رغم أنّ معظم الأديان تؤمن بإله واحد، إلاّ أنّه من اللافت للنظر أنّ هذه الأديان نفسها قد تمخض عنها أفكار أدت إلى خلق موجات من الكراهية اتجاه الأديان الأخرى، بحيث إن كل دين حتى يثبت مصداقيته بدأ ينتقد الديانات الأخرى، أو يقلل من شأنها، وهذا بطبيعة الحال يجعل المتديّن بدين ما يستبطن رؤية نقدية أو هجومية للاتجاهات الدينية الأخرى، وهذا من شأنه أن يُشكِّل مغامرة، ليست مغامرة فكرية فحسب، وإنما الوقوع في مستنقعات الكراهية، ولهذا طرح الفلاسفة في القرن التاسع عشر في ردة فعل طبيعية على تاريخ ممارسات الكنيسة في العصر الوسيط بحق العلمانيين أو رجال العلم، هل الدين يحمل في ذاته إمكانيات توليد الكراهية أم أنّ الكراهية هي منشأ فردي تأخذ بين الحين والآخر، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة، غطاء دينياً؟
الحروب الصليبية مثلاً، ما كانت لتكون لولا وجود خزان من الكراهية أو الثأر اتجاه الشرق المسلم، ومثل ذلك إبادة ستة ملايين يهودي، أو فكرة الحل الأخير الذي ابتدعته النازية للتخلص من يهود أوربا وترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال وما يعرف بـ “الهولوكوست” وتعرُّض الملايين من اليهود لغرف الغاز، كل ذلك ما كان ليكون لولا وجود كراهية دينية مُغلَّفة بحجج سياسية واقتصادية، إلاّ أنّ لبّها هو ديني أو ما يعرف بـ “معاداة السامية”. في الواقع الإسلامي يجب أن لا ننسى “القاعدة” وأخواتها، وأقصد تنظيم “القاعدة” الذي ترأسه أسامة بن لادن ومساعده الأيمن أيمن الظواهري، ما كان ليحدث ما حدث في 11 أيلول/ سبتمبر في نيويورك لولا كراهية عميقة اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
يجب أن نعترف إنّ كثير من الأيدولوجيات الدينية المتطرفة التي تقوم برامجها على المفاضلة والكراهية، أو التي تتورط في إظهار كراهيتها، أو حتى المعتدلة منها التي تحمل طاقة كراهية مُستبطنة وغير مُعلنة لأسباب تتعلق بمناخ غير مساعد لإظهارها، أو بسبب قوة الدولة والقانون، سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية، إلاّ أنّه متى ما اختلف المناخ أو ضعفت قوة الدولة والقانون فسرعان ما تكبر دائرة الكراهية لتشمل كثيراّ من المعتدلين دينياً، لأنّ جذر المشكلة قائم، وهو يقين المتديّن أنّه على حق وغيره على باطل، ما يجعله في حلٍّ من أي تصرف اتجاه المختلف دينياً، خصوصاً إذا كان لديه نصوص تُعزّز هذا السلوك.
في صدر الخلافة الأموية وحتى نهاية الخلافة العثمانية، شهد التاريخ الإسلامي موجات سامّة من الكراهية، ليس لمن هم خارج دائرة الإسلام فحسب، بل وحتى ممن هم داخله، سواء مع اختلاف المسلمين حول الخلافة وانقسامهم إلى شيع وأحزاب، وكذلك مع تطور العقلية الفقهية والاجتهادية والتأويلية في صدر الإسلام وتأثر الفكر الإسلامي بكتب اليونان المترجمة، ونشوء مدارس الكلام وتأويلات النص واللغة، ما جعل الدائرة التقليدية المهيمنة في الإسلام تلجأ إلى سياسة الإعدام النفسي والمعنوي والجسدي لكثير من رموز هذه المدارس والتيارات، كـ “الجعد بن درهم” الذي قُتِل يوم الأضحى، أو “غيلان الدمشقي” و”الحلاج” وغيرهم كثير، إنّ كل ذلك يرتبط أساساً بالكراهية القائمة على أساس ديني أو عقائدي.
منذ فجر التاريخ الديني إلى آخر صور الكراهية الدينية والطائفية التي رأيناها في سورية في ريف بانياس وريف حمص ومضايا والزبداني، وميليشيات التعفيش والتهجير التي مارسها جنود النظام السوري والميليشيات الداعمة له، متكئين على أسٍّ ديني طائفي قائم على كراهية المختلف، إلى الاتجاهات الإسلامية المتطرفة التي تقوم على فكرة الولاء والبراء أو حب من يؤمن بأفكارنا وبغض من يقف ضدنا، إلى انتهاكاتهم بحق الأقليات الدينية في معلولا، أو خطف الأب باولو في الرقة، أو ما حدث في قرى ريف اللاذقية من خطف نساء علويات، ومئات القصص والمشاهد الأليمة في سورية، كل ذلك ما كان ليكون لولا وجود وقود كراهية ظاهرة أو مستبطنة داخل المجتمع، سواء السوري وغير السوري، وما الحرب الأهلية اللبنانية بالمثال البعيد. كل ذلك يجعل من النقاش حول الكراهية الدينية موضوعاً له من الأهمية الكبيرة لأنّه كما غلّفت النازية حججها ضد يهود أوربا، فإنّ كثيراً من الاتجاهات في الشرق تُغلّف حججها في استباحة الآخر، إلا أنّ الكراهية هي المحرك الأساس لكل جرائم الإبادة في التاريخ البشري مهما كان الغلاف الذي تتدثر به، دينياً، سياسياً، عرقياً، قومياً، اقتصادياً.
