تصاعد الجدل المجتمعي على الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي الذي كان الساحة الأكبر لهذا الجدل حول ما يعتبر حرية رأي وما يعتبر خطاب كراهية أو تحريض على العنف والعِداء أو التمييز العنصري، وهو ما يدعو للتفرقة بينهما، وخصوصًا مع إطلاق الاتهامات لأشخاص ووسائل إعلام جماهيرية واجتماعية وصنّاع محتوى ومضامين المحتوى بالتورط في خطاب كراهية واضح، وأيضًا مع تكرار ووقوع عدد من الحوادث العنيفة المترتبة على هذا القول أو ذلك المحتوى.
ليوجه كل منا هذا السؤال لنفسه: ما المحتوى سواء أكان مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًّا، والذي قد يتناولك أو يتناول غيرك، ويمكن أن يتسبب لك أو له بضيق أو حزن أو نفور أو أكثر من ذلك من مشاعر قد تدفع لاتخاذ رد فعل عدائي أو عنف منك ضد الآخر أو ضدك من قبل الآخر؟ أو قد يحفز طرفًا ثالثًا للقيام بفعل عنيف ضد طرف ما؟
هل يمكن تصنيف الانتقاص، الشماتة، الاستهزاء، الازدراء، التشبيه، الأوصاف السلبية، الاتهام، السخرية من الشكل أو اللون أو الانتماء أو التوجه أو النوع أو الجنس أو المهنة على أنها خطاب كراهية؟ وهل يمكن أن تكون سببًا في القيام بفعل عنيف؟
عرفت “اليونسكو” خطاب الكراهية بأنه (الخطاب الذي قد يتضمن عبارات تحرض على الكراهية خاصة التمييز أو العشوائية أو العنف – حسب الوسط الذي يتم استهدافه والمجموعة الديمغرافية أو الاجتماعية، كما يشمل على سبيل المثال لا الحصر، الخطاب الذي يؤيد الأعمال العنيفة أو يهدد بارتكابها أو يشجعها).
وبالتأكيد فأيّ خطاب يدعو لعمل عنيف هو خطاب كراهية، ويقول إيميل أمين الصحفي والباحث: إن أقرب مفهوم لخطاب الكراهية: أنه أنساق تعبيرية، مرئية، ومسموعة، ومقروءة، تنشر الكراهية أو التمييز والعداوة بين البشر، أو تحرض عليها، وربما تروج لها أو تبررها ضد شخص أو مجموعة ذات صبغة عرقية أو دينية، وعلى أساس من يكونون؟
أين تكمن الخطورة؟
إذا ما استعرضنا كل الحروب والنزاعات وأعمال العنف عبر التاريخ سواء أكانت محلية، أو عالمية، أو في إطار ضيق، مكانًا وأشخاصًا، لوجدنا أن التحريض والخطاب العنيف بكل أشكاله الرمزية أو المباشرة سبقها ورافقها، وانخفضت وتيرته مع انتهائها، ينطبق هذا على الحروب العالمية كما ينطبق على صراع بين قبيلتين أو أسرتين، أو حتى بين الشخص ونفسه، وليست جرائم الإبادة الجماعية في راوندا والبوسنة والهرسك منا ببعيد إذ راح ضحيتها في راوندا ما يزيد عن 800 ألف قتيل في أغلب التقديرات.
ويمكن القول: إن خطاب الكراهية يؤدي إلى عواقب عاطفية وعقلية وجسدية سلبية يمكن أن تشمل تدني قيمة الذات، والقلق، والخوف وحتى إيذاء النفس أو الانتحار، لكنه في النطاقات الأوسع يؤدي إلى الصراع والحروب ويذكيها ويعمل على استمرارها وتصاعد حدتها، كما تكمن خطورة خطاب الكراهية في قدرته على تجييش مخاطبيه ضد أفراد أو جماعات باستغلال حالات الضعف والهشاشة الاجتماعية التي يكونون عليها في الغالب، وكذا قدرته على تحويل التوصيفات الزائفة إلى يقينيات من خلال تشويه سمعتهم والتشهير بهم في صورة ما عبر عنه (سارتر): “الآخر هو الجحيم”.
وحالة الكره وما يترتب عليها من عنف لا تحدث مباشرة، ولكنها تحدث في شكل تصاعدي يعرف بهرم الكراهية، ويشير الناصر عمارة في دراسته “خطاب الكراهية: التحديات وسبل المواجهة” إلى تنامي الكراهية من قاعدة الهرم إلى قمته وصولًا إلى أعلى درجات العنف، وقد صُمم هذا الهرم لتصنيف أعمال البشر من حيث التعصب، ووفقًا له: الكراهية أمر ممنهج، ففي قاعدة الهرم توجد المواقف المتحيزة مثل حجب المعلومات الإيجابية، وقبول المعلومات السلبية، وتبرير التحيّزات من خلال البحث عن الأشخاص ذوي التفكير المماثل، واستخدام لغة غير شاملة، وفي المستوى التالي: توجد أفعال التحيز مثل التنميط والسخرية والتجنب والعزل الاجتماعي والتسميات أو الصفات المهينة، وفي المستوى التالي أعمال التمييز مثل تفاوتات العدالة الجنائية والتمييز الاقتصادي والسياسي والتعليمي وفصل مناطق السكن، وفي المستوى الذي يليه تسود أعمال العنف بدافع التحيز مثل القتل والاعتداء والاغتصاب والحرائق المتعمدة وأعمال التخريب، وفي المستوى الأخير النية والتعمد للإيذاء الممنهج الذي قد يصل للإبادة الجماعية لشعب أو عرق أو جماعة.
