كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بليغًا حين قال في هذا العام “إن خطاب الكراهية مثل جرس الإنذار، كلّما تعالى صوته زاد خطر الإبادة الجماعية… إنه يسبق العنف ويعزّزه!”…
ولتوفير إطار موحد للأمم المتحدة لمعالجة هذه القضية على مستوى العالم، تُعرِّف استراتيجية وخطة عمل الأمم المتحدة خطاب الكراهية بأنه… “أيّ نوع من التواصل بالقول أو الكتابة أو السلوك، يهاجم أو يستخدم لغة تحقير أو تمييز بالإشارة إلى شخص أو مجموعة”.. باختصار. لكنّ لهذا الخطاب مشاكله، وأكبرها في الولايات المتحدة، البلد الديموقراطي والليبرالي الأهمّ في العالم كما يُقال. بل ربّما لأنّها كذلك. فـ “خطاب الكراهية” ليس مصطلحًا قانونيًا في الولايات المتحدة، وقد قضت المحكمة العليا مرارًا وتكرارًا بأن معظم ما يمكن وصفه بأنه خطاب كراهية في الدول الغربية الأخرى هو خطاب محمي قانونًا بموجب التعديل الأول للدستور… الحزم في التعاطي مع خطاب الكراهية يمكن أن يخفي وراءه بالنسبة لهذا المنطق حدًّا من حرية التعبير، التي يتناولها التعديل الأول.
يبقى بالنسبة للأمم الأخرى أن التصدي لخطاب الكراهية لا يعني الحد من حرية التعبير أو حظرها، ويعني منع خطاب الكراهية من التصاعد إلى شيء أكثر خطورة، وخاصة التحريض على التمييز والعداء والعنف، وهو أمر محظور بموجب القانون الدولي، كما قال أيضًا غوتيريش في عام 2019.
بالنسبة إلى العرب والمسلمين، هنالك مشكلة تشبه – ولا تشبه – مشكلة الولايات المتحدة… هذا موضوع هذه المقالة، بعد الاستطراد قليلًا بالمقدّمات. وواحدة من مقدّمات ومبرّرات الشكوى العربية الإسلامية، تنامي السياسات الشعبوية المضادّة خصوصًا للاجئين، إضافة إلى توسّع ظاهرة الإسلاموفوبيا وتزايد استخدامها في اللغة اليومية، والرسمية أحيانًا.
وباعتبار ألمانيا هي الأفضل سمعةً بين مستقبلي اللاجئين، أو هي الأكبر والأهم في هذا المجال، لا بأس بالاستشهاد ببعض ما يرد في اللغة المتداولة:
“اللاجئون يأخذون بيوتنا، ويتسبّبون بغلاء الإيجارات”، “هم يحصلون على موارد أكثر من الألمان أنفسهم”. “طالبو اللجوء مجرمون وخطرون”. “اللاجئون يعتدون على النساء”. “تكاليف اللاجئين عبء باهظ على اقتصادنا وحياتنا”. “هؤلاء ليسوا لاجئين حقيقيين”. “يرافق الرعب اللاجئين في اجتياحهم لبلادنا”. “الدولة لا تتصرف ولا تقوم بالترحيل كما ينبغي”. “أوروبا لا تتّسع للعالم كلّه”. “أفريقيا والعالم الإسلامي على أبواب أوروبا”. “الكلّ قادمون إلى ألمانيا”. “ثقافتنا في خطر”. “لا يمكن لهؤلاء استيعاب نمط حياتنا وقبوله” و”الإرهاب في دمهم”.
لا يقول هذا كلّ الألمان، بل إن نسبتهم غالبًا أقلّ بشكل واضح من نسبة الذين يقولون غيره، لكن نسبة من يقول أشياء لا تقلّ فظاعة ما بين اللاجئين العرب والمسلمين ليست قليلة، تتزايد بقضايا عامّة وتتناقص حين تكون مغالية ومتطرّفة، هي موجودة، ومؤثّرة، خاطئة، وضارة. فيما يلي أمثلة محتملة في حديث بعضنا:
“لكلّ لاجئ راتب مُستَحق، ولا ضرورة للعمل”. “أيّ عمل هو نتيجة عرقي وجهدي، ويجب إخفاؤه عن الدولة المضيفة”. “أخلاقنا أرفع وأعلى من أخلاقهم”. “اعتزال مجتمعات الكفر واجب”. “يستحيل لدينا قبول نمط حياتهم”. “يجب حماية نسائنا وبناتنا من طريقة حياتهم المتحلّلة”. “نهبونا طويلًا، نحن نستردّ حقوقنا”. “هم معقّدون ومتطرّفون بمراعاة خواطر اليهود”. “لا قضيّة لديهم إلّا حقوق “الشاذّين”… والعياذ بالله”. “هذه دار كفر، تحلّ لنا فيها أنفسهم وأموالهم ونساؤهم”.
لا يقول كلّ لاجئينا ذلك، لكنّه مسموع وملموس، وهو خطاب كراهية، ومن الضرورة مواجهته بصراحة ومعالجته لازمة لزوم الوجود والمستقبل، لزوم الحقّ أيضًا.