من هذه المقدمه أريد أن أقول: الداء والدواء من ذات المصدر، أي ما يجعل من الديني مشروعاً للكراهية هو ذاته يمكن أن يكون مشروعاً للمحبة واللقاء والتفاهم والاحترام، المسيح الذي ارتُكبت مجازر دفاعاً عنه هو الذي قال: “لا تقتل، باركوا أعدائكم!”، والنبي محمد الذي يزعم المتعصبون الدفاع عن دينه، أو يهتف حاملوا السكاكين من المرضى النفسيين باسمه، هو الذي قال: “ألا أدلكم على شيء اذا فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم!”. لا يمكن القضاء على الكراهية الدينية إلا بالعمل داخل المصدر، سوء الفهم الديني هو المصدر الأساس للكراهية الدينية، ولذلك لا بدّ من البحث داخل الدين حتى نفهم كيف يمكن تجفيف منابع الكراهية التي تقوم على أساس ديني. الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر يعتبر الكراهية الدينية بين المختلفين دينياً بسبب جهلهما يبعضهما وخوفهما من بعض، الحل يكون باللقاء والحوار والتفاهم، لهذا كتب كتابه الشهير: “أنا وأنت”، وفيه يقول: “الحياة الحقيقية بين البشر هي اللقاء والتعارف!”.
أليس هذا ما دعا إليه الله في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، فعل التعارف هنا من أفعال التشارك، أي النظر إلى بعضنا بعضا كصور متشابهة متساوية، ليس أحد فوق أحد بنسب أو جاه أو دين}.
أجد من الضروري لأديان اليوم ومذاهب الناس أن تتعلم من التاريخ، وأن تستضيء بعلوم النفس والاجتماع واللاهوت الحديث حتى تُخفّف من تداعيات الكراهية الدينية أو المشاعر الدينية السلبية اتجاه الآخرين، الأمر ليس سهلاً ويحتاج إلى شجاعة وخبرة وطرائق تعليم جديدة، وكما يقول نيلسون مانديلا: “طالما يستطيع الإنسان أن يكره، علينا أن نعلمه الحب”، الحب ليس كلمة سهلة وليس مشاعر رقمية كتلك الرموز والقلوب التي تلجأ إليها تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي، لا، هناك تقنيات للحب، هناك تقنيات للمعاملة بين البشر، هناك أساليب ذكية وتمارين روحية ورياضية وجسدية ولغوية للتخلص من شحنات الكراهية والبغضاء بين الناس. الحب فلسفة وتقنيات وفن، هكذا قال عالم النفس الكبير الهارب من جحيم النازية إريك فروم: “الحب فن والكراهية مرض”.
الكراهية الدينية لا يمكن علاجها إلاّ بالدين، وهو ما اكتشفه علماء اللاهوت الغربيين حديثاً، فأصبح أحد أهم تخصصات الفلسفة اليوم فلسفة الدين، وليس هابرماس وحده الفيلسوف من أراد قراءة الدين قراءة مختلفة في العصر الحديث، وعما يمكن أن يلعبه الدين من وظيفة إيجابية في هذا العصر بدلاً عن وظائفه التدميرية في العصور التي خلت، أحد أهم علماء الاجتماع في العصر الحديث هو نيكلاس لومان الذي تخصصت مجمل أبحاثه عن الدين والديانة العصرية وعما يمكن أن يُساهم فيه الدين اليوم من وظائف اجتماعية وبنائية للعمران البشري.
وكما يقول علي بن أبي طالب في بيت منسوب له: “دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ… وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ”.
أجل، لا مناص من العمل على الأديان والملل من داخلها لتجنب سوء فهمها أو استغلالها من أباطرة السياسة والاقتصاد ورجال الدين الذين يتم استخدامهم في توليد المشاعر الدينية التدميرية خدمة لأجندات ومشاريع تقسيمية وتخريبية للأوطان والمجتمعات.
في الشرق اليوم ليس مهماً أن يلتقي “السنوار” بـ “نتناياهو”، ولا أن يلتقي “الأسد” بـ “الجولاني”، لأنهما لن يلتقيا مطلقاً، المهم في شرقنا البائس أن يلتقي الناس، أن نُعزِّز ثقافة اللقاء والتعارف، كمجتمعات، كمواطنين، وليس كزعماء وسياسيين ونخب، أن يلتقي أحمد وخالد وعمر وعائشة وعبدو وزكريا مع حيدر وشيمون وليان وديفيد ومريم وماريا وفاطمة وبراخا ويوشع، المهم أن نلتقي ونلتقي ونلتقي حتى لو لم نتحدث ولا كلمة، المهم أن ندع الأرواح تتعالج والعيون تتحدث!
إنّه لأمر عظيم أن يكون ابن عربي قد سبق عصره وعصرنا، حتى كأنه قد استشرف الواقع الديني البائس والمحن في هذه الأيام، يوم قال كلماته الخالدة والسامية:
“لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ
وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ
ركائبه، فالحب ديني وإيماني”.
منصور جسنو: مدرس فلسفة سوري وضابط سابق