* توطئة:
في المبدأ، تعتبر المشاعر السلبية، كالغيرة والحسد والنفور وبمستوياتها العليا الكراهية، ظواهر طبيعية مثلها مثل المشاعر الإيجابية من محبة وحنان وعطف، متعلقة بالإنسان بفطرته الأولى وحضوره العام على مسرح الوجود في أي مجتمع وأي عصر. الحيز الشعوري هذا يبقى محدودًا في بعده الشخصي القابل للاحتواء والتعامل معه اجتماعيًا وقانونيًا. غير أن تحول المشاعر السلبية لأفكار وأفعال ولغة ذات حوامل ونماذج مجتمعية يُروج لها إعلاميًا، مشكلةً ظاهرة كلامية ولغوية ينقلها من حيزها الخاص والمشروط بالطبيعة البشرية والإنسانية، إلى ظواهر عامة لغويًا وسلوكيًا، حينها تستلزم بالضرورة التوقف عندها وعند مسبباتها وطرق علاجها. فاللغة خضوع وسلطة يمتزجان معًا، ما لم تتحقق من خلفها شروط الحرية بمقوماتها المادية والمعنوية، تتحول اللغة لقوة إكراه وتسلط واستحواذ، وبالضرورة استبداد نفسي قبل أن يكون سياسي أو سلطوي، خاصة اذا ما ارتبطت بنموذج معوّم للعنف حيث تصبح اللغة سلطة بحد ذاتها، فحسب رولان بارت “اذا لم تكن الحرية مجرد القدرة على الانفلات من قهر السلطة، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة”[1].
مع تنامي الخطاب البشري المحمول على نزعة الكراهية واجتياحه وسائل التواصل الاجتماعية وتحوله لنزعات متعددة الأوجه في المجتمعات: كالعنصرية والتفرقة العرقية والثقافية والجنسية، وما نتج عنه من ممارسات متطرفة خارجة عن السياق الإنساني العام، بادرت منظمة الأمم المتحدة بإحداث يوم عالمي لمناهضة خطاب الكراهية، وأعطته تعريفًا أوليًا على أنه: “أي نوع من التواصل، بالقول، بالكتابة أو بالفعل، يستخدم لغة تمييزية تحقيريّة تهجّمية عند الإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس هويّته، أي بعبارة أخرى على أساس دينه أو عرقه أو جنسيته أو لونه أو نوعه الاجتماعيّ أو أي عامل آخر يحدّد هويّته”[2]. وبالضرورة فإن خطاب الكراهية وفقًا لهذا التعريف يحيل إلى انتهاك الحقوق التي أقرتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، سواء على مستوى الدول والمنظمات والمؤسسات، أو على مستوى الأفراد. خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتنامي اللغة المتداولة عبرها التي تحض على العنف والكراهية، أو ممارسة أنماط التعصب والتطرف والحث على اجتثاث المختلف فكريًا أو سياسيًا أو جنسيًا بطريقة لغوية بداية، وتصل للفعل والاجراء حياتيًا وسلوكيًا.
* الكراهية ودور التربية والتأهيل النفسي
تعمل نماذج التعليم والتربية والتأهيل والعلاج النفسي للحد من تنامي سلوكيات الانسان السلبية بطرق إجرائية متعددة. وتعمل منهجيًا على تعديل السلوك الإنساني المحمل بالمشاعر والانفعالات السلبية، إلى سلوكيات إيجابية عبر طرق علاجية وارشادات سلوكية قد تصل إلى درجة الحالات الإجرائية والقانونية؛ كتلك التي حاولت اليونسكو تقديمها للحد من استيعاب خطاب الكراهية وعلاجها وفق القانون والشرعة الدولية لحقوق الانسان[3]. والسؤال التلقائي هنا: هل تكفي التربية والتأهيل النفسي علاجًا؟ وهل يمكن لتلك الحالات الإجرائية أن تمثل حلًا رادعًا وجذريًا لها؟ فحيث تولي المنظمات الحقوقية أهمية كبرى للتأهيل النفسي والتربوي للحد من خطاب الكراهية هذا، إلا انها تفترض علاجه في دول ذات مؤسسات قانونية قائمة على مبادئ الحرية والحقوق الدستورية والقانونية المصونة. إذ يعمل القانون ومؤسسات الدولة على صيانة الحقوق العامة والخاصة، والتي بدورها تعمل على تخفيف حدة الانفعال السلبي وبالضرورة علاج الضرر النسبي المتأتي من خطاب الكراهية من خلال تحقيق العدالة والإنصاف، وعلاج المتضررين منه وإعادة تأهيل أو عقاب المسببين له.
