يأتي هذا المقال على وقع الأخبار الأليمة التي تأتي من غزة بعد أن تطورت الأحداث بشكل مرعب، وباتت تنذر بألف قيامة جديدة.
وكالعادة فإن القضية السورية على خطورتها وضرورتها تنتقل في السياق الإعلامي فتكون ثانيًا وثالثًا ورابعًا، وهو ما عشناه في ظلال أحداث كثيرة خلال عمر الثورة السورية التي بدأت قبل ثلاثة عشر عامًا، ومع ذلك فإنه لا بد من مراجعات عميقة لمشهد المستقبل السوري بعد سنوات الجحيم.
لا يوجد أي تحامل حين نعترف بأن أداء المعارضة السورية كان فاشلًا للغاية، ولم تنجح في تأمين إطار يلتقي عليه السوريون، على الرغم من أن وحدة الصف السوري ووحدة الأراضي السورية ووحدة الشعب السوري هي نص افتراضي موجود على رأس البيانات الحزبية والنضالية والثورية والتصالحية التي ملأت فضاء الإعلام العربي في المسألة السورية، ولكن لا أحد حتى الآن استطاع أن يفهم التركيبة المعقدة للعقل السوري.
في الحالة الفلسطينية فإن المشهد كان على غاية التعقيد، وأعداء فلسطين كانوا يملؤون عواصم الكوكب، وهم اليوم يُنشؤون جسرًا جويًا يوميًا بين واشنظن ولندن وباريس وبرلين وروما وغيرها من عواصم العالم التي تحمل الزعماء أنفسهم في زيارات مكوكية لا تتوقف إلى تل أبيب، والتصريح المتكرر هو “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ومواجهة الإرهاب”.
وهذا الحال ليس جديدًا بالطبع، بل يمكن القول إنه مستمر منذ خمسة وسبعين عامًا بوتيرة أقل وأكثر، ولكن ذلك كله لم يؤد إلى تشظي القضية الفلسطينية على النحو الذي نشاهده في سورية، فقد ظهرت على كل حال منظمة اسمها منظمة التحرير الفلسطينية، وقائد اسمه ياسر عرفات، تمكّن من جمع التناقضات ومد خطوط معاوية في كل الاتجاهات، ورَفَعَ البندقية وغصن الزيتون بمهارة، وبات هناك عنوان اسمه الشعب الفلسطيني، ومنظمة اسمها منظمة التحرير الفلسطينية يتعامل معها الجميع بمرجعية واحترام، حتى التيارات الإسلامية المناقضة لهذا الجسم السياسي فهي تتحدث باستمرار عن خططها لإصلاح المنظمة والانضمام إليها، ويتحقق ذلك كله على الرغم من كل البغي العالمي في التعامل مع قضية فلسطين.
في الحالة السورية فإن المشهد أكثر بؤسًا، ولا يمكن تصور لقاء إدلب بأعزاز ولا لقاء أعزاز بالقامشلي، ولا قيام تنسيق قوي مع السويداء أو درعا المكلومة، ومع مضي ثلاثة عشر عامًا فلا زال كل يغني على ليلاه.
والأمر نفسه على صعيد المؤسسات، فلا يعترف الائتلاف بالإدارة الذاتية، ولا هيئة المفاوضات بالمشايخ، أما اللجنة الدستورية فقد صارت صنمًا يدور في فراغ منذ ستة أعوام ولم يتمكنوا من وضع مبادئ للحياة الدستورية رغم أن سورية هي أسرع بلد في العالم في تعديل الدساتير، ومسجل في “غينس” أسرع وقت لتعديل دستوري في العالم لم يستغرق أربعًا وعشرين ساعة.
ولكن هذا النعي على الأطلال لن ينفع في شيء، فالنظام أيضًا في حال لا يحسد عليه، وقد بات قراره مرتهنًا للروسي والإيراني، وفي عام 2009 ناقشنا موازنة سورية وكانت 36 مليار دولار، فيما تمت مناقشة موازنة سورية هذا العام بمبلغ مليار دولار فقط!.
