ماذا لو استطعنا العودة بالزمن الى ما قبل الحرب السورية، فنستطيع من خلال ذلك العودة لتدوين كلماتنا التي كانت متداولة، ونستخدمها في حديثنا اليومي آنذاك. فمثلًا لو تطرق أحدنا للحديث عن الآخر وهو من مكونات الجزيرة السورية لكنه مغاير لأفكارنا أو آيدولوجياتنا، بماذا سنشعر، سؤال مفتوح ليس بالسهل الإجابة عليه!
أذكر جيداً أنني وقبل عام 2011 أي تحديدًا قبل الحرب في سورية، لم أكن أدرك التعددية الموجودة في مناطق شمال وشرق سورية كما يتم تداولها اليوم، حيث لم يصدف أن اعتدنا كأبناء المنطقة أن نسأل الآخر عندما نقابله ما هو دينك أو اثنيتك أو قوميتك! تساؤل آخر مفتوح يأخد بنا لأجوبة متعددة ربما!
من خلال تجربتي تعرضت لنقاشات عديدة عن مفهوم التنوع والتعددية كما ذكرت آنفًا، فكانت الأجوبة متعددة، بين من يقول إن هذه الصورة التي يتم الحديث عنها اليوم لم تكن موجودة في حقبة قبل الحرب، وهذا ربما يعرض الكثيرين من أصحاب الفكر المتعدد للتكذيب، برغم ذلك لم أصل ومن يفكر مثلي إلى درجة النكران، وهذا الأمر لم يدفعني للتمسك برأي بأن التنوع لم يكن موجودًا وأنا اتصفح تاريخ خطاب الكراهية وأطره في المنطقة.
مع كل هذا لن أخوض في الحديث عن خطاب الكراهية في الجزيرة السورية أو في شمال وشرق سورية، قبل وبعد الحرب، من منظور شخصي أو من مواقف شخصية صادفتها، لكن أستطيع جعلها تحليل للوضع الراهن، وأستطيع من خلال هذا التحليل بالغوص في زاوية لما حدث ويحدث ويسفر عن نتائج لانتشار خطاب الكراهية حاليًا.
كلمات كراهية… عفوية!!
في الثقافة والتراث المحكي المنتشر في المنطقة، نرى الكثير من علامات تشير لخطاب الكراهية بحسب تعريفه، وهذا التراث الذي أصبح ثقافة بات غير مدرك من قبل أصحابه، أنه ينشر خطاب كراهية وتحريض بوعي أو بدون وعي، فمثلًا لا نستطيع نكران أن اليوم نجد من يطلق عبارات فيها خطاب كراهية عبر نكران حق شعوب تقطن في الجزيرة السورية، كما تنفي انتماء هذه الفئات للمنطقة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما لا نستطيع أن ننكر أن المنطقة الشرقية كما كانت تسمى سابقًا واليوم شمال وشرق سورية، كانت تتعرض لنوع من العنصرية وخطاب كراهية أخذ صورة نمطية عن مدن المنطقة، تسير حتى اليوم، بأنها مثلًا منطقة نائية، وكانت محط سخرية لعديد من المناطق السورية الأخرى.
كما لم تخلُ المنطقة من عبارات تتضمن وسم اجتماعي وتنمر، على أساس اللون والعرق والقومية والدين والطائفة وحتى العشيرة والانتماء وصل لحد الفصل بين الأرياف والمدن، أيضًا خلال اقصاء لغات الآخرين ونمط حياتهم، والطقوس التي يمارسونها وعباداتهم، بل حتى في هندامهم ومأكلهم ومشربهم!
الأمر الذي يثير الاستغراب، أن القائمين على إطلاق الوسم الاجتماعي والتنمر، أصبحوا يستخدمون المصطلحات بشكل عفوي ومحكي دون أن يدركوا مدى الإساءة التي تلحق بفئات وتجمعات أهلية أخرى، وهذا إن دل على شيء، أن أي شيء متعلق بالبيئة والتربية يحتاج لمراجعة، وإلا فإن النعت والكلمة القاسية ستصبح متداولة وعفوية في ثقافة المجتمع دون إزالتها، وهذا يأخذنا لتساؤل هل حالة خطاب الكراهية فعلاً وليدة الحرب أم أنها كانت ثقافة سائدة، لا نستطيع لصق كل شيء بالحرب، فهناك أساس لكل خطاب كراهية، لكن الحرب قادرة على تأجيجه وهذا طبيعي، لكن في الأصل هناك أساس لهذا الخطاب يجب العمل عليه والاعتراف به.
إن عدم ملاحظة الفرد في المجتمع، للكلمات التي تحرض على خطاب الكراهية، لا يعني أنها غير موجودة، فإن لم تلحظ مثلًا أن هناك مصطلحات وأمثال وجمل مستخدمة من قبل الأجداد وتوارثها الأجيال الحالية، فيها خطاب كراهية، هذا لا يعني أنها لم تكن موجودة وتم توارثها، فعندما نأخذ كل شيء من الأوليين علينا إدراك التطور في المجتمعات وأن الكلمة كالرصاصة يجب مراجعتها قبل أن نطلقها بحق الآخرين!