بينما في دول تتنامى فيها الفوضى وحمى الصراع الدموي دون حلول راهنة أو قريبة، ويكون القانون فيها أسير سلطات القوة والقهر كما نعيش في سورية وغالبية دول الشرق. حيث تُهضم الحقوق ويُسحق أصحابها، وتزداد المشاعر السلبية احتقانًا، دون أن تجد لها متنفسًا، ما يجعل حق الوجود بذاته حقًا منقوص المقومات المادية والمعنوية. وبالتالي تصبح كل الحالات الإجرائية المعنونة بالحق الإنساني العام منقوصة البعد المادي في التحقق وهو البعد القانوني. وبالضرورة تزداد معه تنامي لغة وخطاب الكراهية، وتصبح سببًا بدلًا من أن تكون نتيجة تستحق العلاج من الجذر! فكيف وإن بقيت مسبباته ومحفزاته قائمة ومتنامية دون تفريغ شحناتها بالوصول لحق عام، كما في الحالة السورية ودول الشرق الأسير، في بحثها الدؤوب عن تحقيق ذلك في دولة الحق والقانون الدستورية! هنا يصبح سؤال العلاجات النفسية والتربوية على أهميته، شرط لازم وغير كاف في العلاج، إذ يتناول الحالات الفردية ولا يمكنه الولوج للمجتمع بعمومه. ما ينقلنا لشروط الفعل المجتمعي والسياسي، ومنعطفات التغيير اللازمة في بنية الدولة والسلطة الحاكمة، وهذا ما تمر به دول المنطقة لليوم دون حلول راهنة أو قريبة، والتي باتت بعيدة المنال وكأنها حق منقوص لوجودهم الذي يستحق أن يكون خلاف ذلك!
* الحقوق وخطاب الكراهية
حيث يبدو سؤال خطاب الكراهية في مستوياته السيكولوجية والثقافية لا تكفيه مقالة رأي، بقدر مؤسسات بحثية وندوات حوارية عدة، لكن من المهم إلقاء الضوء على دلالات خطاب الكراهية هذا. تلك التي تبدو ظاهريًا على أنها مباشريه ولحظية، إلا أنها في خلفية المشهد ذات دلالات غير مرئية وعلامات فارقة، تشير إلى الحق المنقوص في التحقق بعمر سنوات المسار الشاق والتحولات الكبرى التي تعيشها دول المنطقة ومنها سورية. وهو عنوان بحثي وحواري عريض لدول مجاورة حاولت العمل عليه طويلًا، والذي كان بإحدى إحالاته المنهجية العمل على تحقق التنوع المجتمعي كأمر طبيعي لابد من الاعتراف به مبدئيًا، كما في حالة العراق مثلًا. ففي مؤتمر البحرين عام 2018، أفادت ندى جارالله العمار إلى دور الاعلام في الحد من ثقافة الكراهية ونشر ثقافة الاعتدال وذلك من خلال العمل على “بناء مجتمعات متناغمة تعيش بسلام هو ليس مجرد طموح للشعوب بل حق من حقوقها المغتصبة”[4].
حق الوجود في ظل دولة حقوقية ودستورية، تكفل حرية الرأي وتصون الحقوق واختلاف الرؤى وتعمل على تعزيز المشترك بين المختلفين في واقع عام، هو إحالة سياسية ومنهجية لمفهوم المواطنة. والمواطنة التي نحتكم لإمكانية تحققها نظريًا في مجتمعاتنا، هي حالة معاشة ومتحققة في دول العالم المتقدم، هي مفهوم الشخصية العمومية كقاسم مشترك لكل الخصوصيات الفردية والتكوينية الأهلية والمدنية والسياسية المنضوية في دولة حسب جان جاك روسو[5]. المفهوم الذي يعتني بالخصوصية ويقر بالعمومية، ويفرد المساحات الواسعة للمؤسسات القانونية والتربوية في صيانة الحقوق والحريات، والتي بدورها تقلل أو تحد من انتشار خطاب الكراهية، وهذا ما لم يتحقق بعد للسوريين لليوم! فكيف وأن حجم الكارثة السورية وعبئها الثقيل على النفوس أحال غالبية السوريين لمواقع متعددة المظلومية أقلويًا وأكثريًا، سياسيًا واجتماعيًا، ووجوديًا أيضًا حين تنتزع البشر من بيوتها وتاريخها وتفرض عليها احدى خيارات العسف السياسي والوجودي: الموت قتلًا، أو التهجير قسريًا، أو البقاء كرعاة وعبيد تحت قبضة سلطات الرعب والموت.
من المهم فكريًا ومنهجيًا التوجه لمسببات خطاب الكراهية المتنامي مفعوله في الزمن الحاضر بين الأوساط السورية. فمن حيث المبدأ، الإنسان بعمومه وبساطته ميّال للحق الطبيعي وقابل للتوافق حول شكل نيله وتعاطيه سلميًا، وهو حال الغالبية من الشعب السوري الذي ذاق ويلات العنف، والممارسات القهرية من كل صنوف السلطة والميليشيات والنزاعات الدموية، والتي أحالته لبحر من الكوارث تتقاذفه الأجندات الدولية، وتتلاعب في مصيره وحقه المشروع في بناء دولته. الإنسان السوري المتسلح بالصبر والتسامح قادر على الوصول لهويته الإنسانية بفطرته الإنسانية الأولى، إذا ما تباعدت عنه المشاريع الإقليمية والدولية، والتي تتشارك مع نماذج الصراع المحلية العسكرية والسياسية والدينية في تقويض حق السوري في أمانه وحياته ووجوده واستحقاق التغيير السياسي الذي يفضي لدولة الحق والقانون. وهذا ما يحيلنا للبحث المعمق في مسببات تنامي خطاب الكراهية، والمتوّج:
– سياسيًا بعدم الاعتراف بالحق في المشاركة في تقرير المصير والحكم،
– معرفيًا بالنفي المطلق للفكر المخالف،
– وجوديًا بالاجتثاث من الوجود الطبيعي للحياة.