لكن الجانب الأشد بؤسًا في مشهد الثورة والمعارضة والنظام هو صعود التيار المتشدد إسلاميًا وعلمانيًا، حيث بدأ “الضرب تحت الحزام”، واتخذ الانشقاق بين التيارين مسارًا مريعًا، وبقدر ما يتناول المتشددون الخطاب العلماني بالتكفير، فإن العلمانيين اليوم باتت لهم مخالبٌ أيضًا، وفي الواقع فإن التيار المتشدد إسلاميًا وعلمانيًا هو تيار يمارس التخادم، حيث يقوم بعضه بشأن بعض، وحيث تنفع الأفكار المتطرفة في تعزيز موقع الفريق المقابل وتبرير ما يمارسه من إقصائية وإلغاء.
فهل يجب أن نُسلِّم بالنتيجة التي وصل إليها الإسلاميون بأن العلمانيين أعداء طبيعيون للدين، وبالتالي للشعب المتدين، أو نُسلِّم بالتيار العلماني الساخط الذي بات يقول دون تحفظ إن الإسلام السياسي بلاءٌ على سورية، وإن كل الطاقات يجب أن تُسخَّر للقضاء عليه؟!
الكارثة الأكبر في هذه المعادلة أن القضاء على أحد التيارين غير ممكن، والذين ينتظرون الحسم في معركة كهذه ينتظرون القيامة ذاتها، فهذا هو شكل الحياة منذ خلق الإنسان، وإنما تعيش الشعوب وتزدهر حين تنجح في تحويل هذا الصراع إلى تلون يغتني فيه المجتمع بدل من أن يكون تصادمًا وصراعًا تحكمه معركة حياة أو موت.
هذا الانقسام والتشطي الذي يعصف بصفوف المعارضة لا يختلف في جذوره عنه في مناطق النظام، ولكن النظام على بطشه ودكتاتوريته استطاع أن يُخصِّصَ حقولًا للمتناقضين، وتمكن من توفير مساحات للخطاب الإسلامي ومساحات للخطاب العلماني، ولا زال يمنع الاشتباك بعنوان حماية الوحدة الوطنية ومعركة المواجهة مع الإرهاب.
إن قناعتي أن أشد ما تحتاجه الثورة السورية هو ثقافة التكامل والإعذار، ومنع كل أشكال التخوين والارتهان التي صارت قوتًا يوميًا نكرره منذ بداية هذا القيام السوري إلى هذه الأيام البائسة.
فهل نستطيع إطلاق مراجعات عميقة نُعالج فيها بؤس تشظي الخطاب بين الإسلامية والعلمانية، ونُعيد للمجتمع السوري المنكوب إحساسه وثقته بوحدة المجتمع السوري؟
أما الفقرة التي هي أشد جدلًا فهي الوعي بوجود هذه القيم إياها حتى على مستوى التيارات الموجودة داخل سورية، وحتى تلك التي تسبح في فلك النظام ولكنها تملك قدرًا من المعقولية وحسًا أكبر من الوعي الوطني، فهؤلاء، وهم كُثر، يمكنهم أن يساهموا في تكوين مُتحد ثقافي مشترك بين السوريين، قائم على الاحترام ورفض الاستبداد، ورفض التكفير والتخوين، والإيمان بوطن واحد يتسع للكل على الرغم من التناقضات الكبيرة.
هل تستطيع هذه المساحة الإعلامية التي توفرها هذه المبادرة الجديدة أن توفره لنا؟ إنه بالضبط ما نأمله ونرجوه، ونأمل أن نكون شركاء فيه.
___
(*) الدكتور محمد حبش: باحث ومفكر إسلامي، برلماني وأكاديمي، مؤسس مركز دراسات بحوث التنوير والحضارة، أستاذ جامعي في الدراسات الإسلامية.