وإذا ما عدنا لكلامنا الحالي في أيامنا الروتينية ودققنا به ووضعنا ورقة وقلم لنسجل فيها كل كلمة كراهية ننطق بها، سنجد منها الكثير المتداول دون أن ندرك ذلك، وهذا ليس بعفوي بالطبع، لكنه وبشكل أو بآخر متوارث بقصد أو دون قصد ويحتاج لمراجعة علمية.
واقع وردي وتاريخ مشرف!
زعم الكثيرين ممن يدعون أننا في سورية كنا نعيش حياة وردية، وأن السلام والسلم كانتا صفتين غالبتين على تاريخنا قبل الحرب. وحديث آخر عن أننا لم نعيش النزاعات والصراعات كما نعيشها اليوم، لكن في الحقيقة ما نلاحظه من خطاب كراهية منتشر اليوم لا يجزم نظرية هؤلاء، بل العكس نلاحظ أن خطاباتنا الاعتيادية التي تحض على الكراهية يعود جذرها لما قبل الحرب.
في السابق شمل الخوف حياة السوريين، فكان المجتمع يبحث عن حياة بسيطة دون الخوض في قضايا السياسة والرأي، وهذا منع الكثيرين من القدرة على المطالبة بحقوقهم، خوفًا من المجهول، ربما هذه البساطة جعلت من الصورة النمطية عن التعايش والتعددية تكون سائدة في حين أن الواقع كان عكس ما يتم البوح به.
أعتقد أن المجتمع يحتاج بشكل كبير إلى مراجعة تلك النظرة، والوقوف على الإشكاليات دون القفز عنها، لأن الوقوف عليها يدعم فكرة مكافحة خطاب الكراهية والتحريض على الأقل، بدلًا من تبيان أن الواقع إيجابي بينما ينتشر خطاب الكراهية بشكل عمودي وأفقي. مع أن هذا لا يعني أن بذور الحب والسلام غير متوفرة، فهذه متوفرة في كل وقت، إن كان هناك أسس، وهو أن التنوع والتعددية وطبيعة مجتمع الجزيرة السورية أو شمال وشرق سورية، ببساطتها وتقاربها واندماجها، قادرة على تحدي خطاب الكراهية ومحاربته واستبداله بنوع من السلم المجتمعي.
خطاب الكراهية لديه جذور مجتمعية
في خضم البحث في هذا السياق، نقصد في سياق استخدامنا لجمل تحض على الكراهية، والذي بدا يظهر انتشاره بكثرة في السنوات الأخيرة بمدن الجزيرة السورية أو شمال شرق سورية، نلاحظ أن هناك صورة متوارثة لدى البعض، ولدى البعض الآخر مفتعلة. فلو أجرينا فحص بدراسة شاملة للمنطقة، قبل الحرب، سنجد بذور الخطاب، عبر الوسم المجتمعي لجماعات أهلية، وحقوق مسلوبة لقوميات متعددة وأديان مختلفة، وفرض صورة واحدة على المجتمع بطابع الدين أو القومية!
فعلى سبيل المثال شعر بعض من عرب مسلمين حينها أنهم الشعب الذي يقود المجتمع، لذا كانت تكثر طرق الغوص في التحريض بقصد أو دون قصد، بينما شعرت شعوب أخرى بأنها غريبة عن مجتمعها، منفية لا تتمتع بحقوقها المجتمعية والمواطنة برغم أن الجميع يعيش على أرض واحدة، وجمعتهم هذه الأرض منذ عقود، وربما يعود جذر هذا الخطاب إلى أهداف القوى السياسية المتعاقبة على البلاد، التي لم تفكر بمنظور ديمقراطي للمجتمع بقدر التفكير بمنطق “فرق تسد”.
جميع التصرفات التي اتسمت بالكراهية والعنصرية، شكلت ردة فعل ومظلومية عند الآخر، ولم يتم تحليل هذه الحالة والخطاب، بنفس الوقت استطاعت جماعات أهلية التعامل مع الآخر بمبدأ الأخلاق والتنوع والتعددية، في محاولة لإظهار صورة بأن البشر قادرين على التعايش مع بعضهم البعض، وأن الكلمة الطيبة تستطيع أن تحل بدل خطاب الكراهية والتحريض.
جدير بالذكر أن الكائن البشري يخطئ ويلقن ويتعلم منذ طفولته على الكثير من الأشياء التي ربما لا تلائم الواقع المعاش، أو ما يتعرض له في الحياة اليومية، نقصد أن ليس كل شيء متوارث بالضرورة أن يكون الصورة الإيجابية للواقع وأن يكون الحقيقة الحتمية، في حين لو أدركنا أن خطاب الكراهية يشكل فجوة مجتمعية، آنذاك نستطيع أن نمتلك رغبة وإرادة في العمل على التخلص من خطاب الكراهية ومحاربته بالسلم والتنوع والتعددية.
(*) يُنشر بإذن خاص من شبكة الصحفيين الكُرد السوريين وشبكة آسو الإخبارية.
(**) نور الأحمد – نُشرت هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين وشبكة آسو الإخبارية في برنامج تعاون ضمن مشروع إعلام يجمعنا.