أو نصٍ، أو صورة، أو كاريكاتير… إلخ، أن نُنتج خطاب كراهية، أو خطاب سلام. وكما أن “النار بالعُودَينِ تُذْكى.. وإنّ الحرب أوَّلُها كلامُ” -بحسب الشاعر نصر الكناني-، فكذلك السلام يبدأ بلغة الحُبّ والسلام. أما إن استمر خطاب الكراهية إلى النهاية، فإن العنف والحرب سيستمرّان –يا للأسف- إلى ما ليس له نهاية.

(*) عمار الأشول: كاتب وصحافي يمني، يكتب في العديد من الصحف العربية والأجنبية.

(*) المصدر “تعددية”، منشور وفق سماح النشر المحدود (مشاع إبداعي)، مستوى 3.

https://bit.ly/3tl0Izb

عمار الأشول
عمار الأشول
المقالات: 1