مصداقية الحامل السياسي ركيزة نجاح المشروع الوطني السوري

التقسيم الاعتباطي الذي تعرضت له منطقتنا بناء على المصالح الاستعمارية للدول الكبرى في أجواء تنامي النزعة القومية، وفي ظل ظروف التسابق بين هذه الأخيرة لتبيت قواعدها وتأثيرها في أنحاء مختلفة من العالم، خاصة في آسيا وافريقيا وأماكن أخرى، لم يؤد إلى تشوهات جغرافية وتداخلات سكانية فحسب، بل أدى إلى هيمنة أفكار وتوجهات أخذت مع الوقت صيغة أيديولوجيات رغبوية لم تكن تتناسب مع الوضعية الجديدة. ويفتقر دعاتها في الوقت ذاته إلى المقومات المطلوبة لتحويل تلك التوجهات إلى واقع ملموس قائم على الأرض؛ بل على النقيض من ذلك، كانت الممارسات الفعلية ضمن تلك الكيانات، سواء تلك التي اُنشئت  في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، أم تلك التي كانت موجودة قبلها، ومنها الدول العربية في أفريقيا التي كانت قد أُبعدت عن دائرة التبعية للدولة العثمانية.

واليوم، وبعد مرور أكثر من 100 عام على تشكيل الكيانات السياسية في شرق المتوسط، ومنها سورية؛ وبعد عقود من حصول هذه الدول على استقلالها، نلاحظ أن هذه الكيانات، لا سيما العسكرية منها التي اعتمدت النظام الجمهوري، والتزمت أيديولوجية قومية اشتراكية في مواجهة معارضيها من القوميين والشيوعيين والإسلاميين، قد نخرتها أوبئة الفساد والاستبداد؛ وجلبت الكوراث لشعوبها.

ورغم إخفاقاتها على جميع المستويات وفي مختلف الميادين، ما زالت الأنظمة المعنية متمسكة بالحكم، وتعتمد كل أشكال القمع لثني الشعوب عن المطالبة بحقوقها البدهية؛ وهي الحرية ومقومات العيش الكريم. ولا تكتفي هذه الأنظمة بأجهزتها القمعية وبالجيوش التي تم تشكيلها أصلًا بأموال ودماء وعرق جبين الشعوب ذاتها، بل فتحت المجال أمام مختلف القوى الأجنبية والميليشيات، وكل شذاذ الآفاق؛ لتقاتل إلى جانبها ضد شعوبها التوّاقة إلى حياة حرة كريمة، ومستقبل أفضل لأجيالها المقبلة.

وحتى نتجاوز دائرة العموميات، ومنعًا لبعثرة الجهد، سنركز على الوضع السوري باعتباره جرحنا المفتوح، ومعاناتنا المستمرة. فسورية التي قسمها الفرنسيون إلى دويلات بعناوين مختلفة، بعد أن كانت اتفاقية سايكس  بيكو 1916 قد قسمت سورية الطبيعية إلى كيانات سياسية أصبحت مع الوقت دولًا مرت بمراحل مختلفة، لم تستقر في أي مرحلة بصورة طبيعية، وإنما المشكلة التي عانت منها سورية دائمًا منذ بدايات تأسيسها إلى يومنا هذا تمثلت في اعتماد الأنظمة المتعاقبة على حكمها، إلى جانب معارضاتها، على تجييش الناس بشعارات وأيديولوجيات عابرة للحدود، لا تعترف بالوقائع التي فرضتها الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، وهي الدول التي باتت في يومنا الرهن أكثر تأثيرًا وقدرة على التدخل.

أما الأهداف التي توخّتها الأنظمة السورية المتعاقبة من تلك الشعارات والأيديولوجيات فقد تمثلت في مساعيها من أجل تثبيت نفسها، وشرعنة حكمها، ولأسباب كثيرة تبنّت معارضات تلك الأنظمة التوجهات والممارسات ذاتها، بل حاولت المزاودة حتى على الأنظمة التي كانت في خصومة معها.

ونتيجة لتراكم الأخطاء والسلبيات وعمليات الفساد، لا سيما الكبرى منها، تبلورت ملامح واقع جديد اتسم بالضعف والهشاشة، وانعدام قدرة الأنظمة على ممارسة السيادة الوطنية، خاصة في مرحلة حكم بشار الأسد الذي استعان بحليفه الإيراني لتصفية خصومه المحتملين في الداخل؛ وحتى في لبنان، ودفع الأمور نحو الفوضى الشاملة كما فعلوا في العراق، عبر الاستعانة بالمجموعات الإرهابية، وأيضًا بالتسيق مع الراعي الإيراني، وذلك لوضع العالم أمام بديلين فاسدين: إما الإستبداد أو الإرهاب.