– وعدم كفاية المناهج التربوية والنفسية في علاجه.
ما يستلزم إجراء دراسات بحثية مركزة نوعية وكمية تتناول مسببات خطاب الكراهية وآليات علاجها، سواء على المستوى العام المفترض بالتغيير السياسي أو على المستويات الأخرى المتعلقة بضرورة تخفيف نزعات العداء والكراهية التي سببتها الكارثة السورية، واعتبار أن السوري بعامة هو من تطاله شتى نماذج المظلوميات. وبالضرورة العمل البحثي في النقاط التالية مفردة أو مجمع:
– تنامي المظلوميات الخاصة الطائفية والعرقية والثقافية على حساب المظلومية السورية العامة.
– نزعات التفوق الأيديولوجي المتمثلة بالرفض السياسي القطعي للاختلاف، وتقديم الانكماش والانفلاق على الانفتاح والحوار.
– تغييب المشروع الوطني والتداخل غير المشروع بين الهوية الذاتية السورية والمشاريع الدولية، والتي تشير “إلى تداخل الذات الداخلية مع العالم الخارجي أو مع ذوات أخرى”[6]، والمتمثلة بارتهان الحل السياسي للتدويل بطرق متباينة، الروسية “السوتشية”، أو الأممية “الجنيفية” والمنقوصة للقرار 2254/2015 لحكومة انتقالية غير قابلة للتنفيذ لليوم، فيما تعمل مصالح الدول على مصالحها ذاتها دون الأخذ بمصالح وحق السوريين العام!
– الدلالات القهرية لتنامي ثقافة الكراهية ونشرها عبر الاعلام الموجه والتفريق بين الأقليات والأكثرية على أساس مذهبي يلغي شرط التعاقد الوطني على مفهوم المواطنة أولًا، ويلغي التنوع المجتمعي كحق وجودي ثانيًا، ويحيل الجميع لنزعة هيمنة مركزية ذات سطوة تفترض البرهان عليها جزافيًا.
تحيل هذه المركبات والتي لا تستنفذ غيرها، لمولدات خطاب الكراهية: تعزيز المظلومية، العمى الأيديولوجي، غياب الدولة، واستفحال القهر والعجز النفسي. وبالضرورة تحيل إلى الحق المنقوص المولد للعنف اللغوي خطابًا وسلوكًا متعدد الوسائل والطرق.
ختامًا وليس آخرًا، حسب غرين برينتن في كتابه تشريح الثورة “إن الناس لا يتوقعون الثورة لأنفسهم بل لأطفالهم”[7]، ما يجعلهم يبحثون لحظيًا وزمنيًا عن كل مفردات الحل السياسي اليوم، والانتقال من سلطات الاستبداد لدولة الحق والقانون حيث التعاقد الوطني وتحقيق السلام والعدالة والحرية، ضرورة لازمة لتحقيق قاعدة المستقبل التي تمكن الأجيال القادمة من العيش بسلام، وتفتح الطريق لإمكانية الاستعانة بالمناهج التربوية والنفسية والطرق الإجرائية في الحد من خطاب الكراهية، وتخفيض مستواه من مستويات عامة إلى مستويات فردية سهلة العلاج والاحتواء.
المراجع:
[1]. بارت، رولان، درس السميولوجيا، ترجمة بنعبد العالي، (توباقال للنشر، المغرب، 1993).
[2]. أخبار الأمم المتحدة، الأمين العام يطلق استراتيجية الأمم المتحدة لمكافحة خطاب الكراهية، 15/6/2019، https://www.un.org/ar
[3]. اليونسكو، مكافحة خطاب الكراهية في الانترنت، باريس، 2015.
[4]. جارالله العمار، ندى، دور الاعلام في الحد من ثقافة الكراهية ونشر ثقافة الاعتدال، مؤتمر البحرين، 1/2018.
[5]. روسو، جان جاك، في العقد الاجتماعي، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011).
[6]. جميل حمداوي، سيميوطيقا التوتر، المجلة الثقافية الجزائرية، 7/8/2013.
[7]. برينتن، غرين، تشريح الثورة، ترجمة سمير الحلبي، (كلمة للنشر، دبي، 2009).
(*) جمال الشوفي: دكتوراه في الفيزياء النووية، كاتب وباحث في الدراسات الفكرية والثقافية والسياسية، مدرس سابق، جامعة دمشق، له العديد من الكتب والأبحاث المنشورة.