وهذان التياران متضادّان ومتفاعلان، يخدم الواحد الآخر، وينفخ في ناره ويؤجّجها. والظاهرتان الكبيرتان المتضادّتان شكلًا أيضًا، لكن المتحالفتان تأثيرًا وتفاعلًا أو فعلًا، هما “اللاسامية” و”الفوبيا الإسلامية”، وكلاهما من ذرى الكراهية وخطابها.
وتحدثت ميشيل باشليه المفوضة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إلى مجلس الشيوخ الإيطالي لمكافحة التعصب والعنصرية ومعاداة السامية والتحريض على الكراهية والعنف في خطابها، وأوصت بإصلاحات محددة لبناء سياسات وروايات تؤكد على “إنسانيتنا وحقوقنا المشتركة”، وأشارت بوضوح أيضًا إلى أنه “يبدو أن معاداة السامية والتحيز ضد المسلمين يتزايدان في جميع أنحاء أوروبا”، وسلطت الضوء على استطلاع أجرته وكالة الحقوق الأساسية والذي أظهر أن 89% من المشاركين شعروا أن “معاداة السامية قد زادت في بلادهم”. وبالنسبة لنا نستطيع التأكيد أيضاً، أن التحيّز ضد العرب والمسلمين قد تزايد بنسبة كارثية، كما حصل للا سامية بدورها.
لا أستطيع الجزم أبدًا، بأنّ موقف (بعض) العرب والمسلمين من مفهوم اللا سامية يمكن أن يكون، أو ينبغي أن يكون، من مداخل المراجعة في طرفنا، فالطبيعيّ أن يبدأ هذا حتمًا برفض اللا سامية واستنكارها، ليس لأننا ساميّون كاليهود، وهذه الظاهرة معادية لنا تبعًا لذلك، كما يجري في عمليّات التهرّب من الإقرار بالحقيقة، التي نمارسها غالبًا… بل لكون تلك الظاهرة بالفعل؛ وبغضّ النظر عن أيّ بحث إنتروبولوجي أو آركيولوجي؛ كانت ولا زالت موجّهة ضدّ اليهود.
لقد اكتفى العالم من ذلك الحدث البغيض الذي أباد ثلثي جماعة بشرية معيّنة في أوروبا: الهولوكوست. وهو يشكّل في ذاكرتهم، أو ذاكرة غالبيتهم، جرس إنذار دائم بالخطر، وعقدة ذنب أيضًا. ولا تستطيع نكبتنا الفلسطينية، على أيدي ضحايا الهولوكوست أنفسهم، أن تبرّر لدى الآخرين أي إنكار للمحرقة أو تقليل من أهمّيتها وعدد ضحاياها… هي” تابو” في الضمير العالمي، ولا بدّ لنا من تفهمّه باقتناع كامل بالأمر أو بضرورته.
أعتقد جازمًا أن أية مطالبة بإحقاق الحقّ، لا بدّ أن تبدأ بإعلان الاستعداد للقبول بنتائجه، وأننا نطالب بمحاسبة غيرنا، لكننا نقبل على المستوى ذاته أيّة محاسبة لنا أو لأيّ طرف يُصنّف في جهتنا. وفي سورية، لا يمكن لمؤسسة حقوقية دولية أن تقبل، وهذه خبرتنا، موقفًا مراوغًا ينكر ما تقوم به جماعات محسوبة على المعارضة، لحساب تضخيم ما قام به النظام. هذا يعكس ضعف الثقة بأنفسنا، ليس بأننا على حق وحسب، بل بأننا “أنقياء” لا نمارس إلّا “أنظف” الأساليب وأكثر الأفعال دقة والتزامًا بالأصول وبحقوق الإنسان والقانون الدولي.
تلك الممارسات ليست بالطبع حكرًا علينا، بل هي من تفاصيل الحروب والمعارك والصراعات والنزاعات، تخفي وراءها الطمع بتحقيق انتصار ومكسب بأسرع وقت ممكن، وبمنع “العدوّ” من تحقيق مثل ذلك. في الحرب الروسية- الأوكرانية هنالك الكثير من مثل تلك المواقف، التي يشيطن فيها كلّ طرف الطرف الآخر، ويجعل من الطرف الأول ملائكة وقديسين.
يتزايد خطر التيارات الشعبوية في السنوات الأخيرة ويتفاقم، وهي تستند في مفرداتها المكتومة كثيرًا والمعلنة قليلًا على خطاب الكراهية، ضد اللاجئين والمسلمين والآخر في “الغرب”، وضد الحضارة الغربية والحريات وحقوق الإنسان في “الشرق”… ولقد حدثت الكارثة بالفعل، “لذلك يمكن أن تحدث مرة أخرى”. ينطبق هذا على اليهود والعرب والمسلمين، على الفلسطينيين أيضًا…
مطلوب من المذكورين جميعًا، التوقف واستيعاب المذهل في حياتنا الحالية، كما توقّف أولئك الإسرائيليون المتظاهرون أمام حكومتهم وقوى التطرّف والظلام عندهم، حين وصل الخطر إلى نقطة اللاعودة.
(*) موفق نيربية: سياسي وكاتب سوري.