وما زالت شعارات المقاومة والممانعة ومواجهة المؤامرة الكونية من الأداوت التي  تستخدمها السلطة السورية التي تقدم نفسها بوصفها علمانية، وهي متحالفة بطبيعة الحال مع نظام “ولي الفقيه” الإيراني الذي يسوّق نفسه باسم الإسلام، ومع “حزب الله” الجندي في جيش “ولي الفقيه”.

والمصيدة التي وقعت فيها المعارضة السورية باستمرار على الأقل منذ بداية حكم البعث بمرحلتيه: مرحلة ما قبل الأسدية 1963-1970، والمرحلة الأسدية الطويلة المستمرة منذ 1970 إلى يومنا هذا؛ تتمثل في اعتمادها أيديولوجيا السلطات نفسها القومية – الاشتراكية، أو استخدامها أيديولوجيا إسلاموية بتوجهاتها وتدريجاتها المختلفة.

وبناء على ذلك لا يكون التركيز على الواقع السوري الداخلي الذي يصبح مجرد حلقة في سياق حلقات المشاريع العابرة للحدود.

هذا في حين أن الخطوة المطلوبة في سياق المعادلة الصحيحة تستوجب التركيز على الشأن السوري الداخلي، بغية فهم احتياجاته على صعيد ضرورة معرفة السوريين لبعضهم البعض، وتأمين الأدوات الضرورية لضمان طمأنة السوريين، وتحريرهم من أعباء الحاجة والفاقة، وتمكينهم من الإسهام في صياغة مستقبلهم ومستقبل أجيالهم المقبلة.

فنحن اليوم، بأمس الحاجة إلى عملية إجراء إعادة تقييم وتقويم، بل وإعادة صياغة تبلغ مستوى تكوين جديد، لمنظومة أولياتنا الوطنية. وذلك عوضًا عن التركيز على نجاحات خارجية، والحديث عن مشاريع وحدوية ثبت بالدليل الملموس والأمثلة الواقعة المجسمة، أنها لم، ولن، تكون هدف الأنظمة العسكرية الحاكمة في الجمهورية القومية – الاشتراكية، وإنما هي مجرد أدوات تثبيت السلطة في الداخل وتضليل الناس بمشاريع وهمية، بغية دفعهم نحو الانتظار، وعدم المطالبة بأبسط الحقوق، وفي المقدمة منها مقومات العيش المشترك الحر الكريم.

السوريون اليوم هم في حاجة إلى من يطمئنهم، ويُقدِّر تطلعاتهم، ويضمن توفير احتياجاتهم، ويحترم خصوصياتهم، ويعمل بمصداقية على معالجة الانقسامات المجتمعية العمودية التي باتت هي الطاغية بكل أسف، وهي الانقسامات التي تُكرّس واقع الثقة المفقودة بين مختلف المكونات وخشيتها من المستقبل.

إن عدم احترام التطلعات المشروعة يمثل ظاهرة لا تقتصر على السلطة وحدها التي تحتقر في الواقع العملي المواطنيين السوريين، وترى أنها ما دامت تمتلك السلطة والسلاح والثروة، هذا إلى جانب الجيوش والميليشيات الوافدة التي فتحت البلاد أمامها لتشاركها في قتل السوريين التي جلبتها لتقاتل لمصحلتها، بل تشمل قسمًا كبيرًا ممن سوّقوا أنفسهم باسم المعارضة الرسمية سواء من السياسييين والعسكريين والميليشيات، فلم يتمكنوا من طمأنة السوريين، بل استخدموا خطابًا إشكاليًا حال بينهم وبين الحصول على ثقة وقناعة السوريين بمختلف مكوناتهم وتوجهاتهم.

فهناك خطاب طائفي مذهبي بغيض، إلى جانب خطاب قوموي عنصري مقيت؛ وفي المقابل هناك من يحاول أن يتذاكى عبر القول بأننا جميعًا سوريين، وعلينا أن نترفع عن نظام المحاصصة؛ وذلك على أمل أن يستخدم مستقبلًا الأغلبية القومية والمذهبية التي يتوهم أنه يمتلكها عبر صناديق الاقتراع التي يُسوّقها وكأنها تختزل العملية الديمقراطية، ليمارس بعد ذلك، إذا تمكّن، من ممارسة سلطته على بقية السورييين الذي يخشون من مآلات تَصدُّر هؤلاء للمشهد السياسي القادم، خاصة أن سجلّ الكثير منهم حافل بالانتهاكات الفاقعة، والآراء المتشددة. كما أن بعضهم الآخر مستعد للاستقواء بالآخر الخارجي، بل على تحريضه ضد السوريين.