بين حرية التعبير وخطاب الكراهية:
يتضمن الحق في حرية الرأي والتعبير حريتين متلازمتين يستحيل الفصل بينهما أو ممارسة إحداهما دون الأخرى، الأولى حرية الرأي، والثانية حرية التعبير، وضمان ممارسة هذا الحق بمثابة الركن والأساس لبناء المجتمع الديمقراطي وتطويره واستمرار بقائه.
إن المسافة بين حرية التعبير وحرية الرأي وبين خطاب الكراهية أمر ينطوي على قدر كبير من المشقة، ذلك أن مفهوم خطاب الكراهية من الصعوبة بمكان تعريفة بصورة جامعة مانعة، ولكن قد يفيدنا في هذا السياق النظر إلى ما يتم تداوله حاليًّا بوصفه توصيفًا لخطاب الكراهية وتحديدًا وجهة النظر القائلة بأنه ضرب من الخطاب قد يتضمن كلمات أو صورا تستهدف بنوع من الانتقامية جماعة ما، وفي أغلب الديمقراطيات لا يعتبر خطاب الكراهية ضربًا من ضروب حرية الرأي والتعبير التي تحميها القوانين، كما أنه لا يأخذ شكلاً معينًا وهو الكلام المباشر الواضح، فقد يكون بالتصرف أو الإيحاء أو الكتابة أو حتى الإشارة، ووفقًا للناصر عمارة في دراسته المشار إليها سابقًا يواجه التأطير القانوني لخطاب الكراهية مشكلة بالغة التعقيد، لأن توصيف الخطاب بالجريمة يتطلب أن تتوفر فيه الأركان والشروط التي يعتبرها القانون سببًا في الإدانة والقابلية للعقاب أو الحظر، بالإضافة إلى تقييم الأضرار المادية والمعنوية التي تلحق بالأفراد، وهذا جعل الاتفاق على قانون دولي موحد ضد خطاب الكراهية أمر صعب، ويعتمد القانون على معيارين مبدئيين للاستجابة لمطلب حظر خطاب الكراهية وتجريمه، وهما:
- معيار العنف: وهو الحالة التي يؤدي فيها خطاب الكراهية إلى العنف.
- معيار السلم المدني: ويتعلق بمبدأ الحفاظ على النظام والسلم الاجتماعيين.
يمكننا الآن إذًا أن نفرق بين حرية التعبير والرأي من جهة وبين خطاب الكراهية من جهة أخرى من خلال الإجابة على أسئلة مثل:
– ما الذي يمكن أن يترتب على هذا الخطاب من آثار وأفعال؟
– من الذي يقدم هذا الخطاب، وما تأثيره، وفيمن يؤثر، وما حدود هذا التأثير؟
يمكن أن نختلف في التوجه والعقيدة، والمذهب والانتماء، دون أن نؤجج البغض والكراهية، يمكن أن نعارض السلطة وننتقدها وعلى نطاق واسع دون الإهانة والانتقاص والازدراء، دون كراهية.
يمكن انتقاد العادات التي تمارسها جماعات أو فئات دون إهانة الأفراد في تلك الجماعات بالضرورة، أو تهديدهم أو الانتقاص منهم، ويمكن بالتأكيد رفض أو انتقاد موظف عام أو أي شخص آخر دون أن يكون ذلك خطاب كراهية، ويمكن تبنّي قضية والدفاع عنها ولكن بأخلاق دون أن يكون خطاب كراهية، ويمكن محاججة الآخر استنادًا للوقائع والأحداث والحقائق، وليس استنادًا إلى الهوية والنسب، والنوع، أو الشكل، أو المهنة مثلاً، أو إطلاق الأوصاف، والألقاب المهينة.
قد لا نستطيع معرفة نوايا من يصدر منه الخطاب، ولكن من الممكن التكهن بنتائج وما يترتب على ذلك الخطاب، إنها معركة وعي حقيقي بأهمية التصدي لكل خطاب من شأنه تهديد سلْم وأمن المجتمع وأفراده، وعدم المساهمة في نشره وتداوله، فهذا بحد ذاته يساهم في نشره، وبالمقابل لا بد من خطاب مسؤول وعقلاني مجرد من دعاوى الكراهية والتمييز والتصنيف وإطلاق الأحكام على الآخر من الجميع، أيًّا كان هذا الخطاب دينيًّا أو مجتمعيًّا، أو شخصيًّا.
(*) بلقيس محمد علوان: أكاديمية وكاتبة يمنية
(*) يُنشر بإذن خاص من الكاتبة.