وفي مقابل هؤلاء، هناك من يحاول أن يتعامل مع الوضعية بعقلية تبدو أكثر انعتاقًا واستعدادًا لتحقيق المساواة بين سائر السوريين؛ فيتحدث عن دولة المواطنة التي تضمن حقوق الجميع، ولكن في غالب الأحيان يتحاشى تناول الخصوصيات المجتمعية، والحقوق المترتبة عليها؛ وهي مسألة باتت من المشكلات الأساسية في الوضعية السورية بعد عقود من التسلط والاضطهاد والإنكار والإقصاء؛ ويتناسى أو يتجاهل هؤلاء الآليات المطلوبة لبلوغ مثل هذه الدولة الحلم؛ لا سيما من جهة تحديد القوى التي ستُنجز هذه المهمة.

فهل ستُترك هذه المهمة للقوى الخارجية، أم أنها تقع على عاتق السوريين بالدرجة الأولى؟

فبالنسبة لدور القوى الخارجية، أثبتت التجارب عندنا وعند غيرنا أنه في غياب العامل الداخلي الضامن الحريص على وحدة الشعب والوطن، تُصبح مشكلات الشعوب مجرد ملفات وأوراق ضغط تُستخدم في المفاوضات الخاصة بتحديد مناطق النفوذ وتقاسم المصالح.

أما بالنسبة إلى دور السوريين في التغيير المطلوب المنتظر، فالوضع الحالي الذي يعيشونه لا يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم كما يريدون، وذلك نتيجة توزعهم بين مناطق نفوذ مختلفة. في كل منطقة، هناك سلطة أمر واقع محلية أو وافدة، تستمد العون والدعم من القوى الخارجية، وهي القوى التي تمتلك الإعلام والمال وتهمين على الإدارات، وتُرغم الناس على الرضوخ لتوجهاتها أو مشاريعها، أو تُلزمها بالصمت في انتظار المخطط.

ولعلنا لا نذيع سرًا إذا ما قلنا هنا، وبناء على المعطيات الراهنة، أن الأوضاع بصورة عامة هي في طريقها نحو تبلور عقلية التفكك والتباعد بين المكونات السورية؛ وقد أسهمت السلطة الأسدية في ذلك عبر اتباعها على مدى عقود سياسة ترسيخ الهواجس بينها من خلال الفتن المختلفة، مع الاحتفاظ بخيوط التحكّم باللعبة لنفسها. كما أن المعارضة التقليدية قبل الثورة، والرسمية بعد الثورة، لم تتمكن من طمأنة سائر المكونات سواء بالخطاب أم بالأفعال؛ وإنما على النقيض من ذلك لم تراع الحساسيات، واستخدمت خطابًا تفكيكيًا منفرًا على المستويين المجتمعي والسياسي، واستقوت بالقوى الإقليمية التي لها أولوياتها التي تنسجم مع مصالح تلك الدول في المقام الأول.

ما نحتاج إليه راهنًا، إذا كنا نريد سورية موحدة شعبًا وأرضًا في المستقبل، هو وجود مجموعة صلبة من النخب السورية التي ما زالت تمتلك المصداقية الحريصة على شعبها ووطنها، ومن مختلف الانتماءات المجتمعية والمناطقية، تقطع مع الشعبوية وبقايا الأيديولوجيات الفاشلة التي لم تجلب سوى الويلات لسورية والمنطقة على مدة قرن كامل.

مجموعة تمتلك الجرأة على تسمية الأشياء بمسمياتها، وتبتعد عن الصيغ العامة الغامضة التي تقول في الظاهر كل شيء، ولكنها في الواقع لا تقول شيئًا.

نخب تعترف بالمعطيات والوقائع، وتحترم الخصوصيات، وتتفهّم الهواجس، ولا تعتمد أساليب التذاكي أو التكاذب والمجاملات الخاوية والتجاهل وغيرها من أدوات التضليل التي تتعارض، بل وتتناقض مع أهمية وضرورة الإقرار بأن ما حصل في سورية على مدى 13 عامًا الأخيرة، وقبل ذلك على مدى عقود، من تراكمات الاستبداد والفساد يستوجب شجاعة في القول والفعل، وخطوات عملية تبدّد الهواجس، وتعزز الثقة، وتفتح الآفاق أمام إمكانية توحيد السوريين على أسس جديدة لم تعد الوصفات الأيديولوجية القديمة قادرة على معالجتها. أما الإصرار على المنطق الرغبوي، والاستمرار في اعتناق الشعارات الرومانسية، والحرص على تلوية عنق الحقائق، وعدم الاتعاظ بدروس التاريخ البعيد والقريب؛ ورفض الاستفادة من تجارب الشعوب القريبة منا والبعيدة عنا في المجال الجغرافي، فكل هذا مؤداه المزيج من التفكك والتحلل والتعفن، الأمر الذي سيجبر الناس على البحث عن مصير أفضل في بلاد الآخرين، أو التقوقع في مساحة جغرافية أشبه بالخراب، يُطلق عليها تجاوزًا اسم وطن.

___

(*) عبد الباسط سيدا: كاتب وأكاديمي وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا
عبد الباسط سيدا
المقالات: 1